ترجمة وتحرير نون بوست
إن فيلم “أسرار رسمية”، الذي عُرض لأول مرة يوم الجمعة في نيويورك ولوس أنجلوس، يعتبر أفضل فيلم قدّم على الإطلاق حول كيفية اندلاع حرب العراق. فهو دقيق بشكل مذهل، ما يجعل منه فيلما ملهما وباعثا للأمل ومحبطا ومثيرا للغضب في الآن ذاته. لذلك، أنصحكم بمشاهدة هذا الفيلم.
لقد كدنا ننسى اليوم أنه كان بالإمكان تجنب حرب العراق وعواقبها البغيضة التي شملت سقوط مئات الآلاف من القتلى، وصعود تنظيم الدولة، والكابوس الذي عاشته سوريا، وتولي دونالد ترامب الرئاسة. وخلال الأسابيع التي سبقت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في 19 آذار/ مارس 2003، كانت المبررات الأمريكية والبريطانية للحرب على وشك الانهيار مثل سيارة قديمة الطراز متهالكة. خلال هذه المدة القصيرة، بدا أن إدارة جورج دبليو بوش تتجاوز الحدود. وكان من الصعب للغاية على الولايات المتحدة أن تغزو العراق دون مساعدة المملكة المتحدة، حيث لا تحظى فكرة الحرب دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بأي شعبية.
أخبر المدعي العام البريطاني بيتر غولدسميث رئيس الوزراء توني بلير بأن القرار المتعلّق بالعراق الذي أصدره مجلس الأمن في تشرين الثاني/ نوفمبر 2002 “لا يجيز استخدام القوة العسكرية دون قرار آخر من مجلس الأمن” (المدعي العام هو المحامي الأعلى رتبة في وزارة الخارجية البريطانية، قد شدد على أن: “استخدام القوة دون سلطة مجلس الأمن سيكون بمثابة جريمة عدوان”). لهذا السبب، كان بلير يائسًا من الحصول على الموافقة من الأمم المتحدة. وظل مجلس الأمن المؤلف من 15 دولة متعنتا، مما أثار دهشة الجميع.
في غرة آذار/ مارس، وفي خضم هذا الموقف الصعب نشرت صحيفة “الأوبزرفر” البريطانية رسالة بريد إلكتروني مسربة بتاريخ 31 كانون الأول/ ديسمبر من قبل مدير وكالة الأمن القومي، وقد كان لهذا الخبر وقع مدوي. في هذا الإطار، طالب مدير وكالة الأمن القومي بإجراء محاكمة صحافية كاملة حول التجسس على أعضاء مجلس الأمن، “باستثناء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بالطبع”، بالإضافة إلى الدول غير التابعة لمجلس الأمن التي قد تحدث جلبة.
يطرح الفيلم السؤال التالي: لماذا لم يُحدث التسريب فرقًا حقيقيًا؟ في الحقيقة، ساهم التسريب في معارضة مجلس الأمن للولايات المتحدة والمملكة المتحدة، الذي لم يصوت أبدًا على قرار آخر بشأن العراق.
ساهم هذا الوضع في الكشف عن خداع بوش وبلير، حيث قال كلاهما إنهما يريدان أن يصوت مجلس الأمن بالرفض أو الإيجاب على القرار ليعطي ختمًا قانونيًا بالموافقة على الحرب. لقد كانا على علم بأنهما في طور الهزيمة، وعلى الرغم من مزاعمهما بأنهما اضطرا إلى غزو العراق لشدّة اهتمامهما بدعم فعالية الأمم المتحدة، إلا أنهما كانا سعيدين بالضغط على زملائهم من أعضاء الأمم المتحدة إلى درجة جمع مواد لابتزازهم. وأثبت ما ذكر سابقا أن خطة وكالة الأمن القومي كانت غير عادية إلى درجة وجود شخص في عالم المخابرات كان منزعجًا بما فيه الكفاية للمخاطرة بالذهاب إلى السجن لفترة طويلة.
