مع سقوط نظام الأسد وتوجّه العهد الجديد نحو بذل جهود حثيثة لرسم مشهد سوري جديد عنوانه الأبرز “الاستقرار وضبط الأمن”، أطلّ تنظيم داعش برأسه متوعدًا الإدارة الجديدة برسم قواعد مختلفة للعبة داخل سوريا بألوان من الحديد والنار.
فحسب بيان مصور نشره التنظيم على منصة تلغرام، اتهم فيه من يدعو لدولة مدنية في سوريا بأنهم “شركاء وعملاء لليهود والصليبيين وطاغية جديد”، متسائلًا عن سبب الخروج على نظام بشار الأسد إن كانت الثورة ستفضي إلى نظام حكم دستوري.
البيان المصور تزامن مع استغلال داعش المتغيرات السياسية والمناخ الأمني غير المستقر بعد سقوط النظام، وهو ما رآه التنظيم فرصة ثمينة لتجديد نشاطه وترتيب صفوفه، لا سيما أنه يعوّل على فشل الإدارة الجديدة في إدارة عدة ملفات أهمها: مسألة ضبط السلاح والنعرات المذهبية التي طفت خلال الأيام الأولى من ملاحقة فلول النظام البائد.
دمشق تريد سجون قسد
عقب زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى العاصمة التركية أنقرة ولقائه الرئيس رجب طيّب أردوغان، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إن الإدارة السورية ستتولى مسؤولية التعامل مع مخيم الهول بقرار مستقل، ونحن مستعدون لتقديم الدعم في مكافحة تنظيم داعش، كما نعمل على إنشاء آلية مشتركة مع العراق وسوريا والأردن لمكافحة التنظيم.
وضمن تصريحات أخرى سابقة، كان فيدان قد لفت أيضًا إلى أن للإدارة الجديدة في دمشق دور أيضًا في ذلك، مذكّرًا بأن “الإدارة الجديدة التي وصلت إلى السلطة في سوريا بعد الإطاحة بالأسد، كان لها دور كبير في قتال تنظيم داعش في سوريا”.
مشيرًا إلى أن “أنقرة مستعدة للعب دور في الحرب ضد داعش، ومراقبة السجون والمعسكرات القائمة”.
ومخيم الهول هو أحد المخيمات الواقعة على المشارف الجنوبية لمدينة الهول في محافظة الحسكة بالقرب من الحدود السورية العراقية ويضم عددًا كبيرًا من عائلات وأطفال مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، ويوجد فيه 50 ألف امرأة وطفل ونحو 7-8 آلاف معتقل.
ومن ضمن المخيم 20 ألف عراقي، وعدد كبير من السوريين، ونحو 200-300 مواطن تركي، ومن بينهم 4-5 آلاف هم عناصر تنظيم الدولة من دول أوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، وهؤلاء يشكلون ورقة ضغط رابحة بيد ميليشيا “قسد”، دائمًا ما ترفعها عند أي حديث يهدد مزاعم مشروعها الانفصالي، من قبل الإدارة الجديدة.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان، أن هناك استحقاقات جديدة اليوم، وهي أن عملية الانتقال السياسي حصلت فعليًا في سوريا، وبالتالي يجب أن تنتقل سوريا إلى عهد الاستقرار الكامل، ما يعني إنهاء داعش وليس فقط محاولة مكافحته.
“ويأتي ذلك بعد الإشراف المباشر على العمليات بشكل كامل مع قبل الإدارة المركزية في دمشق والتعاون مع تركيا والتحالف الدولي، ولا سيما أن قسد أثبتت خلال السنوات الماضية عدم قدرتها على التعامل مع هذا الملف بشكل فاعل حتى النهاية، فالمجموعات التي كانت تكافح التنظيم هي مجموعات خاصة مدربة من التحالف الدولي”، يضيف علوان.
