“الولايات المتحدة ستتولى قطاع غزة، وسنقوم بعمل جيد هناك أيضًا، سنمتلكه ونتحمل مسؤولية تفكيك جميع القنابل غير المنفجرة. أرى أن ملكية أمريكية طويلة الأمد ستجلب استقرارًا كبيرًا لتلك المنطقة من الشرق الاوسط، وربما للشرق الأوسط بأكمله، وكل من تحدثت إليهم أحبوا فكرة تملك الولايات المتحدة لهذه القطعة من الأرض”.
بهذه الكلمات فجَّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “قنبلة” بشأن رؤيته لغزة ومستقبلها وكيفية إدارتها، خلال لقاء برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن، فاقت نتيجته كل التوقعات والأحلام الإسرائيلية التي عبَّر عنها نتنياهو بعدم استطاعته إخفاء ابتسامته وفرحته الكبيرة بخطة ترامب بشأن غزة، والتي اعتبر أنها “ستغير التاريخ”، لكن هل يمكن لهذا أن يحدث فعلاً؟
إيديولوجية إعادة الإعمار
أصبحت عملية إعادة الإعمار أو ما يُصطلح عليها “إعادة البناء بشكل أفضل” أحد الشعارات الأكثر شيوعًا في الحد من مخاطر الكوارث التي توفر فرصة لتشجيع التحسينات ليس فقط في السلامة الهيكلية للمباني والبنية الأساسية، ولكن أيضًا في معالجة التفاوتات البنيوية والظلم، أي الأسباب الجذرية للكوارث.
وتُعرِّف الأمم المتحدة “إعادة البناء بشكل أفضل” على أنها “استخدام مراحل التعافي وإعادة التأهيل وإعادة الإعمار بعد الكارثة لزيادة قدرة الدول والمجتمعات على الصمود من خلال دمج تدابير الحد من مخاطر الكوارث في استعادة البنية التحتية المادية والأنظمة المجتمعية، وفي تنشيط سبل العيش والاقتصادات والبيئة”.
وفقًا لهذا التعريف الذي أصبح أيضًا عبارة مبتذلة على شفاه العديد من صناع السياسات، فإن عملية إعادة الإعمار يمكن أن ننظر إليها باعتبارها فرصة للتنمية، على سبيل المثال، أدى زلزال هانشين المدمر في عام 1995 إلى تعزيز قواعد البناء في جميع أنحاء اليابان، مما أنقذ العديد من الأرواح خلال زلزال شرق اليابان العظيم في عام 2011.
ومع ذلك، فإن تعريف “الأفضل” في شعار الحد من مخاطر الكوارث لا يعني دائمًا “الخير للجميع”، مما يعني أن الفوائد ليست دائمًا موزعة بشكل عادل، وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: فرصة لماذا ولمن؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من تحليل ظروف تشيلي في مواجهة زلزال وتسونامي عام 2010، الذي قتل أكثر من 500 شخص، وشرد أكثر من 800 ألف آخرين، وتسبب في تضرر 370 ألف منزل، وتدمير البنية التحتية بشكل كامل، ووصلت الخسائر الاقتصادية الإجمالية إلى 30 مليار دولار.
بالإضافة إلى العدد الكبير من الضحايا والأضرار، أثار الزلزال سلسلة من الصراعات الاجتماعية المتعلقة بعملية إعادة الإعمار في المناطق المتضررة، وهي الأكثر اكتظاظًا بالسكان والأكثر كثافة سكانية في البلاد.
في عام 2012، نشرت جامعة هارفارد الأمريكية دراسة للبروفيسور ديفيد هارفي، بعنوان “السياسات النيوليبرالية بعد الكوارث”. كان هارفي يشرح كيف تستغل الحكومات والشركات الكوارث الطبيعية لعمل إعادة هيكلة للمجتمع والاقتصاد بشكل يخدم مصالحها.
