ترجمة وتحرير نون بوست
إن الرابط الذي طال أمده بين اليمين السياسي ومختلف الكنائس المسيحية ينهار في جميع أنحاء أوروبا. هذا إلى حد كبير بسبب أن اليمين السياسي، مثله مثل المجتمع الأوروبي، أصبح أكثر علمانية من ذي قبل. لكن هذا على العكس، لا يشير إلى تقدم من أي نوع، فالخطاب اليميني، مدفوعا بالمشاعر المعادية للإسلام، يهدد حرية الدين، فضلا عن تهديده العلمانية وتقاليد الديمقراطية الأساسية.
حتى الخمسينات من القرن الماضي، كانت القيم الثقافية التي دعمها اليمين في أنحاء أوروبا لا تختلف كثيرا عن القيم الدينية التقليدية التي يدعمها الكاثوليك أو البروتستانت. تم تجريم المثلية الجنسية في العديد من دول أوروبا، كما أن الأطفال الذين يولدون خارج نطاق الزواج يحظون بحقوق أقل من الأطفال “الشرعيين”، القانون في معظم تلك البلدان كان يحمي القيم العائلية، كانت هناك رقابة على بعض أشكال المواد الإباحية وكان القانون يجرم ما يسميه الفرنسيون mauvaises moeurs أو “الأخلاق الفضفاضة” بتعبير حرفي.
إلى أن جاءت الستينات، ومعها الثورة الثقافية التي اجتاحت المجتمعات الأوروبية مع قيمها الجديدة: الحرية الجنسية، والتي تفرق بين ممارسة الجنس من أجل الجنس أو الجنس من أجل الإنجاب في إطار الزواج التقليدي، وأيضا حقوق المرأة، وحقوق مثليي الجنس. في البداية كان يُنظر إلى هذه الآراء على أنها من اختصاص اليسار السياسي، لكن في السنوات اللاحقة، أصبحت تلك القيم، قيم التيار السائد في أوروبا.
اليوم، حتى الأحزاب المحافظة تشارك في تبني تلك القيم. وإذا قلنا أن الناخبين المحافظين، خاصة في الجنوب الأوروبي، لا يزالون يخافون من مثليي الجنس على نطاق واسع، إلا أنهم لم يعودوا يرفضون النسوية أو بعض حقوق المثليين. لقد أيد أعضاء بارزون في حزب المحافظين البريطاني زواج المثليين، لكن الاتحاد الفرنسي من أجل الحركة الشعبية، والمسيحيون الديمقراطيون في ألمانيا ما زالوا يرفضون، لكن أنصار الحزبين بدأوا في تبني قضايا مثليي الجنس بشكل واضح أو دعمها، كما نأت الأحزاب الحاكمة في إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وبولندا بأنفسهم عن الكنائس المهيمنة في هذه البلدان.
حتى الأحزاب الشعبوية، والتي غالبا ما تتحدى تلك الأحزاب والآراء المحافظة حول قضايا مثل الهجرة، تسير في نفس الاتجاه. حزب التقدم في النرويج، وحزب الحرية في هولندا يدافعان عن حقوق مثليي الجنس بشكل صريح. أما في فرنسا فقد خففت الجبهة الوطنية موقفها من الإجهاض، حزب الاستقلال البريطاني من جانبه يؤيد “توسيع الشراكة المدنية”، أي الزواج المدني حتى لو كان بين مثليي الجنس، من حيث إعطاءه مكانة متساوية مع الزواج التقليدي.
كل هذا قد يبدو دليلا على مسيرة عامة للمجتمع نحو الليبرالية، لكن هناك خدعة في الأمر: حتى مع تحرك اليمين الأوروبي بعيدا عن القيم الأساسية للكنيسة الكاثوليكية والعديد من الطوائف البروستانتية، يكشف مع ذلك أن أوروبا مسيحية أصولية. في عام 2003 ناضل العديدون من أعضاء حزب الشعب الأوروبي، ائتلاف يمين الوسط في البرلمان الأوروبي، ناضلوا من أجل تعديل ديباجة الدستور الأوروبي. لكن المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل أشارت إلى “مسيحية” أوروبا، وفي الوقت نفسه قال ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، “أعتقد أننا يجب أن نكون أكثر ثقة حول وضعنا كدولة مسيحية”، الرجل يقول ذلك رغم أنه دعم إقامة حفلات عقد القران لمثليي الجنس في الكنائس.
