يتوجه اليوم، السبت الثامن من فبراير/شباط الجاري، الوفد المفاوض الإسرائيلي إلى العاصمة القطرية الدوحة، للتباحث حول المرحلة الثانية من اتفاق غزة الذي دخل حيز التنفيذ في التاسع عشر من يناير/كانون الثاني الماضي، وسط شكوك حول احتمالية التوصل إلى نتائج إيجابية في ظل العراقيل التي تعترض مسار المفاوضات.
وكان يُفترض -بحسب بنود الاتفاق- أن تنطلق مفاوضات المرحلة الثانية في اليوم السادس عشر من دخول الاتفاق حيز التنفيذ، أي الاثنين، الثالث من الشهر الجاري، إلا أن الوفد الإسرائيلي أرجأ توجهه للدوحة حتى انتهاء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن، والتي استغرقت خمسة أيام، من 2 – 6 فبراير/شباط، التقى خلالها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وقد فجَّر ترامب خلال تلك الزيارة، وعلى هامش المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نتنياهو، الثلاثاء 4/2/2025، مفاجأة من العيار الثقيل بالكشف عن مقترحه العنصري لتهجير سكان غزة إلى بعض الدول المجاورة، والحديث عن استيلاء الولايات المتحدة على القطاع وتحويله إلى ما أسماه “ريفيرا الشرق الأوسط”، وهو المقترح الذي أثار ضجة كبيرة وقوبل برفض واسع النطاق لما ينطوي عليه صراحة من نية مبيتة لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها وإحياء أحلام الصهيونية في التهجير القسري للفلسطينيين.
وأثار هذا المقترح -الذي وصفه السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي بأنه لا يمكن أن يصدر إلا عن رجل فقد عقله تمامًا، والذي جاء بعد أقل من 24 ساعة من تصريحه بأنه لا ضمانات بأن وقف إطلاق النار في غزة سيصمد- حالة من الترقب والقلق بشأن المرحلة الثانية من الاتفاق ومدى التوافق بشأنها ودخولها حيز التنفيذ بعد انقضاء المرحلة الأولى المقرر لها بداية مارس/آذار القادم.
الفريق المفاوض.. وفد بلا صلاحيات
وفق ما ذكرت وسائل الإعلام العبرية، فإن الوفد الإسرائيلي سيذهب إلى الدوحة مساء اليوم السبت، للبدء في جولة جديدة من المباحثات مع المقاومة الفلسطينية والوسطاء حول المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، مع استكمال الترتيبات المتعلقة بالمرحلة الأولى والعمل على إزالة العقبات التي تعترضها في ظل الخروقات الإسرائيلية المُرتكبة في القطاع.
غير أن الوفد المتوقع توجهه إلى العاصمة القطرية لا يضم رؤساء الأجهزة الأمنية مثل رئيسي الشاباك والموساد أو حتى ممثلين عن المؤسسة العسكرية كما كان في السابق، فهو وفد تقني في المقام الأول، منزوع الصلاحيات ومجرد من أي ثقل يسمح له بالحديث عن المرحلة الثانية من هذا الاتفاق، وهو ما أثار الشك حول جدية الحكومة الإسرائيلية في المضي قدمًا بتنفيذ بقية المراحل.
إرسال الوفد بتلك التشكيلة الخالية من العناصر الأساسية، والمجردة من أي نفوذ على طاولة المفاوضات، يأتي في سياق مساعي نتنياهو إرضاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والوفاء بالتعهد الذي منحه لمبعوثه ستيفن ويتكوف، فهو يحاول كسب المزيد من الوقت عبر استراتيجية التسويف التي يجيد توظيفها لخدمة أهدافه.
