كغيره من البلدان التي يحكمها الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، لم يكن السودان مكانًا مرحبًا بحرية الإعلام والصحافة ولم تكن منابره تعكس الرأي والرأي الآخر، بل كانت حكرًا على الأصوات التابعة لنظام البشير الذي فرض سطوته على جميع وسائل الإعلام لمدة 3 عقود، حتى باتت المؤسسات الإعلامية إما وجهًا جديدًا من أوجه فساد نظامه أو عرضة للمصادرة والتوقيف والحجب، وعلى ذلك احتل السودان مرتبة متدنية جدًا في انتهاكات حرية الصحافة ومضايقة الصحفيين، حيث جاء ترتيبه 174 من أصل 180 دولة حول العالم، وذلك بحسب تقرير صادر عن منظمة مراسلون بلا حدود عام 2017.
ولكن بعد الإطاحة بالبشير في 11 من أبريل، بدأ الصحفيون والعاملون في هذا القطاع الاستعداد لعهد جديد من الصحافة غير الخاضعة لرقابة السلطة ومعاييرها وخطوطها الحمراء، على سبيل المثال عادت إلى الواجهة مجموعة من الصحف كانت محظورة سابقًا مثل صحيفة التيار التي مُنعت عدة مرات، كانت إحداها عام 2015 حين صادرها جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني ضمن 9 صحف سياسية أخرى، ومرة أخرى عام 2018 بسبب تغطيتها لموجة الغلاء التي ضربت البلاد آنذاك، وكل ذلك دون إبداء مبررات واضحة ودون اللجوء للأحكام القضائية.
وانطلاقًا من هذه العودة وإصرار الصحف السودانية على الاستمرار بتغطية كل الأحداث كما تقتضي الرسالة الإعلامية، نتساءل في هذا التقرير ما إذا كانت ستتغير أحوال هذه المنصة، لا سيما أن المجلس العسكري الانتقالي أعلن سابقًا إنهاء كل أشكال الرقابة المفروضة على الصحف ووسائل الإعلام الأخرى وتمكينها من العمل بحرية، فهل يودع السودان التجربة القمعية في المرحلة المقبلة؟
دولة بلا صحافة حرة
في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن هذه المعاناة لم تكن وليدة حكومة البشير، بل كانت واحدة من سياسات نظام الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري الذي استمر حكمه من 1969 وحتى 1985، ما يعني أن الصحافة السودانية لم تحظ بتجربة إعلامية حرة وديمقراطية، وإنما كانت تتصبغ دومًا بألوان السلطات الحاكمة، بصرف النظر عما يجري مع المواطنين على أرض الواقع من ظروف اقتصادية أو اجتماعية، وتبعًا لذلك، كانت الطرق للصحافة الحرة والموضوعية مسدودة ومليئة بالمآزق.
ففي عام 2009، أصدرت الحكومة قانونًا يقضي بإمكانية حظر أي صحيفة لمدة 10 أيام، كما يسمح بإلغاء تراخيص الصحفيين والصحف وخاصةً تلك التي تحاور الشخصيات المعارضة وأصوات المخالفين، أو تتناول مواضيع وقضايا يُمنع الحديث عنها وتداولها في الشارع، ويشمل ذلك كل من لا يتلاعب في محتواه التحريري بطريقة تلائم مصالح الحكومة وسمعتها.
بالجانب إلى ذلك، أقرت الدولة قانونًا آخر عام 2013 يركز على تهديد دور الطباعة والمؤسسات الصحفية والمواقع الإلكترونية الإخبارية بالإغلاق والغرامات المادية في حال المخالفة والتعدي على ما سمته بـ”الأمن الوطني” و”هيبة الدولة”.
في هذا الخصوص، يروي عوض محمد عوض، ناشر ومحرر في صحيفة “الجريدة” التي تم مصادرتها سابقًا، تجربته في هذا المجال، قائلًا: “نحن لسنا أحرارًا، بالنسبة لي رئيس تحرير جميع الصحف هو جهاز المخابرات”، واصفًا إياهم بمجموعة من الرجال الجالسين في مكاتب الجريدة لمشاهدة ومراقبة كل كلمة في الصحيفة قبل النشر والإصدار، ومشيرًا إلى المعركة اليومية التي كان يخوضها من أجل نقل صورة الواقع السوداني بأوجهه الكاملة في ظل وجود هذه التدخلات المباشرة.
فضلت بعض الصحف الهرب من العالم الواقعي إلى الافتراضي بحثًا عن مساحة خالية من الخطوط الحمراء، مثل صحيفة الأحداث التي أسست مكتبًا لها خارج السودان وانطلقت في الحيز الرقمي
وهكذا ازدادت الضغوط السياسية والاقتصادية على الصحفيين، لا سيما أن حظر البيع أو النشر يأتي بعد طباعة آلاف النسخ من الصحف، ما يؤدي إلى خسائر مادية كبيرة لا تستطيع جميع المؤسسات تحمل تكاليفها، ولذلك، وعدت الحكومة في سنة من السنوات بعدم إصدار أحكام بإغلاق المطابع أو حظر النشر بعد طباعة المنتج الأخير ولكنها لم تف بالعهد مما فرض عواقب اقتصادية إضافية على الجهات المختصة بالنشر.
وهي إستراتيجة تتبعها حكومة البشير منذ سنوات طويلة لتدفع الصحف للاستسلام من خلال إنهاكها وخنقها بالأعباء الاقتصادية، إذ يقول كلايا كان سريبر، رئيس مكتب إفريقيا في مراسلون بلا حدود: “تتعمد الخرطوم في كثير من الأحيان مصادرة الصحف المطبوعة، ليس فقط لفرض الرقابة على وسائل الإعلام ولكن أيضًا لإضعافها اقتصاديًا”.
