“حرب العقول” هو مصطلحٌ تقني مستعار من المعجم الحربي للجماعات المسلحة غير النظامية في صراعاتها مع الدول والأنظمة في منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها صراعات حتمية من منظور فكري، بين قوى غير متكافئة عدديًا أو تسليحيًا، ومختلفة بنيويًا في تنظيمها، وتكتيكيًا وإستراتيجيًا في أهدافها، تحتاج عمليًا (هذه القوى) إلى ترشيد الجهد وإدارة الصراع، بعيدًا عن المفهوم التقليدي للحرب الذي قد يتبناه كل طرف في صراعاته مع القوى المكافئة له، واتساقًا مع حقيقة مساهمة التكنولوجيا في خلق أدوات وفضاءات جديدة للحرب.
وقد برز هذا المصطلح وتطبيقاته في الإقليم مؤخرًا بشكل واضح، نظرًا لزيادة النشاط العملياتي بين الجماعات المسلحة والأنظمة (الدولة الوطنية) منذ اندلاع شرارة الربيع العربي من جهة، وبالتزامن مع تطور الصراع العربي “الإسرائيلي” وتشكل ما يعرف بـ”محور المقاومة” من جهة أخرى، وهذا هو ما يهمنا، حيث تكتسب كل جبهة إستراتيجية من هذا المحور خصوصية جغرافية وتاريخية، تفرض عليها أدوات واعتبارات معينة في صراعها مع الاحتلال الإسرائيلي.
فما يسري على جبهة غزة، قد لا يسري ضرورةً على جبهة سوريا، كما أن غزة اليوم، على المستوى الأمني والإستراتيجي، ليست غزة قبل “فك الارتباط” مع “إسرائيل” عام 2005، وسوريا بعد الحرب – في موازين القوى وقواعد الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي – قد لا تكون مثل سوريا في أثناء الحرب، بل ولسياقات أكثر تحديدًا مثل موعد الانتخابات في “إسرائيل” دور مهم في تحديد ممكنات الحرب ومستقبلها والغرض منها.
لا يعتبر القضاء على تموضع حزب الله هدفًا منطقيًا بالنسبة لـ”إسرائيل”، في الوقت الحاليّ على الأقل، نظرًا لأسباب ثقافية واجتماعية تتعلق بكون الحزب بات جزءًا أساسيًا من النسيج الوطني للدولة اللبنانية
ما علاقة ذلك بالمشهد على الحدود اللبنانية؟
ما جرى بالأمس على الحدود الشمالية لـ”إسرائيل” والجنوبية للبنان وحزب الله، في إطلاق النار، وكثافة هذا الإطلاق، ومواقعه، وأسبابه التي أدت إليه، وتوقيت كبحه، وتبعاته لاحقًا، كان فصلًا مكثفًا ومُركبًا من “حرب العقول”، الذي حاول خلاله كلا الطرفين توظيف أدواته لحصد أكبر قدر من المكاسب والخروج بأقل قدر من الخسائر.
أرادت “إسرائيل” يوم السبت الماضي استغلال زخم حملتها على بعض الأهداف الإيرانية في المنطقة، بالأراضي السورية والعراقية، التي اعتادت أن تستهدفها مؤخرًا بلا تكلفة حقيقية (غياب الردع) في توجيه ضربة إستراتيجية طال انتظارها لـ”حزب الله” في معقله بالضاحية الجنوبية لبيروت، وبطبيعة الحال، ما يهم “إسرائيل” في كل إقليم وجبهة من الأهداف، قد يختلف عن الجبهة الأخرى.
فبينما تسعى “إسرائيل” بوضوح للقضاء على التموضع الإيراني في سوريا، أو ميليشيات “فيلق القدس” على وجه التحديد، وتتحدث عن استحالة القبول بتحويل الأراضي السورية لفناء خلفي وقاعدة لتداوا الأسلحة المتطورة بين الأذرع الإيرانية، استغلالًا لممكنات الثقافة والجغرافيا (من الجانب الإيراني)، فإنها لا تسعى إلى نفس الهدف، ولا تتحدث في خطابها السياسي الموجه لحزب الله عن القضاء على تموضعه في لبنان.