استشهد هارفي في الدراسة بزلزال تشيلي المدمر، حيث تم تطبيق وترسيخ النيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة، وهي فلسفة اقتصادية تسعى إلى تحويل الهيمنة الاقتصادية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وقد أثبتت نفسها أيضًا باعتبارها المحرك السائد للتنمية الدولية وإعادة الإعمار بعد الكوارث، لكن نتائجها الاجتماعية والاقتصادية أدت إلى تضخيم تأثير الكارثة.
وشهدت تقارير مختلفة نشرتها منظمات حقوق الإنسان بعد الزلزال على “إيديولوجية إعادة الإعمار”، وذكرت أن هذا النموذج (إعادة الإعمار) أثبت أنه وسيلة لتفكيك الدولة من خلال تعزيز ملكية القطاع الخاص للأعمال التجارية والممتلكات، ونقل الكفاءات إلى اللاعبين من القطاع الخاص، الذين يُنظر إليهم على أنهم “بارعون وأقوياء وبارزون”.
بعد هذه الكارثة، فرضت الشركات واقعًا جديدًا على سكان المناطق المتضررة الذين كانوا ينتظرون إنقاذهم من الكارثة، وخلال عملية إعادة الإعمار، اقترحت الشركات إجراء إعادة هيكلة تتجاوز عملية الإعمار، وركزت على منح الإعانات وتبسيط البيروقراطية وتسهيل مشاركة القطاع الخاص، في حين تم تخصيص حلول الإسكان الطارئة متوسطة الجودة والمعزولة والبعيدة عن مراكز حياة الضحايا اليومية والاجتماعية.
مثلاً، كانت الموانئ البحرية قبل الزلزال تمثل مصدر دخل للصيادين المحليين، لكن بعد الزلزال تم بيع الكثير من الموانئ العامة لمستثمرين أجانب بحجة أن القطاع الخاص قادر على إعادة بنائها وتشغيلها بشكل أكثر كفاءة، نتيجة لذلك، فقد آلاف الصيادين مصدر رزقهم، وتعرضوا للتهجير من مناطقهم.
وتفيد التقارير التي تم جمعها في الميدان بعد أيام قليلة من وقوع الزلزال أن “وكلاء العقارات” وصلوا وعرضوا شراء قطع الأراضي بسرعة، وبأسعار أقل كثيرًا من قيمتها قبل الزلزال، وباعت بعض الأسر أراضيها، لأنها كانت في حالة صدمة، معتقدة أنه من الأفضل تأمين بعض المال بسرعة.
وحدث هذا في المقام الأول في المناطق الأكثر تضررًا في المراكز التاريخية للمدن الرئيسية في الداخل وسواحل المناطق الساحلية، ما جعل عمليات ما بعد الكارثة فرصًا مثمرة لمصادرة الأراضي ذات الموقع الجيد.
رأسمالية الكوارث
تحدث مفكرين آخرين عن فكرة استغلال الكوارث لتثبيت واقع جديد تستفيد منه الشركات أو الحكومات، من بينهم الكندية نعومي كلاين في كتابها “عقيدة الصدمة”، التي استشهدت بالواقع الجديد الذي فُرض على الصيادين في سريلانكا بعد تعرضها لتسونامي شهير عام 2004.
سمحت عواقب التسونامي المدمر للقطاعات القوية اقتصاديًا وسياسيًا في المجتمع السريلانكي باستغلال الكارثة لتحقيق مكاسب خاصة على حساب الفئات الأكثر ضعفًا، ووقفت حكومات أخرى تأثرت بالكارثة في الهند وإندونيسيا وتايلاند متواطئة أو مكتوفة الأيدي بينما تم الاستيلاء على الأراضي وإبعاد المجتمعات الساحلية لصالح المصالح التجارية.