دلالات كبيرة يحملها تسلّم الإدارة السورية الجديدة ملف داعش في شمال شرق سوريا، من إنهاء نفوذ قسد في المنطقة بشكل أساسي وما يمكن أن يؤدي ذلك لتقليل الحاجة إلى استمرار الوجود الأمريكي في المنطقة، إضافة إلى سحب ورقة المخيمات والمعسكرات التي كانت تستخدمها قسد كورقة ضغط سياسية وأداة للحصول على دعم دولي.
يرى الصحفي علي الأسمر، أن هذه الخطوة تعزز من شرعية الحكومة السورية الجديدة على المستوى الدولي، إذ تقدم نفسها كجهة قادرة على إدارة الملفات الأمنية الحساسة، مما يسهل قبولها كشريك أساسي في مكافحة الإرهاب، عدا عن إضعاف مبررات بقاء القوات الأمريكية، مما قد يؤدي إلى انسحابات تدريجية أو إعادة انتشار محدودة.
ويكمل الأسمر لـ”نون بوست”، من ناحية أخرى فإن تركيا، التي لطالما كانت معنية بإنهاء سيطرة قسد على شرق الفرات، قد ترى في هذه الخطوة توسعًا لنفوذها في المنطقة عبر تقاربها مع الحكومة السورية، ودعم تركيا لهذه العملية يعكس رغبتها في تحجيم دور المجموعات المسلحة التي تعتبرها تهديدًا لأمنها القومي، وبالتالي فإن هذا التعاون قد يتطور ليشمل ملفات أمنية أوسع تتعلق بالحدود بين البلدين.
لا يمكن تجاهل موقف قسد، التي يمكن أن لا تستسلم بسهولة لهذا التغيير، وقد تحاول تعطيله عبر تصعيد تعاونها مع الولايات المتحدة، أو حتى تسهيل عمليات هروب من المخيمات لإبقاء الضغط قائمًا، إلا أن نجاح هذه الآلية المشتركة -حسب الأسمر- يعتمد على مدى التنسيق الفعلي بين الدول المعنية، وإمكانية تحجيم النفوذ الأمريكي وقسد في شرق الفرات، وهو أمر ستحدده طبيعة التحولات السياسية والأمنية في الفترة المقبلة.
أمريكا تريد ضبط المشهد
تقول مصادر سياسية عراقية، إن واشنطن طلبت بإلحاح من الحكومة العراقية حلّ وحدات الحشد الشعبي العراقي، فبعد سقوط بشار الأسد بأيام قليلة زار بلينكن بغداد في زيارة غير معلنة حاملًا طلبًا واحدًا فقط، وهو حلّ الحشد الشعبي، والتصدي لنفوذ إيران في العراق.
وأضافت المصادر أن “بلينكن أبلغ رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بأن إسرائيل عازمة بقوة على توجيه ضربات للحشد الشعبي العراقي، وأن واشنطن راغبة في حلّ الحشد الشعبي لعدم جرّ العراق إلى مركز الصراع الحالي”.
بالمقابل تشير مصادر خاصة لـ”نون بوست” أيضًا إلى تحرك عناصر من داعش بالقرب من الحدود العراقية السورية ودخولها العراق على شكل دفعات خلال الشهر الفائت.
وأضافت المصادر أن عمليات التحرك تكون في أغلبها من جهة الباغوز، آخر وأهم معقل للتنظيم، وهي جهة تسيطر عليها من جهة العراق قوات الحشد الشعبي.
في سياق القلق من “داعش” في المنطقة، قال وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، أواخر شهر كانون الثاني الفائت، إن داعش أصبح أكبر، واستقطب مزيدًا من الأعضاء في الآونة الأخيرة، وسيطر على مزيد من الأسلحة بسبب انهيار الجيش السوري.
