أعاد سقوط نظام الأسد الأمل لملايين اللاجئين المنتشرين في مختلف دول العالم، بالعودة للوطن مجدداً وانتهاء رحلة اللجوء وما رافقها من تفرق للعائلات وصعوبات في لم شملها وزيارات بعضها، ومشاكل عنصرية تعرضوا لها وصعوبات اندماج وغير ذلك.
إلا أن واقع ما بعد السقوط لا يزال محفوفًا بالتحديات، فالفرحة سرعان ما اصطدمت بحقيقة الدمار الهائل الذي طال البنية التحتية، وارتفاع تكاليف المعيشة، وانعدام الخدمات الأساسية، مما جعل العودة حلمًا صعب المنال لكثيرين.
وبينما يتوق اللاجئون للعودة ولمّ شمل عائلاتهم بعد سنوات من الشتات، يواجهون أسئلة مصيرية: هل سوريا اليوم قادرة على استيعابهم؟ وهل يمكنهم بناء حياة جديدة وسط الركام والأزمات الاقتصادية الخانقة؟
تركيا أكبر مضيف للسوريين
في صباح الثامن من كانون الأول 2024، احتفل السوريون في تركيا، كما ملايين السوريين حول العالم، بسقوط نظام الأسد. إلا أن نشوة الفرح سرعان ما تلاها شعور بالصدمة لدى العديد من اللاجئين السوريين، حيث بدأوا بالتفكير جديًا في العودة إلى بلادهم أو زيارتها مبدئيًا، في ظل القوانين والإقامات التي تحكم وجودهم في الدول المضيفة.
يقيم في تركيا تحت بند الحماية المؤقتة أكثر من مليونين و863 ألف شخص، بحسب آخر إحصائيات إدارة الهجرة التركية في 30 كانون الثاني 2025، ورغم انخفاض العدد عن السابق نتيجة عمليات الترحيل القسري في السنوات الأخيرة والعودة الطوعية لآخرين، إلا أنه لا يزال التجمع الأكبر للاجئين السوريين في دولة واحدة.
ولا يتمتع المقيمون تحت هذا البند بحق السفر خارج تركيا إلى أي بلد كان والعودة إليها مجددًا، إذ يفقدون حق الحماية المؤقتة فور مغادرتهم الأراضي التركية، ويُمنعون من دخولها مرة أخرى لمدة خمس سنوات، وقد يُحظر دخولهم نهائيًا في بعض الحالات الخاصة.
شكل هذا الأمر تحديًا كبيرًا لآلاف العائلات السورية المستقرة في تركيا منذ سنوات، حيث باتت خطوة العودة محفوفة بالمخاطر، لا سيما مع حرمانهم من إمكانية زيارة بلدهم والعودة مجددًا، خاصة وأن نحو 730 ألف طالب سوري يدرسون في المدارس التركية، إضافةً إلى 61 ألف طالب في الجامعات التركية وفق بيانات عام 2023، حسب بيانات وزارة التربية التركية.
ومع رغبة السوريين في زيارة بلادهم مؤقتًا بعد سنوات طويلة من التهجير للقاء عائلاتهم، أصدرت وزارة الداخلية التركية، في 25 كانون الأول 2024، قرارًا يسمح لأحد أفراد الأسرة من حاملي بطاقة الحماية المؤقتة بزيارة سوريا ثلاث مرات خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025.
وبيّنت إدارة الهجرة التركية خلال اجتماع مع ممثلين لمنظمات المجتمع المدني وناشطين في مجال اللاجئين السوريين، أن الزيارة لا تعني العودة الطوعية، ويمكن للزائر البقاء بعدها في تركيا، ولن يفقد صفة “الحماية المؤقتة”.
ووفقًا لتصريحات وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، بلغ عدد اللاجئين السوريين العائدين إلى بلادهم منذ سقوط نظام الأسد وحتى 29 كانون الثاني الماضي 81 ألفًا و576 لاجئًا.
كما اتخذت الحكومة التركية خطوات إضافية لتسهيل عودة السوريين، شملت السماح لهم بالمغادرة مع أثاثهم وممتلكاتهم، واستخدام سياراتهم المسجلة في تركيا لمغادرة البلاد بسهولة، وذلك بعد إتمام إجراءات التسجيل لدى الكاتب العدل (النوتر).