ووفقًا لتقرير صادر عن وكالات الإغاثة، سلط الضوء على التمييز والاستيلاء على الأراضي والعنف ضد الناجين من تسونامي في المحيط الهندي، فقد أجبرت الحكومة الصيادين على ترك ممتلكاتهم على الشاطئ تحت ستار الأمان لإفساح المجال لمطوري الفنادق لإنشاء المنتجعات السياحية الراقية، وهي العملية التي تعادل، على حد تعبير أحد الناشطين المحليين، “تسونامي ثاني لعولمة الشركات”.
ومع ارتفاع أسعار الأراضي الساحلية لصالح الأنشطة السياحية، وتزايد رغبة شركات الصيد الصناعي في الاستحواذ على المناطق البحرية، عملت الحكومات في تلك البلدان على تثبيط عزيمة الناس ـ بل وحتى منعهم ـ من العودة إلى أراضيهم الأصلية وصيد الأسماك في تلك المناطق، وفي بعض المناطق، لم تدفع الحكومات سوى التعويضات لأولئك الذين تخلوا عن حقوقهم في الأراضي الساحلية.
وفي بيان كُتب بعد بضعة أشهر فقط من التسونامي، أعلن الناجون من الكارثة وداعميهم الحاجة إلى إعادة إعمار، وحذروا من المطورين المفترسين من رجال الأعمال والسياسيين، الذين كان التسونامي بمثابة استجابة لصلواتهم، لأنه قضى حرفيًا على هذه المناطق الساحلية من المجتمعات التي كانت تقف في طريق خططهم لبناء المنتجعات والفنادق والكازينوهات ومزارع الروبيان، وأصبحت كل هذه المناطق الساحلية بالنسبة لهم أرضًا مفتوحة.
وفي مثل هذه المواقف، تكون “رأسمالية الكوارث” – كما تسميها كلاين – قاسية، وهي نظام عنيف يتطلب في بعض الأحيان الترهيب للقيام بوظيفته، حيث يبدأ العملاء المضاربون في العمل أثناء مرحلة الطوارئ، في نفس الوقت تقريبًا الذي تصل فيه الإغاثة الأولى إلى المناطق.
على سبيل المثال، في فترة ما بعد إعصار كاترينا في نيو أورليانز والمنطقة المحيطة بها، في أواخر أغسطس/ آب 2005، سارع “عملاء اليمين” باستغلال الدمار لفتح مدارس خاصة، واستبدال المساكن العامة بشقق سكنية، والتهرب من التنظيم الحكومي.
وتقدم كلاين وصفًا غنيًا للمكائد السياسية المطلوبة لفرض سياسات اقتصادية بغيضة على البلدان المقاومة. على سبيل المثال، في نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تؤد إعادة بناء اليابان إلى أشكال حضرية جديدة للمدن في مختلف أنحاء البلاد فحسب، بل أدت أيضًا إلى وضع دستور جديد. وعلى نحو مماثل، تضمنت إعادة بناء ألمانيا تشييد المباني، فضلاً عن البنية الأساسية المبكرة للحرب الباردة.
هل نعيد البناء أم نعيد الهيكلة؟
توضح هذه النماذج كيف تستغل الدول والشركات الكوارث لخلق بيئة جديدة تعيد بها هيكلة البنية الاجتماعية والاقتصادية للأماكن المدمرة، وهذا بالفعل “الحل السحري” الذي قدمه مبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، بناءًا على التجارب السابقة.
خلال زيارته لتل أبيب لمناقشة المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار بين “إسرائيل” وحماس، اتضح من اللقاءات التي أجراها ويتكوف أن من بين أهدافها خطة للتنمية الاقتصادية تتجاوز إعادة البناء إلى إعادة هيكلة المجتمع الفلسطيني، خاصة بعدما تابع العالم مشاهد عودة أهالي غزة من الجنوب إلى ما تبقى من بيوتهم المدمرة في شمال غزة، والتي تعكس على نطاق واسع تمسك الغزيين بأرضهم وإصرارهم على العودة لمنازلهم رغم الدمار.