كان هذا الشخص كاثرين غان، التي أدت دورها في فيلم “أسرار رسمية” الممثلة كيرا نايتلي، والتي كانت مترجمة في مكاتب الاتصالات الحكوميّة، النظير البريطاني لوكالة الأمن القومي. إن فيلم “أسرار رسمية، هو فيلم صريح ومشوق عن شخصية كاثرين غان. ستعرف كيف حصلت على البريد الإلكتروني، ولماذا سرّبته، وكيف فعلت ذلك، ولماذا اعترفت بسرعة، بالإضافة إلى النتائج الرهيبة التي واجهتها، والاستراتيجية القانونية الفريدة التي أجبرت الحكومة البريطانية على إسقاط جميع التهم الموجهة ضدّها. في ذلك الوقت، قال دانيال إلسبرغ إن تصرفاتها جاءت “في الوقت المناسب وربما كانت أكثر أهمية من أوراق البنتاغون … وقول الحقيقة بهذه الكيفيّة كان بإمكانه وقف الحرب”.
من ناحية أخرى، يطرح الفيلم السؤال التالي: لماذا لم يُحدث التسريب فرقًا حقيقيًا؟ في الحقيقة، ساهم التسريب في معارضة مجلس الأمن للولايات المتحدة والمملكة المتحدة، الذي لم يصوت أبدًا على قرار آخر بشأن العراق. وكان بوش وبلير على علم بأنهما سيخسران. ومع ذلك، تمكن بلير من تجاهل هذا الأمر والحصول على تصويت يؤيد الحرب من قبل البرلمان البريطاني بعد عدة أسابيع.
لم تنشر صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أي خبر عن تسريب بريد وكالة الأمن القومي منذ تاريخ نشره في المملكة المتحدة إلى حين بداية الحرب، أي تقريبا بعد ثلاثة أسابيع.
هناك إجابة واحدة على هذا السؤال، سواء في فيلم ” أسرار رسمية” أو في الواقع: وهي مؤسسات الإعلام الأمريكية. ويساعد الفيلم في توضيح الخلل الإيديولوجي من جانب الصحافة الأمريكية، التي تغاضت عن هذا الخبر لإنقاذ أصدقائها في إدارة بوش.
من السهل تخيّل تاريخ مختلف عن التاريخ الذي عشناه، حيث يبغض السياسيون البريطانيون، مثلهم مثل الأمريكيين، انتقاد أجهزة الاستخبارات الخاصة بهم. لكن المتابعة الجادة لقصة الأوبزيرفر من قبل النخبة الإعلامية الأمريكية كانت ستثير اهتمام أعضاء الكونغرس الأمريكي. وهذا بدوره يفتح المجال أمام أعضاء البرلمان البريطاني المعارضين للغزو ليتساءلوا عمّا يحدث على أرض الواقع. كان المنطق وراء الحرب يتفكك بسرعة لدرجة أن أي تأجيل طفيف كان من الممكن أن يمتد إلى أجل غير مسمى. وكان كل من بوش وبلير على علم بهذا الأمر، ولهذا السبب انطلقا إلى الأمام بلا هوادة.
لكن في هذا العالم، لم تنشر صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أي خبر عن تسريب بريد وكالة الأمن القومي منذ تاريخ نشره في المملكة المتحدة إلى حين بداية الحرب، أي تقريبا بعد ثلاثة أسابيع. ونشرت صحيفة “واشنطن بوست” مقالا واحدًا مكونا من 500 كلمة في الصفحة أ 17 بعنوان “تقرير مسرب، ليس غريبا على الأمم المتحدة”. كما نشرت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” مقالا واحدا قبل الحرب بعنوان “مزور أو لا، البعض يقول إن الأمر لا يستحق أن نعيره أي اهتمام”، الأمر الذي سمح للمستشار السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالإشارة إلى أن البريد الإلكتروني غير حقيقي.
كان هذا هو خط الهجوم الأكثر إثارة على قصة الأوبزرفر. و كما ظهر في فيلم “أسرار رسمية”: كان التلفزيون الأمريكي مهتمًا في البداية بالاستماع إلى أحد مراسلي الأوبزرفر على الهواء، لكن سرعان ما تبخرت هذه الدعوات عند ادعاء موقع داردج ريبورت بأن هذا البريد الإلكتروني مزيف. لماذا؟ لأن الرسالة احتوت كلمات مكتوبة بالطريقة البريطانية، وبالتالي لم يكن من الممكن أن يكتبها أمريكي.