إن مثل هذه المواقف قد تبدو وكأنها تشير إلى تناقض صارخ. لكن هذا التناقض يبدأ في التلاشي عندما نبدأ في التفكير في الغرض من إنشاء تلك الأحزاب: اليمين الأوروبي يدافع عن الهوية المسيحية لأوروبا، ليس لأنه يريد أن ينشر المسيحية، لكن لأنه يريد محاربة الإسلام ورفض اندماج المسلمين في المجتمع، أو بحسب ما تسميه “الجبهة الوطنية” الفرنسية: “أسلمة أوروبا”.
لقد أصبحت الأماكن العامة في أوروبا ساحة قتال رئيسية. هناك حظر “الحجاب، وغيره من علامات الانتماء الديني” في مدارس فرنسا، وحظر النقاب في شوارع فرنسا وبلجيكا، كما أن هناك جهودا حقيقية تُبذل لمنع بناء المساجد في جميع أنحاء أوروبا، أو حتى بناء المآذن كما حدث في سويسرا. إن الهجمة على الإسلام في أوروبا تصل إلى أضيق الخصوصيات، فهناك حملات لحظر الختان أو حظر الطعام الحلال في النرويج.
الجدير بالذكر أن هذه التدابير يتم تسويقها باسم حماية المسيحية، وليس العلمانية الليبرالية. يُقال إن الحجاب يسيء إلى حقوق المرأة، الختان يسيء إلى حقوق الطفل، الذبح الحلال يسيء إلى حقوق الحيوان. آيان هيرسي علي، وأوريانا فالاتشي، اثنتين من المتحدثين الأصوليين عن المقاومة النسوية للإسلام، أصبحتا مقربتين للغاية من اليمين المحافظ في إيطاليا (فالاتشي)، وهولندا والولايات المتحدة (هيرسي علي).
إن هذا الخطاب المعادي للإسلام ينتشر ليصبح التيار السائد. الحكومة الائتلافية في هولندا تطلب من طالبي اللجوء والمهاجرين التوقيع على موافقتهم على “القيم التقدمية” قبل الموافقة على منحهم الإقامة في هولندا. كما يُسأل المتقدمون عن موقفهم من الاختلاط بين الذكور والإناث في المدارس، أو عن المساواة بين الجنسين، العري في الأماكن العامة وعن مثليي الجنس. على الرغم من أن جميع المتقدمين يخضعون لمثل هذه الأسئلة، إلا أن هناك شك حقيقي من أن هذه الأسئلة -بالنظر إليها مع خلفية التركيبة السكانية للمهاجرين إلى أوروبا- قد صُممت لتحدي المسلمين المتدينين. هذه التدابير غير عادلة للمسلمين، كما تنتهك الالتزام المعلن للدول الأوروبية بالتعددية الثقافية والفصل بين الكنيسة والدولة.
أكثر من ذلك، أن تلك الحملات المضادة لطقوس مثل الذبح الحلال أو الختان، تصل أيضا إلى اليهود. في فرنسا، مارين لوبان من الجبهة الوطنية دعت إلى حظر الحجاب، والقبعة اليهوية في الأماكن العامة. في هذا الصدد: الدفاع عن الهوية المسيحية لأوروبا يأخذ شكلا قبيحا للغاية: إنه يُعيد ما كانت تفعله الأنظمة المعادية للسامية في ألمانيا النازية أو في دول أوروبية أخرى في ثلاثينيات القرن الماضي. ليس المسلمين فقط، لكن هناك محاولات أيضا لإشعار اليهود أنهم غرباء عن أوروبا.
