تحسّنُ صرف الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي في الأسواق الموازية (السوداء) بشكل مفاجئ، رغم استقرار سعر الصرف الرسمي الصادر عن البنك المركزي، أثار اهتمام شريحة واسعة من السوريين في الداخل والخارج، في ظل تأخر المركزي عن إجراءات مناسبة للحد من تفاوت سعر الصرف وغياب دور الحكومة.
واعتاد السوريون على وجود فارق بسيط بين سعر الصرف في السوق الرسمية والموازية، كون مكاتب الصرافة كانت تحافظ على هامش بسيط لتحقيق الربح خلال عمليات تصريف العملات، إلا أن وجود فارق شاسع بسعر الصرف دون التماس تغير موازي في أسعار السلع والمنتجات الغذائية والاستهلاكية أوقعهم في خسائر مالية مرهقة في ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية سيئة تعاني منها البلاد.
أسباب تحسن الليرة السورية
حافظ سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الليرة السورية على تسعيرة تراوحت خلال حكم النظام السابق في منتصف عام 2024 بين 14 و15 ألف ليرة سورية، في المصارف الحكومية والخاصة، ومكاتب الصرافة والحوالات المالية، لكنه ارتفع أثناء معركة ردع العدوان التي أطلقتها فصائل المعارضة مسجلًا 22 ألف ليرة سورية، فيما عاود للانخفاض عند حدود 13 ألف ليرة سورية منذ مطلع عام 2024.
إلا أنه انخفض مطلع فبراير/شباط الجاري في السوق الموازية (السوداء) إلى 7 آلاف و600 ليرة سورية؛ بعدما كان 11 ألف ليرة في نهاية يناير/كانون الثاني، بينما استقر في 7 فبراير/شباط عند 9 آلاف ليرة سورية؛ في المقابل تراوح سعر الصرف لدى مصرف المركزي 13 ألف و13 ألف و200 ليرة سورية.
يرجع الباحث الاقتصادي، يونس الكريم، أسباب تحسن الليرة السورية، إلى إلغاء القوانين والضوابط التي كان يفرضها النظام السابق على من يتعامل بغير الليرة في التبادلات التجارية والتسديدات النقدية للبضائع والمنتجات، بينما أتاحت الحكومة الجديدة تداول العملات الأجنبية في مختلف المعاملات.
وكان النظام السابق يمنع تداول العملات الأجنبية، وفي مقدمتها الدولار الأمريكي، وفق مرسوم تشريعي صادر عن رأس هرم السلطة آنذاك، فرض فيه عقوبة السجن لمدة سبع سنوات وغرامة مالية بمقدار قيمة ضعف المبيعات لأي نوع من أنواع التداول التجاري والتسديدات النقدية، بالعملات الأجنبية والمعادن الثمينة، فضلًا عن منع استلام الحوالات المالية بغير الليرة السورية.
لكن مع تجميد تلك القوانين نشطت تجارة العملات الأجنبية والصرافة والحوالات المالية في سوريا بشكل واسع، كرد فعل مباشر على السياسيات المفروضة سابقًا، ما حول تصريف العملات الأجنبية إلى مهنة رائجة للصرافين في بسطات على أرصفة الشوارع والساحات العامة.
ويضيف، خلال حديثه لـ “نون بوست”، أن سياسة الانفتاح على الإدارة السورية الجديدة ساهمت في تحسن الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، كون دمشق استقبلت وفودًا إقليمية ودولية، إضافةً إلى زيارات رسمية إلى بلدان عربية وأجنبية، توعدت بموجبها المشاركة في إعادة الإعمار وإزالة جزئية للعقوبات، ما حسن دور العامل النفسي لأداء الليرة السورية.
ويتابع، أن معادلة العرض والطلب لعبت دورًا مساهمًا، حيث تسببت زيادة الطلب على الليرة السورية في الأسواق وقلة العرض في رفع انخفاض سعر الدولار الأمريكي في الأسواق الموازية، بسبب الحاجة إلى التعامل بها في ظل عدم توفر فئات نقدية صغيرة من العملات الأجنبية.
وأصدرت الولايات المتحدة الأمريكية إعفاءً جزئيًا من العقوبات على المعاملات لمدة ستة أشهر لتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية، بينما يدرس الاتحاد الأوربي تخفيف العقوبات عن بعض الإدارات والهيئات السورية في إطار تحقيق الاستقرار.
قلة الليرة السورية
منع المصرف المركزي تصريف العملات الأجنبية في المصارف الحكومية والخاصة، مما أدى إلى إغلاق شركات ومكاتب صرافة وحوالات مالية، واضطرار أخرى إلى تسديد مستحقات التحويلات المالية وفق السوق الموازية أو العملة الأجنبية المحولة، في إطار إجراءات البنك المركزي لمنع التضخم وانهيار الليرة السورية.