لم تذكر صحيفة “نيويورك تايمز” اسم كاثرين غان إلا في سنة 2004، أي بعد 10 أشهر، وحتى في ذلك الحين، لم تظهر في قسم الأخبار
في الواقع، كان الهجاء في التسريب الأصلي إلى الأوبزرفر على الطريقة الأمريكية، لكن قبل نشره، قام فريق دعم الصحيفة بتغيير همعن طريق الخطأ إلى نسخ بريطانية دون أن يلاحظ الصحفيون. وكالعادة، عند مواجهة هجوم من الجناح اليميني، تراجعت شبكات التلفزيون في الولايات المتحدة في رعب شديد. وبحلول الوقت الذي تم فيه تصحيح التفاصيل الإملائية، كان الإعلام الأمريكي قد غض النظر عن الأوبزرفر ولم يكن لديه أي مصلحة في الرجوع إليها. ويعود الفضل في الاهتمام القليل الذي حصلت عليه القصة إلى الصحافي والناشط نورمان سولومون وبفضل “معهد الدقة العامة” الذي أنشأه.
كان سولومون قد سافر إلى بغداد قبل أشهر قليلة وشارك في تأليف كتاب “استهداف العراق: ما لم تخبرك به وسائل الإعلام”، الذي صدر في أواخر كانون الثاني/ يناير 2003. اليوم، يقول سولومون مسترجعا: “شعرت بقرابة فورية، أو بالأحرى شعرت بالحب تجاه كل من تعرض لمخاطرة هائلة للكشف عن مذكرة وكالة الأمن القومي. بالطبع، لم أكن أعرف من فعلها في ذلك الوقت”. وسرعان ما صاغ سولومون عمودًا بعنوان” الإعلام الأمريكي يتهرب من مراقبة قصة الأمم المتحدة”.
سأل سولومون أليسون سمايل، التي كانت آنذاك نائبة رئيس تحرير صحيفة “نيويورك تايمز”: “لماذا لم تشملها ورقة التسجيل؟”. فأجابته سمايل: “هذا لا يعني أننا لم نكن مهتمين، لكن المشكل أننا لم نتمكن من الحصول على أي تأكيد أو تعليق حول البريد الإلكتروني لوكالة الأمن القومي من قبل مسؤولين أمريكيين. وهذا لا يعني أننا لا نبحث في الأمر، أنا أؤكد لك أننا ما زلنا بصدد البحث”.
لم تذكر صحيفة “نيويورك تايمز” اسم كاثرين غان إلا في سنة 2004، أي بعد 10 أشهر، وحتى في ذلك الحين، لم تظهر في قسم الأخبار. بدلا من ذلك، وبِحثّ من معهد الدقة العام، اضطر الصحفي في نيويورك تايمز بوب هربرت للنظر في تفاصيل هذه القصة، وتكفّل بوب بأخذها على عاتقه على الرغم من أن باقي المحررين الإعلاميين قد تغاضوا عنها. الآن، في هذه المرحلة قد ترغب في الانهيار من اليأس. لكن إليك بقية القصة التي لا تصدق، شيء معقد وغير محتمل لدرجة أنه لا يظهر في “أسرار رسمية” على الإطلاق.
المبلغة كاثرين غان تغادر محكمة الصلح بوستريت بلندن في تشرين الثاني/ نوفمبر، 2003.
لماذا قررت غان أن تسرب البريد الإلكتروني لوكالة الأمن القومي؟ في الآونة الأخيرة، كشفت غان عن بعض دوافعها الرئيسية، وقالت عبر البريد الإلكتروني: “كنت أشعر بالارتياب حول حجج الحرب”. فذهبت إلى مكتبة وتوجهت إلى قسم السياسة وبحثت عن شيء عن العراق. اشترت كتابين وقرأتهما من البداية إلى النهاية خلال نهاية الأسبوع. “لقد أقنعتني هذه الكتب أنه لا يوجد دليل حقيقي يبرر هذه الحرب”. كان عنوان أحد هذه الكتب “خطة الحرب في العراق: عشرة أسباب ضد الحرب على العراق” لميلان راي. والثاني كان بعنوان “استهداف العراق”، وهو الكتاب الذي شارك في تأليفه سولومون.