إضافةً إلى إعفائهم من شرط المعاملات البنكية لتحويل الأموال، وتعديل بعض القوانين المتعلقة بحمل المجوهرات والنقد، مما يتيح لهم نقل ممتلكاتهم إلى داخل سوريا دون قيود معقدة.
منازل مدمّرة واقتصادٌ منهار
ورغم التسهيلات التي قدمتها الحكومة التركية، لا يزال اتخاذ قرار العودة أمرًا صعبًا بالنسبة للغالبية العظمى من السوريين، وذلك لأسباب متعددة ومتداخلة.
يتخوّف أحمد، وهو لاجئ سوري يعيش مع زوجته وطفليه في إسطنبول، من قلة فرص العمل وضعف الأجور في سوريا، وفقًا لما ينقله له أقاربه في الداخل، حيث لا تتناسب الرواتب مع الارتفاع الكبير في تكاليف المعيشة وأجور المنازل.
بالإضافة إلى ذلك، يواجه أحمد مخاوف أخرى تتعلق بشبه انعدام الخدمات الأساسية في سوريا، مثل الكهرباء والإنترنت، إلى جانب الانقطاعات المتكررة في شبكات الاتصالات والمياه.
كما أن عائلته في الداخل فقدت عدة منازل خلال القصف على الغوطة الشرقية قرب دمشق، ولم يتبقَّ سوى منزل صغير يعيش فيه إخوته ووالدته، مما يعني أنه سيضطر إلى استئجار منزل في حال عودته، وهو تحدٍّ إضافي يضعه في حساباته.
ويقيم أحمد وعائلته بشكل غير قانوني في إسطنبول، حيث يحملون بطاقة الحماية المؤقتة من ولاية أخرى، ما حال دون تسجيل أطفاله في المدارس الحكومية التركية، كما أنه معرض لخطر الترحيل في أي لحظة، ومع ذلك، لا يزال يجد قرار العودة غاية في الصعوبة بسبب التحديات التي تنتظره داخل سوريا.
وحسب إحصاءات الأمم المتحدة، تعيش سوريا ظروفاً اقتصادية ومعيشية سيئة للغاية، إذ يفتقر نحو 13 مليون أي أكثر من 50% من السكان إلى الأمن الغذائي، ويعيش نحو 90% منهم تحت خط الفقر.
كما تصل نسب الدمار في سوريا إلى مستويات هائلة، حيث قدّر تقرير مسحي صادر عن معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR) عام 2019 أن عدد المباني المدمرة بلغ نحو 130 ألف مبنى، فيما تصل التكلفة الأولية لإعادة الإعمار إلى 400 مليار دولار.
فيما كشف وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال الحالية في سوريا، أن عدد المدارس المدمرة بشكل جزئي أو كلي يبلغ نحو 10 آلاف مدرسة، وحسب بيان لفريق ” منسقو استجابة سوريا” تجاوز عدد الاطفال المتسربين من المدارس 2.2 مليون طفل في البلاد.
حاجز اللغة مجدداً
على مدى السنوات الماضية عانى اللاجئون السوريون في تركيا من صعوبة الاندماج في المجتمع بسبب حاجز اللغة، وعدم توفر دعم حقيقي من أي جهة يعينهم على التفرغ لتعلمها، كما هو الحال في الدول الأوروبية مثلاً.
واليوم، تعود اللغة لتشكّل عائقًا مجددًا، ولكن هذه المرة أمام أبناء اللاجئين السوريين بصورة معاكسة، إذ يتلقى الطلاب السوريون في تركيا تعليمهم باللغة التركية، ووصل بعضهم إلى مراحل دراسية متقدمة دون أن يتقنوا اللغة العربية.
تتردد نهى في اتخاذ قرار العودة رغم شوقها الشديد لرؤية أهلها في سوريا بعد تسع سنوات من الفراق. فمع أن رغبتها قوية في زيارة وطنها، إلا أن لديها أربعة أبناء في مراحل دراسية متقدمة، لا يتقنون سوى اللغة التركية، ما يجعل انتقالهم إلى النظام التعليمي في سوريا تحديًا صعبًا.