وتجنبًا لهذه التعقيدات، فضلت بعض الصحف الهرب من العالم الواقعي إلى الافتراضي بحثًا عن مساحة خالية من الخطوط الحمراء، مثل صحيفة الأحداث التي أسست مكتبًا لها خارج السودان وانطلقت في الحيز الرقمي، مما صعب من عملية استهدافها، فرغم قدرة الدولة على حجب وحظر الصفحات الإلكترونية والتضييق عليها بجميع الوسائل المتوافرة، فإن حجم الضغط والقمع لا يقارن أبدًا مع ما تواجهه الصحف المطبوعة أو الورقية، وذلك عدا عن قلة التكلفة الاقتصادية.
ومع ذلك، في الآونة الأخيرة، اتخذت الانتهاكات بُعدًا أكثر توسعًا وجديةً، فلقد أُغلقت خدمات الإنترنت عن المواطنين عقب فض مذبحة الاعتصام في الثالث من يونيو، وحظرت وسائل التواصل الاجتماعي، ومن حينها اشتدت المخاوف بشأن مستقبل الحرية الإعلامية في البلاد، ما دفع العديد من الجمعيات والمنظمات الدولية لإدانة هذا الإجراء، خوفًا من عزل السودان عن العالم الخارجي وإغفال المجتمع الدولي التطورات الأخيرة التي تجري على أرض الواقع، بما فيها من ممارسات قمعية وعنيفة تجاه المدنيين والمتظاهرين السلميين في السودان.
حيال هذا الشأن، أكدت منظمة الأممم المتحدة أن الوصول إلى الإنترنت حق من حقوق الإنسان، وقطع هذه الخدمة يعتبر انتهاكًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان الذي يذكر أن: “لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”.
هل يتكلم الإعلام السوداني بلسان الحقيقة؟
أكد الاتفاق الذي جاء على الوثيقة الدستورية للمرحلة الديمقراطية على مجموعة من الحريات العامة وكان من ضمنها حرية التعبير ونشر المعلومات، وهو ما اعتبره بعض الصحافيين فرصة جديدة لممارسة حقوقهم وإنجاز أعمالهم دون التخوف من قمع وتحكم السلطات، مع الاعتبار أن السلطة الجديدة ألغت جميع القيود المفروضة على الصحف ووسائل الإعلام بشكل علني، وأثنت على دورها في إيصال الحقيقة للعالم الخارجي.
ومع زوال البشير وقواعده، يرى مراقبون أن عناوين الصحف السودانية وموضوعاتها وطريقة تناولها للأخبار قد تغيرت بشكل واضح خلال ليلة وضحاها، وركزت في رسائلها على رأي الشارع ورغباته وتحركاته، كما تجاوبت مع مساراته أكثر من التركيز على تصريحات الدول ووجهات نظره، حيث انتشرت عناوين مثل “الشعب ينتصر والثورة مستمرة”، ومقالات تناقش السيناريوهات التي تنتظر البشير بعد إسقاطه من سدة الحكم، وغيرها العديد من الموضوعات التي لم يكن الصحفيون يمتلكون حرية الكتابة عنها.
لكن من جهة أخرى، يعتقد البعض الآخر أن أجهزة الإعلام الحكومية ما زالت إلى اليوم تعمل وتفكر بعقلية نظام البشير، إما لأنها مملوكة أصلًا للنظام أو مملوكة لرجال ورموز مقربين له، وهي الجهات التي تروج للثورة على أنها مسار مخالف ومعارض لرغبة الشارع السوداني ومصلحته الوطنية، أو تتجاهل ببساطة ما يحدث داخل المدن السودانية وتركز على أحداث أخرى في العالم وكأن لا شيء يجري في محيطها، مثلما فعل التليفزيون السوداني الرسمي.
ليس من المحتمل أن يتعافى الإعلام السوداني في يوم وليلة دون إعادة تأهيل العاملين في الصحف والمؤسسات الإعلامية وتعويدهم على العمل وفقًا لقوانين الصحافة الحرة والديمقراطية
أما فيما يتعلق بالصحف الخاصة فلقد انتهزت فرصة عزل النظام الاستبدادي ونزلت إلى الميادين ونشرت أخبار الثورة ومجرياتها وشهدائها، إلا أنها كانت محدودة العدد ولا تتعدى الأربع صحف، ومنها الجريدة واليوم التالي والتيار، يضاف إلى ذلك، ضعف تغطيتها وقد يعود السبب في ذلك إلى قلة الخبرة المهنية في هذا الإطار وضعف مؤهلات الكوادر الصحفية التي تأثرت بسياسات نظام بشير وجهاز المخابرات الذي راقب كل كلمة في الصحف السودانية وعدل سطورها بالطريقة التي يشاء لأكثر من 40 عامًا، ما أثر تلقائيًا على أداء الصحفيين الحاليّ في متابعة ومعالجة الأحداث المكثفة بالشكل المطلوب.
ونتيجة لذلك، ليس من المحتمل أن يتعافى الإعلام السوداني في يوم وليلة دون إعادة تأهيل العاملين في الصحف والمؤسسات الإعلامية وتعويدهم على العمل وفقًا لقوانين الصحافة الحرة والديمقراطية، وتحريرهم من الجمود والرقابة الذاتية التي فرضتها العقلية السلطوية خلال فترة نظام البشير على وسائل الإعلام والصحف. وإلى ذلك، تبقى هناك بعض المبادرات الفردية والمعدودة التي تحاول الخروج من هذه المنظومة واستقطاب القراء إلى منصاتها بدلًا من الاعتماد على القنوات الإعلامية والصحفية الخارجية.