نُشر كتاب “استهداف العراق” من قبل كونتكست بوكس، وهي شركة صغيرة أفلست بعد فترة وجيزة من نشرها لهذا الكتاب الذي تواجد في المتاجر قبل أسابيع فقط من عثور غان عليه. وفي غضون أيام من قراءتها للكتاب، وجدت رسالة البريد الإلكتروني لوكالة الأمن القومي في 31 كانون الثاني/ يناير في بريدها الخاص، وسرعان ما قررت ما ستفعله لاحقا. وقال سولومون: “لقد ذهلت عندما سمعت كاثرين تقول إن كتاب “استهداف العراق” دفعها للكشف عن مذكرة وكالة الأمن القومي. لم أكن أعرف كيف أستوعب هذا الأمر تمامًا”.
ما معنى كل هذا؟
ما يعنيه الأمر بالنسبة للصحفيين الذين يهتمون بالصحافة، هو أنه على الرغم من أنك قد تشعر غالبًا كما لو أنك تصرخ بلا جدوى، إلا أنه لا يمكنك أبدًا توقع من سيطّلع على عملك وكيف سيؤثّر فيه. ليس جميع الأشخاص داخل المؤسسات العملاقة والقوية من الأشرار المختبئين داخل حصن منيع. معظمهم أناس عاديون يعيشون في العالم ذاته مثل باقي الأشخاص، ومثل الجميع، يكافحون من أجل القيام بالأمر الصائب وفقا لاعتقادهم. وعليك أن تتوقّع أنه من الممكن أن يكون الشخص الذي تتواصل معه قادرا على اتخاذ إجراء غير متوقّع بتاتا.
فشلت غان وسولومون وملايين الأشخاص الذين تصدوا لحرب العراق المتصاعدة، بطرق مختلفة. لكن وحدهم الأشخاص الذين كانوا يقِضِين حينها، اكتشفوا أن العراق كان بمثابة الخطوة الأولى في غزو الولايات المتحدة للشرق الأوسط بأكمله
هناك درس مشترك بالنسبة لغير الصحافيين والصحفيين على حد سواء، وهو أن لا تشعر بالإحباط. في الواقع، لا يزال كل من سولومان وغان يشعران بالأسى العميق لأن حرب العراق اندلعت، على الرغم من محاولتهم القيام بكل ما يمكنهم تخيله لوقفها. وفي هذا الشأن، قال سولومان: “أشعر بالامتنان لأن الكتاب الذي شاركت في تأليفه كان له آثار متتالية. ولكن في الوقت ذاته، أشعر أن رأيي لا يهم في الواقع”.
في المقابل، أعتقد أن إحساس غان وسولومون بالفشل هو طريقة خاطئة للنظر لما فعلوه وما يمكن للآخرين فعله أيضا. لم ينجح الأشخاص الذين حاولوا إيقاف حرب فيتنام إلا بعد موت الملايين، كما أصبح العديد من هؤلاء الكتّاب والناشطين يعتقدون أنهم الطرف الفاشل في هذا السياق. ولكن في الثمانينيات، فشلت الفصائل تحت إدارة الرئيس ريغان في شنّ غزوات واسعة النطاق في أمريكا اللاتينية، بسبب التنظيم والمعرفة التي تكوّنت منذ سنوات. وتتمثّل الحقيقة المريرة في استقرار الولايات المتحدة على خيارها الثاني، وهو إطلاق العنان لفرق الموت التي ذبحت عشرات الآلاف في جميع أنحاء المنطقة، وهو فعل يماثل فظاعة التفجير.
على المنوال ذاته، فشلت غان وسولومون وملايين الأشخاص الذين تصدوا لحرب العراق المتصاعدة، بطرق مختلفة. لكن وحدهم الأشخاص الذين كانوا يقِضِين حينها، اكتشفوا أن العراق كان بمثابة الخطوة الأولى في غزو الولايات المتحدة للشرق الأوسط بأكمله. وعلى الرغم من أنهم لم يتمكّنوا من إيقاف حرب العراق، إلا أنهم نجحوا على الأقل إلى غاية اليوم، في منع نشوب حرب إيران. وحاول أن تحرص على مشاهدة فيلم “اسرار رسمية” بمجرد ظهوره في صالات العرض. فهذا الفيلم يقدّم صورة نادرة عن اتخاذ شخص ما لخيار أخلاقي حقيقي، حتى عندما يكون متردّدا ومذعوراً ويجهل تماما ما قد يحدث بعد ذلك.