تحلم نهى بزيارة قصيرة لعائلتها والعودة إلى تركيا لمساعدة أبنائها في إكمال تعليمهم، ريثما يتمكنون من إتقان اللغة العربية بدرجة تؤهلهم للالتحاق بالمدارس السورية. لكن هذا الخيار غير متاح لها، نظرًا لأنها تعيش تحت بند الحماية المؤقتة، مما يضعها وعائلتها في حالة من التردد والحيرة، دون القدرة على اتخاذ قرار حاسم حتى الآن.
نور، طالبة طب أسنان في إحدى جامعات إسطنبول، تعيش في تركيا منذ عشر سنوات مع عائلتها التي اضطرت لمغادرة سوريا بطرق غير شرعية إلى لبنان ثم تركيا، بعد تعرض والدها الطبيب للاعتقال ثم الاستدعاء مجددًا للتحقيق بتهمة مساعدة النازحين ومعالجة معارضين للنظام، إلى جانب محاولة جيش النظام اقتحام بلدتهم.
ورغم حصول نور وعائلتها على الجنسية التركية، مما يتيح لهم زيارة سوريا على عكس اللاجئين تحت الحماية المؤقتة، إلا أن الاستقرار الدائم هناك لا يزال مستبعدًا، بسبب اختلاف المناهج بين الجامعات التركية والسورية وصعوبة معادلة الشهادات، مما قد يجبرها على إعادة سنة دراسية كاملة أو أكثر إذا قررت الانتقال لإكمال دراستها في سوريا.
أما ريم، طالبة هندسة برمجيات في إحدى الجامعات التركية، فتختلف معاناتها كونها تعيش مع عائلتها تحت الحماية المؤقتة، وتواجه ضغوطًا معيشية كبيرة بسبب الارتفاع الحاد في تكاليف السكن والمعيشة في إسطنبول. إذ ارتفع إيجار منزلهم مؤخرًا إلى 25 ألف ليرة تركية شهريًا (أكثر من 700 دولار).
تمتلك الأسرة منزلًا في سوريا متضررًا جزئيًا بسبب قصف النظام، وترى أن إصلاحه والعودة إليه سيكون أقل عبئًا ماليًا من البقاء في إسطنبول، لكن استكمال ريم لدراستها الجامعية يقف عائقًا أمام اتخاذ القرار النهائي.
تعتقد العائلة أن طلاب الجامعات تحت الحماية المؤقتة بحاجة إلى تعديل وضع إقاماتهم إلى إقامات طلابية، مما يمنحهم مرونة في زيارة عائلاتهم في سوريا والعودة لمتابعة دراستهم في تركيا دون مخاطر فقدان وضعهم القانوني.
فيما تكمن معاناة طلاب آخرين في الانتقال إلى سوريا بعدم وجود مثيل لتخصصهم أصلاً في الجامعات السورية، كتخصصات الهندسة الحيوية والجينية، وبعض تخصصات إدارة وهندسة الطيران والطاقات المتجددة وهندسة التعدين، إضافة لبعض فروع البرمجيات الحديثة المرتبطة بالذكاء الصناعي، وتخصصات فرعية مرتبطة بالإعلام وأخرى بالسينما والمسرح وغيرها.
جهود طلابية لإيجاد حلول
تعِدّ رابطة الطلبة السوريين الدوليين رسالة ستقدّم لوزارة التعليم العالي في سوريا، بحسب ما أخبرنا عبدالله كفرناوي مؤسس الرابطة.
تلخّص الرسالة المطالب الأساسية التي يمكن للجانب السوري المساعدة بها، بهدف تسهيل عودة الطلاب السوريين، أبرزها اعتماد شهادة الثانوية التركية وامتحانات القبول المعتمدة في الجامعات التركية، والاعتراف بالجامعات الحكومية والخاصة في تركيا وخارجها، بما في ذلك التعليم المفتوح، وفتح باب الاستكمال التعليمي دون عوائق، وعدم إجبار الطالب على إعادة سنة دراسية في حال عدم تطابق بعض المواد.