ويتكوف، وهو مسثتمر عقاري ومتبرع لحملة ترامب الانتخابية وله علاقات تجارية مع دول خليجية، تحدث خلال لقاءات مع ممثلين إسرائيليين، من بينهم نتنياهو، عن خطة لإعادة إعمار غزة تتجاهل المظالم السياسية التي يتعرض لها أهالي القطاع، وتبدأ بتشجيع الفلسطينيين على العمل بدول عربية وإسلامية وترك القطاع المدمر كأولوية لكنها ستعمل على انخراط من أراد البقاء في عملية إعادة الإعمار.
تقوم خطة مبعوث ترامب على الرأسمالية الليبرالية الجديدة التي تقوم على الحفاظ على التفاوت والظلم المتجذر في الهياكل الاجتماعية والسياسية، وتتمثل رؤيته في بناء عمارات شاهقة بارتفاع نحو 50 طابقًا، يكون لسكان غزة فيها شقة واحدة بسعر رمزي يتم سداده على مدار 25 عامًا، بعدها تصبح ملكًا شخصيًا لهذه العائلة.
هذا السعر ليس الثمن الوحيد، حيث ستتنازل تلك العائلة عن حق العودة لبلدانها الأصلية التي طُردت منها عائلاتهم في زمن النكبة الأولى، وكذلك سيتوجب على أفرادها العمل في مجالات الزراعة والسياحة والتكنولوجيا، وهي الموضوعات التي سيتم التركيز عليها خلال إعادة إعمار القطاع.
الخطة تتضمن أيضًا إقامة مجموعة من المنتجعات السياحية والفنادق الفاخرة على سواحل غزة. وعلى الطريقة الصينية، سيكون السكن في منطقة العمل نفسها، ويتم تحويل الأنفاق تحت الأرض التي تستخدمها المقاومة لتدمير جيش الاحتلال إلى مترو أنفاق وخط سكة حديد لشبكة قطارات تربط كلاً من مصر والأردن والسعودية والضفة الغربية وغزة ببعضهما.
ويتكوف أشار في ختام زيارته إلى المنطقة إلى إمكانية مشاركة شركات عربية وفلسطينية بالمشروع شريطة موافقة القطاع الخاص “الإسرائيلي”، مشيرًا إلى أن عملية إعادة الإعمار قد تستغرق من 10 إلى 15 عامًا، تسبقها عملية إفراغ للردم الضخم ومعالجته بشكل مهني طيلة 5 سنوات.
مقترح ويتكوف شبيه بمقترح “صفقة القرن” التي كانت أحد أبرز خطط إدارة ترامب خلال فترة رئاسته الأولى، وقادها صهره ومستشاره السابق لشؤون الشرق الأوسط، جاريد كوشنر، الذي اعتقد أن بإمكانه إنهاء القضية الفلسطينية بشكل كامل عبر القضاء على المقاومة وتطبيع الدول العربية مع الاحتلال والسماح لـ”إسرائيل” بضم 30% من الضفة الغربية، وتهجير سكان غزة من أرضهم، ليقيم عليها منتجعات سياحية، مع توفير استثمارات بقيمة 50 مليار دولار لتنفيذ مشاريع في دولة فلسطين الجديدة كما يقول ترامب.
هل يتكرر الكابوس الأمريكي في غزة؟
رغم أن عملية “إعادة البناء بشكل أفضل” تركز على الاستمرارية وتجاوز الأزمة بسرعة دون تغيير الهياكل السياسية والاقتصادية والمجتمعية الأساسية، واصل ترامب المفاجأت باقتراحات بشأن غزة، الأرض التي تحولت إلى رماد بفعل الحرب الإسرائيلية، لكنها أخفت ما هو أكثر من مجرد إعادة الإعمار.