كان من المنطقي، ومن المفارقة كذلك، أن تبدأ مجموعات يهودية في بناء تحالفات مع المسلمين. في ألمانيا عام 2012، احتشد المجتمع اليهودي حول قضية لعائلة مسلمة، رفضت المحكمة أن تسمح لهم بختان ابنهم، وأعلنت المحكمة المحلية أن الختان غير قانوني. وخلال الأسبوع الماضي، كتب نائب الأمين العام للمجلس الإسلامي في بريطانيا لصحيفة التلغراف يدافع عن طقوس الذبح الإسلامية. الأقليات الدينية في هذه الحالة لا تتنافر، بل تتضافر.
لكن هل ستفعل الكنائس الكاثوليكية والبروتسنتانتية الشيء نفسه؟ بعد كل شيء، منذ أن بدأ هجوم اليمين السياسي على الإسلام، وهو يتجلى في الغالب في شكل من الأشكال العدوانية من العلمانية. الكنائس يمكن اعتبارها تضررت بشكل جانبي من الهجمة على الدين بشكل عام. القانون الفرنسي يحظر الحجاب ويمنع كل الرموز الدينية بما فيها المسيحية، وفي بريطانيا أُلغي عام 2008، أُلغي قانون يعاقب على الكفر بالمسيحية بعد جدل ساخن حول ما إذا كان يمكن استخدام ذلك القانون ضد سلمان رشدي، مؤلف كتاب “آيات شيطانية”.
اليمين السياسي يدعي ارتداء عباءة المسيحية وليس قيمها، وهذا بحد ذاته خطر على الدين المسيحي، فهو يخاطر بتجريد الدين من روحانيته. في 2004، وبعد النداءات التي طالبت بحق معلمة مسلمة في ارتداء غطاء الرأس، سنت حكومة ولاية بادن فورتمبيرغ الألمانية قانونا يحظر المعلمين من ارتداء أي رموز دينية باستثناء تلك المعبرة “عن القيم والتقاليد التربوية والثقافية المسيحية والغربية”، نفس المنطق يظهر في قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالتصريح بعرض الصليب في المدارس الإيطالية على أساس أن ذلك رمز تاريخي وثقافي أكثر منه تعبير عن معتقد معين. ولكن بهذا المنطق، فالدفاع عن المسيحية كهوية ثقافية، هو نوع من العلمنة للمسيحية ذاتها.
حتى الآن، ساهمت الكنائس المسيحية في هذه المشكلة. لأنها نأت بنفسها بشكل واضح عن الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تبنت الفكرة المسيحية لمنع دمج المسلمين في المجتمعات الأوروبية، وبذلك فهي مكنت اليمين من المزيد من علمنة الدين، وكذلك سمحت بخيانة القيم الدينية باسم كراهية الأجانب، وباسم الدين ذاته.
في 2009، انتقد الكاردينال كريستوف شونبورن، رئيس أساقفة فيينا، انتقد استخدام حزب الحرية النمساوي الصليب على الملصقات الانتخابية، وقال إن ذلك قُدم على أنه رمز ضد الديانات الأخرى، وليس تعبيرا عن فلسفة المسيح “حبوا أعداءكم”، مثل السيد شونبورن، على كنائس أوروبا التأكيد على القيم الأساسية لدياناتهم، بل إن عليهم أن يتجاوزوا ما فعله الرجل لمحاولة بناء تحالفات واسعة مع المسلمين واليهود لدعم حرية ممارسة الدين، أي دين.
الحال بالنسبة لحرية الدين ليس سوى جانب واحد من الديمقراطية التي تأتي لمصلح الجميع، للمؤمنين وغير المؤمنين على حدسواء، ولذلك حتى العلمانيين يجب أن يتبنوا تلك النظرة. الإساءة للعلمانية من قبل الأحزاب اليمينية في أوروبا لاستبعاد المسلمين أمر مخالف للديمقراطية بشكل جذري. إنها هجمة ليس فقط على الإسلام، أو على الأديان، بل على الحرية ذاتها.
المصدر: نيويورك تايمز