حسب دراسة حديثة نشرها “مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”، فإن تنظيم داعش وجد نفسه أمام تغيير مفاجئ لخريطة النفوذ في سوريا، وإجماع داخلي وخارجي على توفير الشروط لإعادة إعمار البلاد، ما يعني جعل مكافحته على رأس الأولويات.
وتضيف الدراسة أن التنظيم سيكون أمام أحد موقفين، إما سيناريو “الحشد والمواجهة” أو “التراجع والمغادرة” وهو المرجح في ظل سيطرة حركة طالبان على كابول في 2021، خلافًا للقراءات التي كانت ترجح عودة قوية لداعش خراسان، إضافة إلى خيبته في توقع انشقاقات داخل تحرير الشام، والتطويق الأمني لحدود سوريا وخاصة مع العراق.
بالنظر إلى ما سبق يبدو أن الولايات المتحدة ترغب في رسم مشهد مستقر للمنطقة كاملًا بما في ذلك سوريا والعراق، فحسب الباحث علوان يوجد آليات جديدة وطريقة تفكير جديدة في إدارة هذا الملف أمريكيًا، فإدارة ترامب اليوم عازمة على ضبط المشهد في العراق كما سوريا عبر حل الحشد الشعبي، والذي لا يمكن حلّه إلا بإلغاء ذريعة وجوده “تنظيم داعش”، وبالتالي استقرار المنطقة وتولي الحكومات المركزية في سوريا والعراق التعامل مع هذا الملف بالتعاون مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة.
ويختلف الباحث سمير العبد الله، مدير قسم تحليل السياسات في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، مع الباحث علوان، في أن التحالف الدولي قد يعيد النظر بموقفه ووجوده وسياسته في المنطقة ككل، وخاصة أن بعض الدول في التحالف الدولي وعلى رأسها فرنسا ترفض أي دور تركي في المنطقة بهذا الملف، لا سيما بعد التقارب الملاحظ مع حكومة دمشق.
لكن الحكومة الأمريكية كانت قد شاركت معلومات استخباراتية مع إدارة دمشق ساهمت في إحباط محاولة تفجير مقام السيدة زينب في ضواحي دمشق من قبل تنظيم داعش، حسب ما نقلت صحيفة “واشنطن بوست”، عن مسؤولين أمريكيين، وهو ما يعكس نية الولايات المتحدة في الانخراط والتعاون مع إدارة دمشق الجديدة ولا سيما في ملف مكافحة التنظيم على الأراضي السورية.
تحالف رباعي
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، كان قد أكد عن وجود نية (تركية، عراقية، سورية، أردنية) لاتخاذ خطوات مشتركة لمحاربة تنظيم الدولة “داعش” في المنطقة، عبر تعزيز التعاون بين وزارات الخارجية والدفاع وأجهزة المخابرات، واتخاذ إجراءات بشأن أمن الحدود.
من جهتها، كشفت الرئاسة العراقية أواخر شهر كانون ثاني/ يناير الفائت، عن تفاصيل هذا المقترح الذي قدمه وزير الخارجية التركي خلال زيارته العاصمة العراقية بغداد، ويتعلق بالتعاون في مجال مكافحة التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها تنظيم “داعش”.
وقال بيان الرئاسة العراقية: “دعا وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى تحالف يغطي العراق وسوريا والأردن وتركيا من أجل محاربة تنظيم داعش الإرهابي، والقضاء على وجوده في المنطقة وتجفيف موارد تمويله.”
بيان الرئاسة العراقية أطلق العنان لصحيفة حرييت التركية، التي أشارت إلى أن هذه البلدان الأربعة لديها حدود مشتركة، وعليه فإن الآلية الأمنية المشتركة ستوفر أيضًا أمن الحدود مما سيعمل على تعزيز الأمن وترسيخه مع مرور الوقت.