ولا يعتبر القضاء على تموضع حزب الله هدفًا منطقيًا بالنسبة لـ”إسرائيل”، في الوقت الحاليّ على الأقل، نظرًا لأسباب ثقافية واجتماعية تتعلق بكون الحزب بات جزءًا أساسيًا من النسيج الوطني للدولة اللبنانية. على سبيل المثال، يمتلك تحالف الحزب 18 حقيبة وزارية من أصل 30 حقيبة في التشكيل الحكومي المعلن يناير/كانون الماضي، وأخرى إستراتيجية تتعلق في الأساس بمعادلات الردع وقواعد الاشتباك التي اتفق عليها الطرفان ضمنيا نزولاً على نتائج حرب لبنان الثانية يوليو/تموز 2006 التي تم تأطيرها قانونيًا بموجب القرار الأممي رقم 1701 لنفس العام، وامتلاك الحزب بنيةً عسكرية معقدة ومتطورة ومتداخلة في توزيعها الجغرافي مع التجمعات السكانية بما يعيق النشاط العسكري الإسرائيلي الهجومي نسبيًا، التي ساهم في تراكمها بشكل فعال فترة الهدوء من 2006 إلى 2019.
تجلى مفهوم “حرب العقول” في هذه العملية الإستراتيجية من خلال عدة أمور بدءًا من التوقيت الذي أبرز إمكانات سلاح الجو “الإسرائيلي” المتنوعة
ومن ثم، صار منع حزب الله من امتلاك صواريخ أرض/أرض دقيقة التوجيه، شديدة التفجير، بما قد يقلص فارق الردع مع سلاح الجو الإسرائيلي حال حدوثه، الهم الإستراتيجي الأكبر للقيادة العسكرية الإسرائيلية فيما يخص جبهة الشمال، وذلك عقب تفكيك القسم الأكبر من ترسانة أنفاق الحزب، التي طالما هدد الأمين العام حسن نصر الله باستخدامها في تنفيذ عمليات اقتحام للمستوطنات المحاذية للشريط الحدودي في الجليل، من خلال العملية العسكرية الإستراتيجية التي أطلقها الجيش الإسرائيلي، ديسمبر/كانون الماضي: “درع الشمال”.
فبتحييد هذين السلاحين النوعيين تحديدًا، يمكن لبيبي (نتنياهو)، رئيس الوزراء ووزير الدفاع، أن ينام قرير العين، ويمكن اعتبار جبهة الشمال نسخةً متضخمة من جبهة الجنوب، جبهة غزة/ حماس: تزعج ولا تؤذي.
وكما أشرنا في مقالةٍ سابقة، استهدفت “إسرائيل” – بنجاح – في غاراتها الجوية الأخيرة على لبنان ماكينة ضخمة مستوردة يصل وزنها إلى 8 أطنان، تستخدم في صناعة وقود الصواريخ الجديدة، ضمن مشروع إيراني لنقل تكنولوجيا الصواريخ المتطورة إلى لبنان بدلًا من نقل الصواريخ نفسها، نظرًا لاستباحة سلاح الجو الإسرائيلي الأجواء السورية، وعدم قدرة أي من الفاعلين في الجغرافيا السورية، سوريا وروسيا وإيران، على تحقيق الردع هناك.
تجلى مفهوم “حرب العقول” في هذه العملية الإستراتيجية من خلال عدة أمور بدءًا من التوقيت الذي أبرز إمكانات سلاح الجو الإسرائيلي المتنوعة، ذراع “إسرائيل” الطولى في الإقليم كما تحب تل أبيب أن تظهره، وقدرته على استخدام المقاتلات الأساسية في عملية دفاع داخل المجال الجوي السوري، تخللها أعمال تشويش وحرب إلكترونية، ضد الطائرات المسيرة التي خطط الإيرانيون لاستخدامها في مهمة انتحارية ضد أهداف إسرائيلية.
رفضت “إسرائيل” إعلان ضربها أهدافًا لبنانية إستراتيجية بشكلٍ رسمي، واكتفى نتنياهو بتلميع صورته في الصحافة الإسرائيلية قبل الانتخابات البرلمانية التي يتبقى على انطلاقها نحو أسبوعين فقط
ثم قيام سلاح الجو، خلال ساعات قليلة من هذه العملية، بعملية هجوم، باستخدام طائرات مسيرة عن بعد، في مجال جوي آخر، ضد هدفٍ إستراتيجي، وهو ما ينطوي في حقيقته على عمليات أكثر تعقيدًا، في الرصد والمتابعة والاستهداف. الرسالة بوضوح هنا، أن سلاح الجو الإسرائيلي، من الناحية الفنية، قادر بأقل الإمكانات، على إصابة أهم أهداف خصومه على الإطلاق، وأن كل المواقع الميدانية التي يظن القائمون عليها أنها غائبة عن أعين الإسرائيليين هي – في واقع الأمر – على مرمى صواريخهم، ولكن استهدافها من عدمه، هو مسألة وقت وأولويات.