وتُعرف سياسة البنك المركزي بـ”تجفيف السيولة“، وهي سياسة اقتصادية تتخذها السلطات الحكومية أو البنوك المركزية بهدف الحد من كميات السيولة المالية (عملة الدولة) المعروضة في الأسواق، إضافةً إلى ضبط أسعار المصارف ومحاربة التضخم الناجم عن كتلة المعروض النقدي.
وتتم إجراءات “تجفيف السيولة” عبر تحجيم الإقراض، وحصر السيولة المالية في المصارف، ورفع البنوك المركزية الاحتياطي الإلزامي للبنوك العاملة في الدولة، وتقييد عمليات السحب والإيداع، وتأخير صرف الرواتب، ووقف الإنفاق الحكومي، ورفع أسعار الفائدة لجذب السيولة.
وشملت إجراءات البنك المركزي جزءًا من الأدوات التي تستخدم لتجفيف السيولة في الأسواق، ما تسبب في تقليل المعروض من الليرة السورية، وانعكس على تسعيرة صرف الليرة التي ازداد الطلب عليها من قبل المواطنين.
ولعل أبزرها عدم ضخ رواتب لكامل الموظفين في القطاع العام، وعمليات التسريح الوظيفي، إضافةً إلى عدم صرف رواتب عناصر جيش النظام السابق التي كانت تشكل نسبة جيدة من السيولة المالية في الأسواق، حسب ما أوضح الباحث يونس الكريم.
كما يواجه موظفو القطاع العام صعوبة في الحصول على رواتبهم منذ ثلاثة أشهر على التوالي، بسبب تحديد المصارف سحب مبلغ 100 ألف ليرة سورية في اليوم الواحد لكل موظف، ما يدفعهم إلى مراجعة البنوك على مدار أيام والانتظار لساعات طويلة من أجل سحبها.
ويضيف، أن قلة الليرة تعود إلى دخول مناطق شمال غربي سوريا إلى التعامل بالليرة السورية إلى جانب الليرة التركية، كما شكلت الحوالات المالية بعد إتاحة الفرصة أمام اللاجئين السوريين للعودة أو زيارة بلادهم بهدف إعادة إعمار منازلهم وترميمها، أو المشاركة في استثمارات صناعية وتجارية، زيادة دخول القطع الأجنبي في سوريا على حساب توفر الليرة السورية.
ويشير، إلى أن السيولة في السوق ارتفعت من 30 ترليون ليرة في عام 2021 إلى 60 ترليون ليرة سورية في عام 2024، وتسد احتياجات السوق في تداول العملة، وبالتالي الليرة السورية موجودة لدى البنك المركزي، والقطاع المصرفي وشركات الحوالات لكن امتناع المركزي عن تصريف العملة أو سحبها بالليرة جعل السوق تحت رحمة شراكات الصرافة التي تتلاعب بأسعار الصرف.
آثار قريبة وبعيدة
تترتب على سياسة تجفيف السيولة النقدية لمكافحة التضخم وانهيار الليرة السورية، أثارٌ قريبة مباشرة تنعكس على حياة السوريين بشكل مباشر، وآثار بعيدة يمكنها أن تقلل من فرص تحسن الليرة بسبب دورها في تقويض عجلة الاستثمار.
يرى الباحث، يحيى السيد عمر، أن إدارة السوق النقدية في سوريا بـ “السلبية” لأن الليرة غير مستقرة، وقد تفقد أو تكسب 10 % من قيمتها في اليوم الواحد، دون وجود مبررات اقتصادية واقعية، مما يثير القلق حول عدم استقرار الصرف كون سياسة “تجفيف السيولة” تحدث آثارًا قريبة وبعيدة على السوريين.
فالقريبة انعكست بشكل مباشرة حيث تسببت في ضرر مختلف الأعمال، نتيجة صعوبة تسعير السلع والمنتجات، مما انعكس سلبًا على حركة الأسواق حيث ضاعف من ركود حركة البيع والشراء رغم من توفر السلع بأسعار أرخص مما كانت عليه في عهد النظام السابق.
وتابع، أنه على المدى البعيد تؤثر بشكل سلبي على التجارة لأنها تدفع أصحاب رؤوس الأموال إلى المضاربة وخسارة السوق الإنتاجي لرأس مال كبير وتحوله لسوق المضربة النقدية، ما يعني خسارة إضافية للاقتصاد السوري.
وأوضح، أن السياسات الحالية تقوض جهود الحكومة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يخص تحسين وضع المعيشة، بينما في القطاع الصناعي، فمن المفترض أن يتم حشد الجهود لدعم القطاع الإنتاجي، إلا أن هذا الواقع النقدي السلبي لا يحفز أبدًا على الاستثمار على المدى البعيد.
