ترجمة وتحرير نون بوست
إن العلمانية تزدادُ انتشارا في المجتمعات الأوروبية التي أصبحت لا تُقبل كثيرا على ممارسة الطقوس الدينية. ووفقًا لبيانات المسح الاجتماعي الأوروبي الذي أجري بين سنتي 2014 و2016، فإن 55 بالمئة من الشباب الأوروبي ملحد ولا يعترف بوجود أي دين. وعلى الرغم من الأهمية التي حظيت بها المسيحية في التاريخ الأوروبي، إلا أن الحكومات الأوروبية فصلت الكنيسة عن الدولة خلال العقود الماضية، تاركة الأديان ضمن الحرية الفردية للأشخاص.
خلال السنوات الأخيرة، سنّت الهيئات القضائية مزيدا من القوانين من أجل السيطرة على بعض الممارسات الدينية أو الحد منها وأحيانا حظرها، علما بأن هذه القوانين تهدف أساسا لتضييق الخناق على ممارسة طقوس الدين الإسلامي. وحسب تحليل أجراه مركز بيو للأبحاث خلال شهر تموز/ يوليو الماضي، تعتبر أوروبا بالتحديد المنطقة الجغرافية التي زادت فيها الحكومات من القيود المسلّطة على الأديان. وعلى مدى عشر سنوات، بلغ معدل قيود الحكومات الأوروبية على الديانات المختلفة سنة 2007 حوالي 1.5 مقارنةً بمعدل 2.3 من المتوسط العالمي.
وفقا لأحدث البيانات، ارتفع معدل قيود الحكومات الأوروبية على الأديان سنة 2017 إلى 3.0 مقارنة بـ 3.4 من المتوسط العالمي، أي أنه تضاعف خلال فترة لا تتجاوز العشر سنوات. ولكن هذه القيود مفاجئة بالنسبة لأوروبا نظرا لأنها لم تكن تفرض أي نوع من القيود على الأديان في السابق، وعادة ما تحاول تعزيز مبدأ الاحترام التام لحرية المعتقد وتكرس التسامح الديني.
من المقرر أن يدخل قانون حظر ذبح الحيوانات دون القيام بتخديرها أولا كنوع من الطقوس الدينية، حيّز التنفيذ في مطلع شهر أيلول/ سبتمبر القادم في منطقة والونيا البلجيكية
تركز الحكومات الأوروبية حاليا القيود على الممارسات المرتبطة بالدين الإسلامي على وجه التحديد، وخير مثال على ذلك حظر المجالس المحليّة في جمهورية مولدوفا صلاة المسلمين في الأماكن العامة. كما أعلنت إحدى المحاكم الإقليمية في مدينة كولونيا الألمانية أن الختان، وهو ممارسة مرتبطة بالدين الإسلامي واليهودي على حد سواء، يعتبر بمثابة “اعتداء” إذا لم يتم لأسباب طبية. وبعد اندلاع احتجاجات حادّة، اضطرت الحكومة الفيدرالية إلى إقرار تشريع يسمح بختان الذكور لأسباب دينية.
نهاية الأضحية “الحلال”
من المقرر أن يدخل قانون حظر ذبح الحيوانات دون القيام بتخديرها أولا كنوع من الطقوس الدينية، حيّز التنفيذ في مطلع شهر أيلول/ سبتمبر القادم في منطقة والونيا البلجيكية، وهو قانون معمول به في مقاطعة فلاندر. والجدير بالذكر أن هذا القانون يمس في المقام الأول بما يعرف بـ “الطقوس الحلال” المتعلقة بطريقة ذبح الحيوانات، والتي تقوم على ذبح الحيوان وهو في كامل وعيه، حيث يفقد الوعي بعد بضع ثوان فقط من ذبحه بسبب نقص الأكسجين في الدماغ ثم يبقى ينزف لمدة ساعات.
لكن المسلمين لا يستطيعون تناول اللحوم في حال لم تُذبح الحيوانات وفقا “للطقوس الحلال”. وهذا الأمر لا ينطبق على المسلمين فحسب، بل يشمل أيضا ما يسمى بـ “الكوشر أو الكشروت” في الديانة اليهودية الذي يقضي بضرورة ذبح الحيوانات وهي واعية دون تخديرها. وفي الواقع، لا تعتبر بلجيكا الدولة الأوروبية الوحيدة التي يُحظر فيها ممارسة الذبح الحلال الإسلامي والكوشر اليهودي، بل تشترط بلدان أوروبية أخرى مثل السويد والنرويج وأيسلندا والدنمارك وسلوفينيا تطبيق نظام يترك الحيوان فاقدًا للوعي قبل أن يتم ذبحه، بينما تسمح هولندا وسويسرا وليختنشتاين وألمانيا ببعض الاستثناءات وإن كانت محدودة.