ومن المتوقع أن يجلس فريق التفاوض الإسرائيلي خلال تلك الجولة بصفة استماعية في المقام الأول، من باب الحضور المشرف، دون التطرق إلى أي من النقاط الحساسة في الاتفاق، ناهيك عن الدخول في تفاصيل المرحلة الثانية، وذلك انتظارًا لمخرجات الاجتماع المزمع عقده في تل أبيب، الثلاثاء الحادي عشر من الشهر الجاري، للمجلسين السياسي والأمني الإسرائيليين، لبحث التفاهمات الخاصة باستكمال مراحل الاتفاق من عدمه.
مفاوضات معقدة
منذ الوهلة الأولى، يعلم الجميع أن مفاوضات المرحلة الثانية ستكون أكثر صعوبة وتعقيدًا من الأولى، كونها تنطوي على مسائل وبنود هي في الأساس محل خلاف داخل الحكومة الإسرائيلية، لاسيما تلك المتعلقة بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من مناطق القطاع والالتزام بالبروتوكول الإغاثي لإنقاذ حياة الشعب الفلسطيني، ما يعني عمليًا إنهاء الحرب في القطاع بشكل نهائي.
وكانت المرحلة الأولى، رغم تلبيتها بصفة عامة مطلب الكيان المحتل الأبرز وهو إطلاق سراح عدد من الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، قد شهدت العديد من الخروقات الإسرائيلية، والتي تأرجحت بين معاودة القصف والانتهاكات الإنسانية ومنع دخول شاحنات المساعدات بالكم والكيف المتفق عليه، هذا بخلاف تأخير الاحتلال عودة النازحين لمناطق الشمال لمدة يومين بذريعة خرق المقاومة للصفقة وعدم تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود، وهو التأخير الذي نجح الوسطاء في إنهائه عقب التوصل إلى حل وإطلاق سراح الأسيرة.
وعكست تلك الخروقات والانتهاكات التي تجاوزت المئات حسب بعض التقديرات نوايا المحتل الخبيثة بشأن عرقلة الاتفاق واختلاق ذرائع إفساده خاصة بعد الزلزال الذي أحدثه داخل الائتلاف الحاكم وإجباره بعض الأحزاب وعدد من الوزراء على إعلان انسحابها من الحكومة والتلويح بورقة إسقاط الائتلاف ومن ثم إسقاط نتنياهو بشكل شخصي.
ويدخل الفلسطينيون والوسطاء تلك الجولة من المفاوضات وهناك حالة من الضبابية تخيم على المشهد، إذ لا يلوح في الأفق أي بوادر إيجابية من قبل المحتل بشأن الإقدام على تلك الجولة بسلاسة، ازداد الأمر تعقيدًا بعد التصريحات التي أدلى بها ترامب والدعم المطلق الذي أعلن عنه للكيان المحتل ومداعبته أحلام الصهيونية في تهجير الفلسطينيين والتمهيد لإقامة وهم “إسرائيل الكبرى”.
أي تداعيات لمقترح ترامب؟
حين انخرط الإسرائيليون في مفاوضات إبرام صفقة التبادل التي دخلت حيز التنفيذ في التاسع عشر من يناير/كانون الثاني الماضي، كانوا مدفوعين بضغوط قوية من ترامب الطامح في تصفير الأزمات قبل تسلمه السلطة رسميًا من جانب، وإدارة سلفه جو بايدن الباحث عن خروج يحفظ ماء وجهه من جانب أخر، في ظل الانتقادات الحادة التي تتعرض لها الولايات المتحدة جراء الدعم المطلق للكيان المحتل في حرب الإبادة التي يشنها ضد سكان غزة، خاصة بعدما وصلت الحرب ميدانيًا إلى طريق مسدود في أعقاب فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه المعلنة سابقًا.
وأمام تلك الضغوط التي تزامنت مع ضغوط أكثر شراسة على المستوى الداخلي، سواء من المعارضة أو عائلات الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، لم يجد نتنياهو بدًا من الرضوخ وقبول الاتفاق رغم إيمانه بأن خطوة كتلك من المتوقع أن تكتب السطر الأخير في مسيرته السياسية كرئيس للحكومة، وخطوة عملية نحو الملاحقة القضائية ومن ثم الإدانة وربما السجن.