بينما يرى الباحث، يونس الكريم، أن سياسة المركزي تسببت في إيقاف أعمال القطاع الخاص نتيجة تجفيف السيولة بالمصارف وعدم منحهم أموال بالليرة السورية، وحول اعتمادهم على شركات الحوالات والصرافة التي لم تعتمد على التسعيرة الرسمية، وبالتالي أصبح المركزي شريكًا مع شركات الصرافة التي دفعت 20 مليون دولارًا أمريكيًا مقابل الحصول على ترخيص وامتيازات للتحكم في سوق الصرف الموازي وجمع الدولار من الأفراد بهدف تسديد الودائع.
واعتبر أن البنك المركزي يكرر سياسة “تجفيف السيولة” التي كانت سائدة خلال حكم النظام السابق، مشيرًا إلى أنها نتجت بعد اجتماع بشار الأسد مع لجنة النقد والتسليف بهدف تحسين الليرة، حيث كانت ميساء صابرين، حاكمة المصرف المركزي حاليًا، أحد أعضاء اللجنة آنذاك.
وفي عام 2021 اتخذت حكومة النظام السابق إجراءات تهدف إلى تقليل المعروض من الليرة السورية عبر سياسة “تجفيف السيولة” النقدية في الأسواق، شملت فتح حسابات مصرفية للبيوع العقارية والسيارات، وحددت شرط ايداع مبالغ في المصارف، بهدف امتصاص السيولة المالية، كما اتخذ اجراءات مماثلة خفضت سقف السحوبات المصرفية اليومية إلى مليوني ليرة سوريا بعدما كانت محدد بـ 15 مليونًا.
ويعيد المركزي تدوير خطط اقتصادية كان يتبعها النظام السابق بهدف تحسين أو الحفاظ على قيمة الليرة أمام الدولار، إلا أن تلك السياسات قد لا تحقق أية تغيرات في الوقت الراهن، وقد تهدد في انهيار الليرة كونها لا تراعي الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للسوريين.
ما وراء صمت المركزي؟
عدم تدخل البنك المركزي لفرض استقرار أسعار صرف الليرة السورية في الأسواق الموازية، رغم مرور أيام، يؤكد اتخاذه إجراءات تهدف إلى مراقبة السوق وتتبع الخلل وتنقل الأموال بين المحافظات السورية، في إطار الكشف عن الحسابات المرتبطة بالنظام السابق.
ويعمل البنك المركزي على تضييق الفجوة بين سعر الليرة السورية في النشرة الرسمية وسعرها في السوق الموازي، ومن المفترض أن يصدر قرارات تقضي بضخ العملة السورية في الأسواق مجددًا لإعادة استقرار سعر الصرف، حسب ما نقل موقع “صوت العاصمة“.
وفي أول تعليق رسمي، اعتبر وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال، باسل عبد الحنان، في تصريحات صحفية نقلتها وسائل إعلام محلية، الجمعة 7 شباط/ فبراير، أن ارتفاع وانخفاض أسعار الليرة السورية في الأسواق الموازية يعد وهميًا وناتج عن عمليات المضاربة بين التجار.
ويرى الباحث الاقتصادي، أدهم ضماني، أن سياسة تجفيف السيولة تهدف إلى دعم الليرة، لكن عدم تنفيذها بكامل أدواتها بسبب غياب أسعار الفائدة وأذونات الخزينة، والتعرفة الجمركية، وفرض الضرائب، يسهم في ظهور نتائج عكسية تظهر في انخفاض قيمة الليرة السورية.
ويضيف، أنها قد لا تكون ضمن خطة المركزي بناءً على تصريحات وزير الاقتصاد، لكن في حال كانت الخطة قائمة فإنها تمكنه من رصد حركة الأسواق بحيث إذا كان تحسن الليرة قائم على اقتصاد السوق أم على المضاربات، كما يمكن تحديد كمية المضاربات، والمصادر المحتفظة بالليرة السورية، وتتبع نقل الأموال بين المحافظات السورية.
وأوضح، أن القطاع المصرفي قطاع حيوي مؤطرًا بقوانين تخدم النظام السابق ولم تتضح خطة البنك في التعامل، لكن ما يبرر صمته أنه قد يكون يعمل على إعادة ترتيب البيت الداخلي مثل باقي القطاعات المنهارة من خلال تنظيم قوانين البنوك المصرفية، والإحصاء والثبوتيات، وكمية الأموال والنقود الموجودة بالليرة السورية والعملات الأجنبية بهدف حفظها وتثبيتها لمرحلة مستقبلية.