في حملته الانتخابية الأخيرة، تحدث ترامب عن رغبته في توسيع مساحة “إسرائيل” على خريطة الشرق الأوسط، ووصفها خلال كلمة ألقاها في مؤتمر انتخابي أمام جمع من اليهود بأنها “بقعة صغيرة جدًا مقارنة بباقي الأراضي الشاسعة حولها”، وأعاد الكرَّة مجددًا وهو جالس على مكتبه في البيت الأبيض باستخدام القلم، وشبَّه “سطح مكتبه بالشرق الأوسط، ورأس هذا القلم بإسرائيل”.
وقبل أسابيع، توعد ترامب بإنهاء الصراع في الشرق الأوسط وفتح أبواب الجحيم ما لم ينته القتال بين حماس و”إسرائيل” قبل وصوله إلى سدة الرئاسة مجددًا، وهو ما تحقق فعلاً قبل عودته إلى البيت الأبيض، لكنه ما زال يؤكد على عدم وجود ضمانات على استمرار وقف إطلاق النار.
وبعد يوم من تنصيبه، أطلق ترامب تصريحات تخص قطاع غزة، متحدثًا عن إمكانية إعادة إعماره، واقترح نقل جميع السكان الفلسطينيين، وهم أكثر من مليونين، إلى الأردن ومصر وأماكن أخرى، وهو ما لاقى رفضًا قاطعًا من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وحماس.
وبلغ الأمر ذروته خلال زيارة نتنياهو للولايات المتحدة، إذ واصل ترامب اقتراحاته بشأن قطاع غزة المدمر وتطويره اقتصاديًا، مستدعيًا غطرسة أمريكا أثناء حروب فيتنام وأفغانستان والعراق، وتحدث لأول مرة عن نيته احتلال غزة وتهجير سكانها وإعادة توطينهم خارج غزة، لتتولى الولايات المتحدة الملكية وإعادة الإعمار وتحويلها إلى ما وصفه بـ”ريفييرا الشرق الأوسط”، وهو ساحل بين فرنسا وإيطاليا على البحر المتوسط، يُشتهر بمشهده الفاخرة، ومنتجعاته السياحية الخلابة.
في تطبيقها العملي، تعمل إعادة الإعمار وفق رؤية ترامب ودعواته لإعادة بناء الاقتصاد والبنية الأساسية على تهميش الفلسطينيين، وبما أنها تقوم على تقليد غربي نيوليبرالي، فإن المتضررين يُعرض عليهم خيارين: أن يُترَكوا ليعانوا من ويلات الحرب الإسرائيلية مع القليل من المساعدة الدولية المنظمة أو لا شيء منها، أو أن يتم دمجهم في التنمية النيوليبرالية العالمية التي من شأنها أن تزيد من قمعهم.
وتتجلى هنا بوضوح “رأسمالية الكوارث” التي تعكس سعي الحكومة الأمريكية لجني الأرباح الطائلة من ويلات حرب غزة ومعاناة سكانها، فقد اتسمت خطة ترامب بالغموض فيما يتعلق بمستقبل سكان القطاع والمدة الزمنية التي سيبقون فيها خارجه، وإمكانية عودتهم بعد إعادة الإعمار، وفيما يتعلق بالكيفية التي ستسيطر بها الولايات المتحدة على القطاع بأسره، وما إذا كان يعتزم الضغط على دول الخليج لتمويل خطته، وهي الدول ذاتها التي تستثمر مع صهره كوشنر.
ولا تتوقف رؤية ترامب الجنونية عند حدود غزة، إذ يبدو أن له رؤية خاصة أيضًا بالضفة الغربية، فقد قال “نحن نناقش القضية لكن لم نتخذ قرارًا نهائيًا بعد”، ووعد بأن يعلن قراره خلال الأسابيع الأربعة المقبلة، وبالتالي سيسمح للجهات الفاعلة النخبوية بتحديد ما يشكل خطرًا وما لا يشكل خطرًا، ومن هو المسؤول عن هذه المخاطر ومن هو غير المسؤول عنها، وما هي أشكال العمل التي ينبغي اتخاذها استجابة لهذه المخاطر.