ثم جاءت زيارة التقاط الأنفاس التي أجراها لواشنطن، ولقاءه بترامب الذي قدم له ولحكومته طوق النجاة، وأزاح السيف من فوق رقبته، بالقنبلة المدوية التي فجرها في المؤتمر الصحفي الذي عقد في البيت الأبيض، الثلاثاء 4/2/2025، حين استعرض خطة إعادة احتلال قطاع غزة لكن هذه المرة بأيدي الأمريكان، وتحويله إلى منطقة عالمية بعد تهجير سكانه بالقوة إلى بعض البلدان المجاورة.
ترامب يتحدث وكأن مصير غزة يُرسم في البيت الأبيض، وكأن الشعوب أرقام تُعاد كتابتها متى شاء! لكن الرفض العربي كان أسرع وأوضح… فهل تصمد المواقف أمام عربدة السياسة الأمريكية؟#ترامب #فلسطين pic.twitter.com/aAYq6T34WE
— نون بوست (@NoonPost) February 5, 2025
تزامنت تلك القنبلة غير المتوقعة، حتى لدى المقربين من الإدارة الأمريكية، مع إفراج واشنطن عن بعض الأسلحة المتطورة والمتفجرات ذات القدرات التدميرية الهائلة وتزويد جيش الاحتلال بها بعد معارضة الإدارة الديمقراطية لها في السابق، ورفع العقوبات عن مستوطني الضفة، وهي الرسالة التي تم تفسيرها بقراءات مختلفة، تصب جميعها عند نقطة التزام ترامب بالأجندة الإسرائيلية بشأن تصفية القضية الفلسطينية من جذورها وتوفير الغطاء الكامل للكيان المحتل.
ورغم تراجع ترامب لاحقًا عن بعض ما جاء في تصريحات الثلاثاء الصادمة، ودخول البيت الأبيض ووزير الخارجية على خط تلطيف الأجواء وتجميل المشهد، بعدما قوبل المقترح العنصري برفض عالمي واسع النطاق، والقلق من تعريض مصالح الولايات المتحدة للخطر، فضلًا عن الإشهار ولأول مرة بورقة اتفاقيات السلام الإسرائيلية العربية، إلا أن ذلك لا يُنكر الدفعة المعنوية القوية التي منحها الرئيس الأمريكي لرئيس وزراء الاحتلال، وهي الدفعة التي من المتوقع أن يكون لها صداها الواضح خلال جولة الدوحة القادمة.
رؤية نتنياهو لجولة الدوحة
من جانبها، أوفت حماس بكافة التزامات المرحلة الأولى، إذ أفرجت عن جميع الأسرى المتفق عليهم، في المواعيد وبالطريقة المحددة، مُبدية الكثير من المرونة، وغاضة الطرف عن الخروقات الإسرائيلية التي لم تتوقف منذ اليوم الأول للاتفاق، والكفيلة بنسفه في حال التعاطي معها بالمثل، وذلك في سبيل وقف الحرب وإنهاء معاناة الفلسطينيين.
هذا الوفاء بما عليها من التزامات دفع الحركة للتأكيد على أنها ماضية في مفاوضات المرحلة الثانية، كما جاء على لسان المتحدث باسمها، عبد اللطيف القانوع، الذي قال إن المرحلة الأولى من الصفقة تسير وفق ما جرى الاتفاق عليه مع الوسطاء، مع استمرار عملية تبادل الأسرى في إطار التزام الحركة ببنود الاتفاق.