وبحسب الجريدة، فإنه مع تطبيق هذه الآلية لن يكون هناك حاجة لأي قوى وجهات فاعلة من الخارج بالمنطقة (في إشارة إلى الولايات المتحدة والتحالف الدولي)، ولن تحتاج هذه الجهات الخارجية إلى أي هياكل خارج هذه الدول، ولن تكون هناك حاجة للتعاون مع المنظمات الإرهابية من أجل مكافحة تنظيم آخر.
من المتوقع أن يتخذ التحالف الرباعي عدة أشكال، أبرزها التنسيق الاستخباراتي وتبادل المعلومات حول تحركات الخلايا النائمة في المناطق الحدودية، والتنسيق لضبط مصادر تمويل التنظيم، وإنشاء غرفة عمليات أمنية مشتركة لتتبع أنشطة التنظيم، كما يمكن تنفيذ عمليات عسكرية وأمنية مشتركة في المناطق التي لا يزال لداعش فيها نشاط، مثل البادية السورية والمناطق الحدودية بين سوريا والعراق، باستخدام الطائرات المسيّرة، والاستهدافات الدقيقة المبنية على معلومات استخباراتية، يقول الصحفي علي الأسمر.
ويضيف، أن أحد الجوانب المهمة لهذه الآلية هو ضبط الحدود لمنع تسلل المقاتلين وتهريب الأسلحة، وهو أمر يتطلب تعزيز التعاون بين العراق وسوريا، خاصة في صحراء الأنبار والبادية السورية، وكذلك بين سوريا والأردن لمنع عمليات التهريب عبر حدودهما.
ومن جهة أخرى، فإن إعادة هيكلة ملف مخيمات داعش ستكون ضرورية، إذ يمكن نقل مسؤولية إدارة هذه المخيمات من قسد إلى الحكومة السورية بإشراف منظمات دولية، بهدف تسهيل عمليات إعادة التأهيل لمن يمكن دمجهم في المجتمع، أو تقديم محاكمات عادلة للمقاتلين المتورطين بجرائم إرهابية.
تحديات التحالف الرباعي
في حديثه لـ “نون بوست”، يشير الباحث سمير العبد الله مدير قسم تحليل السياسات في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، إلى أن التعاون الرباعي سيواجه مجموعة من التحديات وعلى رأسها الثقة بين الأطراف، واختلاف الأولويات بين الدول، فتركيا تريد القضاء على قسد، وحكومة دمشق تريد استعادة السيطرة على كامل التراب السوري، وكذلك مسألة التعاون والتنسيق مع التحالف الدولي، وأخيرًا احتمالية ظهور تنظيمات جديدة مشابهة مثل داعش.
إلا أنه في حال تنفيذ هذه الآلية -حسب العبد الله- قد يتقلص خطر داعش لكنه لن ينهي وجوده بشكل كامل، خاصة إذا لم يتم التعامل مع الأسباب الجذرية لظهور التنظيم، كما أن نجاحها يعتمد على مستوى التعاون الفعلي بين هذه الدول، وهو أمر غير مضمون بالنظر للتوترات السياسية القائمة.
ويتشاطر الصحفي الأسمر، الرأي مع العبد الله، في أن هذه الآلية تبدو واقعية وممكنة التنفيذ، لكنها تواجه تحديات كبيرة، أبرزها بقاء الخلايا النائمة لداعش، التي لا تزال قادرة على تنفيذ هجمات متفرقة، مما يتطلب جهودًا أمنية مستمرة.
“بالإضافة إلى ذلك، فإن الموقف الأمريكي غير واضح بعد، وقد لا يكون سعيدًا بأي تنسيق أمني بين سوريا وتركيا والعراق والأردن، خاصة إذا أدى ذلك إلى تقليل النفوذ الأمريكي في المنطقة، عدا عن أن عودة داعش بشكل جديد ليست مستبعدة، فالتنظيم قد لا يعود بشكله التقليدي، لكنه قد يتحول إلى نموذج أكثر تشددًا من خلال الذئاب المنفردة والخلايا النائمة”، يختم الأسمر حديثه.