ولم يفاجئ ترامب – الذي اعتاد على استخدام أسلوب “الرجل المجنون” – العالم فقط بتصريحاته، بل حتى المحيطين به، فوفق ما نقلته صحيفة “وال ستريت جورنال” عن مصادر مطلعة، فإن المسؤولين من خارج الدائرة المقربة لترامب لم يعلموا بهذا المقترح خلال التخطيط للاجتماع بنتنياهو.
Wait what? The U.S. is going to occupy Gaza? We were promised no more endless wars. By my count we are occupying Greenland, Canada, Panama Canal, and now..Gaza? https://t.co/9FKDWPEgvy
— Rep. Eric Swalwell (@RepSwalwell) February 5, 2025
ومع ذلك، عند التدقيق في الأمر، يتضح أن جاريد كوشنر ناقش خطة شبيهة لخطة ترامب بعد شهور قليلة فقط من الحرب على غزة، وبدا أن لديه العلاقات السياسية والأموال اللازمة لتحويلها إلى أمرًا واقعًا، ففي عام 2021، أطلق صندوق استثماري باسم “أفينيتي بارتنرز”، يبدو أنه صُمم خصيصًا لتحقيق رؤية ترامب ببناء مدينة فخمة في غزة، خاصة أن السعودية والإمارات من أبرز الداعمين لشركة كوشنر، التي استثمرت في شركتين إسرائيليتين بفضل الأموال الخليجية.
وبينما كانت “إسرائيل” تدرس اجتياح رفح، أدلى كوشنر بتصريحات حول إمكانية تهجير الفلسطينيين قسرًا إلى صحراء النقب في الجزء الجنوبي من فلسطين المحتلة، أو إلى مصر، وتعهد ببذل قصارى جهده تحويل الأراضي الواقعة على سواحل غزة إلى ممتلكات ذات قيمة كبيرة بعد تفريغها من السكان، لكن بموجب القانون الدولي الذي يفرض احترام الحدود الإقليمية، فإن محاولات نقل السكان قسرًا محظورة تمامًا، كما أن الولايات المتحدة لا تتحكم في حقوق الملكية للواجهة البحرية لغزة أو حدودها البحرية.
وتتشابه تصريحات ترامب وصهره بشأن ما بدا أنه “احتلال أمريكي لقطاع غزة” مع وعود حرب فيتنام التي شملت حماية الفيتناميين من المد الشيوعي، وتحسين البيئة الاقتصادية والعلمية والصحية في البلاد، إلا أن أنفاق الفيتناميين ومقاومتهم أذلت الأمريكيين، وكبدتهم خسائر فادحة، وأجبرتهم على الانسحاب وإنهاء الحرب التي استمرت نحو عقدين من الزمن بعد أن فقد الجيش الأمريكي أكثر من 60 ألف جندي.
ومع ذلك، دفعت “عنجهية” الجيش الأمريكي إلى دخول أفغانستان والعراق بعد ذلك، مع وعود لكلا الشعبين بجلب الديمقراطية والازدهار للشعبين، لكن الحلم الأمريكي تحول إلى كابوس مرير بفعل المقاومة الشعبية التي حررت البلدين بعد حروب طويلة.
وتبدو هذه المخططات بعيدة عن الواقع، وتوضح غياب فهم هؤلاء لطبيعة الصراع الموجود، فرغم الدمار الممنهج وتصريحات قيادات الاحتلال بتحويل القطاع إلى مكان غير قابل للعيش فيه، إلا أنه مع أول أيام الهدنة عادوا إلى منازلهم في شمال القطاع، غير عابئين بمنتجعات ومترو أنفاق، متمسكين بأرضهم التي سرقها الاحتلال منهم.