بالنسبة للخريجين، تطالب الرابطة في رسالتها بإعفائهم من امتحانات المعادلة الإضافية، واستبدالها بخصم نقاط من المعدل، إضافة إلى السماح لهم بالتسجيل في برامج الدراسات العليا دون الحاجة إلى تعديل إضافي، طالما اجتازوا امتحان اللغة الإنجليزية والامتحان المعياري في التخصص، باعتبارهما كافيين لإثبات كفاءتهم الأكاديمية.
وبحسب كفرناوي فلم يتجاوز عدد طلاب الجامعات العائدين إلى سوريا حتى الآن 50 طالباً.
قصص العائدين
بالمقابل، لم يتردد بعض اللاجئين في العودة إلى سوريا فور سقوط نظام الأسد، حيث مثّل ذلك انفراجًا لأوضاع غير مستقرة عاشوها لسنوات في بلدان اللجوء.
نعمة معطي وزوجها كانا من بين هؤلاء، فقد اضطرا لدخول تركيا بطريقة غير شرعية، بعد انشقاق والدها عن جيش النظام، ومشاركة زوجها في الثورة، ما دفعهم إلى اللجوء إلى لبنان، حيث تعرضت العائلة لملاحقات وتهديدات من قبل عناصر تتبع لحزب الله، خاصة أن زوجها، الذي كان طالبًا في هندسة الطاقة النووية بسوريا، لم يتمكن من استكمال دراسته بسبب ملاحقات النظام.
عند محاولتهم دخول تركيا، أوقفهم حرس الحدود، لكنهم تمكنوا لاحقًا من العبور، إلا أن مشكلاتهم لم تنتهِ عند هذا الحد، فخلال محاولتهم استخراج بطاقة الحماية المؤقتة، اكتشفوا أنهم ممنوعون من الحصول عليها بسبب الكود “V-87”، الذي يحرمهم من حق الإقامة القانونية في البلاد.
تقول نعمة: “تعرضنا للابتزاز والتهديد من قبل إدارة المشفى الخاص الذي أنجبت فيه طفلي، حيث هددونا باستدعاء الشرطة لترحيلنا عندما طلبنا شهادة ولادة”.
وتضيف: “بذلنا محاولات عدة لتصحيح وضعنا القانوني، من تقديم طلبات استرحام إلى رفع قضايا عبر محامين، لكنها جميعًا باءت بالفشل”.
واجه زوجها أيضًا استغلالًا متكررًا في سوق العمل بسبب وضعه القانوني، ما جعله عرضة للابتزاز وانتهاك الحقوق العمالية. وبعد أكثر من ست سنوات من المعاناة في تركيا، قررت الأسرة العودة إلى سوريا بعد نحو عشرين يومًا من سقوط النظام رغم صعوبة الوضع المعيشي في الداخل، إلا أنهم وجدوه أكثر استقرارًا مقارنة بالخوف المستمر من الترحيل الذي كانوا يعيشونه في تركيا.
ساعدهم في اتخاذ هذا القرار السريع امتلاكهم منزلًا في سوريا، خاصة أن منطقتهم في القلمون بريف دمشق لم تتعرض لدمار كبير مقارنة بمناطق أخرى في البلاد.
يُذكر أن اللاجئين السوريين في تركيا تعرضوا لحملات عنصرية ممنهجة، قادتها بعض أحزاب المعارضة واستغلتها في حملاتها الانتخابية، ومع تصاعد التوتر بين عامي 2021 و2024، تحولت هذه الحملات إلى اعتداءات في الشوارع والمحال التجارية.
كما وثّقت تقارير حقوقية انتهاكات تعرض لها السوريون في تركيا، شملت عمليات ترحيل قسري، رغم نفي أنقرة المستمر لهذه الادعاءات، إلا أن وزارة الداخلية التركية كانت تعلن بشكل متكرر عن ترحيل أجانب ضمن إجراءات مكافحة الهجرة غير الشرعية في البلاد.
ووثقت تقارير على مدار السنوات الماضية انتهاكات تعرض لها السوريون في تركيا، وعمليات ترحيل قسريّ طالت بعضهم، لكن أنقرة دائمًا ما نفت صحة هذه التقارير، رغم إعلانات متكررة من وزارة الداخلية عن عمليات ترحيل لأجانب في إطار مكافحة الهجرة غير الشرعية في البلاد.