اليهود ضحية أيضا للحملة التي شنتها الأحزاب المعادية للمسلمين على غرار التحالف الفلمنكي الجديد
من جهتهم، برّر المشرعون البلجيكيون هذا القرار بأنه يندرج ضمن حماية حقوق الحيوان، إلا أن بعض الأصوات داخل البلاد وخارجها تشير إلى أن الإسلاموفوبيا هي التي تقف وراء الموافقة على التدابير المتعلقة بذبح الأضحية وفقا لتعاليم الدين. وقد سلّطت هذه الأصوات الضوء على تزايد المشاعر المعادية للمهاجرين والمسلمين من قبل القوميين الفلامنك، الذين انتهوا من وضع جدول الأعمال العام للبلاد.
وصمة عار
في تصريح له لصحيفة “نيويورك تايمز”، أفاد جوس رويتس، وهو محام يمثل منظمة جامعة للمؤسسات الإسلامية، بأن دافع الحكومات الأوروبية وراء حظر الذبح الحلال للأضحية قد شُرّع لأجل “إلحاق العار بمجموعات معيّنة” أكثر من دافع المخاوف المتعلقة برفاهية الحيوانات. ويمكن للحكومة اتخاذ تدابير أخرى للحد من معاناة الحيوانات، “دون انتهاك حرية الدين واللوائح الأوروبية فيما يتعلق بهذا الأمر”.
وفقًا لتصريحات بنحاس جولدسميت، رئيس اتحاد الحاخامات الأوروبيين، التي أدلى بها لمجلة “بوليتيكو” الأمريكية، فإن اليهود ضحية أيضا للحملة التي شنتها الأحزاب المعادية للمسلمين على غرار التحالف الفلمنكي الجديد. وقد أفاد الحاخام جولدسميت بأنه “مع هذه القوانين المعادية للمسلمين، تدخل أوروبا في عصر مظلم جديد”، في إشارة إلى العصور الوسطى.
ذكرت كل من ألمانيا واليونان وإيرلندا اسم الله بشكل واضح في الدستور، بينما تعمل دول أخرى بما في ذلك سلوفينيا والبرتغال وسلوفاكيا وفقا لكيان الكرسي الرسولي
في مقال بعنوان “أوروبا تواصل تقليص الحرية الدينية” نُشر في مجلة “ناشونال ريفيو” الأمريكية، أشار المحامي الأمريكي ويسلي سميث من “مركز الاستكشاف الإنساني التابع لمعهد ديسكفري” إلى أنه “سيتم إجبار المؤمنين على الاختيار بين تناول اللحوم وانتهاك معتقداتهم الدينية”. وقد أضاف المحامي المحافظ أن “هذا النوع من التعصّب الديني لن يتنامى إلا في المستقبل، ويوجد ضغط كبير لحظر ختان الأطفال وهو من الطقوس المقدّسة جدا عند اليهود، والذي يمارسه كثير من المسلمين أيضًا كواجب ديني”.
في سياق متصل، قال سميث إن هناك “الكثير من الجهود المبذولة لإجبار الأطباء على المشاركة في عمليات الإجهاض وما يسمى القتل الرحيم، حتى عندما يرى الطبيب أن مثل هذه الأفعال هي خطيئة كبيرة تؤثر ماديًا على مصائرهم الأبدية”.
العلمانية مقابل ممارسة الطقوس الدينية
أكّد بعض الناشطين والمشرعين أن دراسة مركز بيو للأبحاث لم تشر إلى أن معظم هذه القيود قد فُرضت لأسباب تتعلق “باعتبارات اجتماعية مشروعة”. وخير مثال على ذلك، حظر ارتداء “البرقع”. وقد أثار هذا الحظر الكثير من الجدل، حيث استندت الحكومة في حظر هذا اللباس سواء في الأماكن العامة أو في المدارس إلى حجة تتعلق بالأمن أو حقوق المرأة.
حيال هذا الشأن، قال بعض النشطاء إن الدين “مسألة شخصية” ولا يمكن أن يصبح جزءا من الحياة العامة أو يؤثر على قوانين الدولة. ولا يوجد في الاتحاد الأوروبي نموذج واحد للعلاقات بين الكنيسة والدولة، بل طور كل بلد توازنه بين الفصل بين الدين والدولة أو تقريبه من الدولة. فعلى سبيل المثال، ذكرت كل من ألمانيا واليونان وإيرلندا اسم الله بشكل واضح في الدستور، بينما تعمل دول أخرى بما في ذلك سلوفينيا والبرتغال وسلوفاكيا وفقا لكيان الكرسي الرسولي. في المقابل، تعترف فرنسا بأن العلمانية حقيقة مكرسة في دستورها.
المصدر: الكونفيدينسيال