لكن هنا يبقى السؤال: ماذا يريد نتنياهو من تلك الجولة؟ وما هي رؤيته بعدما أوفت حماس بالتزاماتها وألقت الكرة في ملعب الحكومة الإسرائيلية المنتشية بوعود ترامب الوهمية ومداعبته أحلام التوسع الصهيونية؟
تجدر الإشارة ابتداء -وكما ذُكر سابقًا- إلى أن الوفد الإسرائيلي المرسل بهيئته المجردة من أي صلاحيات إنما يهدف في المقام الأول لطمأنة ويتكوف والالتزام بتعهدات تل أبيب مع إدارة ترامب، فهو وفد تقني لا نفوذ له وليس مخولًا بإنجاز أي خروقات في مسار التباحث حول المرحلة الثانية من الاتفاق، الأمر الذي يكشف النقاب بشكل واضح حول نوايا نتنياهو بشأن جولة الدوحة القادمة.
نتنياهو معني بالدرجة الأهم بتمديد المرحلة الأولى من الاتفاق لأطول فترة ممكنة، لتسري على المرحلة الثانية، لكن دون شروط تلك المرحلة، والتي تتضمن ألغامًا قد تطيح بالحكومة الإسرائيلية وعلى رأسها الانسحاب الكامل من القطاع، وإعادة الإعمار، والتباحث حول اليوم التالي للحرب.
ومن ثم يسابق نتنياهو الزمن، ويمارس كل ألاعيبه، لتقليص الاتفاق ذو المراحل الثلاث إلى مرحلة واحدة تكتفي بمقاربة تبادل الأسرى دون الانتقال إلى الملفات الأخرى الأكثر أهمية والتي تُقابل بانتقادات حادة من اليمين المتطرف، وذلك من أجل تحقيق هدف واحد فقط، هو الإبقاء على الائتلاف الحكومي متماسكًا دون تفكيك أو انهيار، ويعد هذا الهدف هو المُنجز الوحيد الذي حققه نتنياهو خلال زيارته لواشنطن، وذلك بعد الفشل في تمرير خطة للتصعيد ضد طهران، وهو ما أكدته نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة التي كشفت عن حصول الائتلاف الحكومي على 53 مقعدًا مقارنة بـ49 في الأسبوع الماضي.
من هذا المنطق يمكن قراءة التصعيد الترامبي الأخير ضد الفلسطينيين، حيث رفع سقف الضغوط إلى مستوياتها القصوى، بما يدفع المقاومة والوسطاء لتقديم المزيد من التنازلات وإبداء الكثير من المرونة وصولًا إلى الحد الذي قد يكون مُرضيًا نسبيًا للكيان المحتل، ويحاول توظيفه لتمرير سردية النصر المطلق، تلك السردية التي تٌصر كتائب القسام على نسفها مع كل مشهد من مشاهد التسليم التي تحولت إلى ساحة كبيرة لإجهاض وتنفيد كل مزاعم جنرالات الاحتلال ونخبته السياسية بشأن هزيمة المقاومة وتحقيق أهداف الحرب كاملة.
في ضوء ما سبق:
لا يتوقع أن تُسفر جولة الدوحة، التي ستنطلق اليوم السبت، عن أي حلحلة في مسار التباحث حول المرحلة الثانية من الاتفاق، فهي لا تعدو كونها مكملة يحاول فيها المفاوض الإسرائيلي التملص من كافة الالتزامات الواجبة، والاكتفاء بإشهار مخاوفه ومزاعمه بشأن خروق المقاومة للمرحلة الأولى.
سيحاول نتنياهو كسب المزيد من الوقت عبر استراتيجية التسويف والترحيل، في انتظار الحصاد الأولي لقنبلة ترامب المدوية، وتقييم المقترح ورد الفعل بشأنه، واحتمالية استثماره لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية والميدانية، على أمل تحقيق شرطه الذي كشف عنه قبل يومين لإنهاء الحرب والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، الذين لم توافق “إسرائيل” على إطلاق سراحهم سابقًا، والمتعلق بتخلي حماس عن السلطة في غزة ومغادرة كبار قادتها إلى الخارج.