وفي نفس الوقت، رفضت “إسرائيل” إعلان ضربها أهدافًا لبنانية إستراتيجية بشكلٍ رسمي، واكتفى نتنياهو بتلميع صورته في الصحافة الإسرائيلية قبل الانتخابات البرلمانية التي يتبقى على انطلاقها نحو أسبوعين فقط، عبر تسريب صور للموقع المستهدف وتفاصيل عن أهمية العملية ونوعيتها.
وقد أراد “بيبي” من هذا التكتيك تضييق الخناق على حزب الله الذي سيضع نفسه في ورطتين إذا اعترف بالهجوم على المنشأة الصاروخية: الأولى، أنه سيقر بالعمل السري على برنامج للصواريخ الدقيقة، كما تحاول “إسرائيل” إحراجه بذلك، وهو الأمر الذي سيدينه محليًا باعتباره يضع أمن البلاد على المحك في مواجهة “إسرائيل”، وعالميًا باعتباره مهددًا للأمن الإقليمي. والثانية، أنه سيلزم نفسه بردٍ واسع النطاق على أحد الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية (حدد حسن نصر الله في وقت سابق عددًا من الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية التي قد تقع في دائرة أهداف الحزب حال اندلاع حرب مثل محطات الكهرباء والبورصة وميناء حيفا) وهو ما قد يفتح المجال لحرب لن تمنع الانتخابات المنتظرة من وقوعها نظرًا لتماسك الجبهة الداخلية الإسرائيلية خلال الأزمات.
إذ فضلاً عن استجابة زعيم المعارضة وزعيم حزب “أزرق – أبيض” بيني غانتس، لدعوة مكتب نتنياهو للاطلاع على المستجدات الأمنية، سارع غانتس في إبداء دعم المعارضة للحكومة في عملياتها العسكرية خارج الحدود وحذر الحاخام اليميني، زعيم تكتل الأحزاب الدينية رافي بيرتس، حزب الله والشعب اللبناني من المزيد من الضربات العنيفة.
تنظر القيادة العسكرية في حزب الله إلى مشروع تطوير الصواريخ باعتباره استثمارًا تراكميًا طويل الأجل، وتبقى الأولوية في موازنة الردع مع الاحتلال الإسرائيلي لكثافة الصواريخ وتنويع التكتيكات الهجومية
حزب الله وحرب العقول
تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن استهداف الضاحية الجنوبية سوف يتسبب في تأخير مشروع تطوير الصواريخ اللبناني لمدة طويلة، لحين تمكن الحزب من تهريب الماكينة المدمرة مجددًا بعيدًا عن عيون المراقبة الجوية الإسرائيلية، وإيجاد وسيلة آمنة لتحصينها من الصواريخ والقذائف الخارقة للتحصينات ثانيًا.
ومع ذلك، تنظر القيادة العسكرية في حزب الله إلى مشروع تطوير الصواريخ باعتباره استثمارًا تراكميًا طويل الأجل، وتبقى الأولوية في موازنة الردع مع الاحتلال الإسرائيلي لكثافة الصواريخ، وتنويع التكتيكات الهجومية والخبرة الميدانية. وفي هذا الصدد، تؤكد تقارير استخبارية أن حزب الله يمتلك ترسانة صاروخية تقدر بـ150 ألف صاروخ، تعتبر أكثر تطورًا على كل حال من الصواريخ التي تستخدمها المقاومة الفلسطينية في غزة خلال حروبها مع الاحتلال.
وبالإضافة إلى اعتبارات تداعي القدرة على تعويض خسائر الحرب المحتملة بفعل الحصار الاقتصادي وخسارة حلفاء الأمس، وسردية توريط الحزب لبنان في حرب مدمرة، فإن الحزب يضع في اعتباره حقيقة خروجه لتوه من معركة عسكرية طاحنة، تكبد فيها خسائر بشرية وتقنية فادحة، حيث أعلن الحزب، على لسان أمينه العام، بدء خطة سحب قواته من سوريا يوليو/تموز الماضي، ويرجح خبراء أن يحتاج الحزب إلى 5 سنين على الأقل، لاستعادة جاهزيته العسكرية وتأهيل بنيته التحتية وكوادره البشرية.
وفي ظل مؤشرات على انفراجة أمريكية/إيرانية مرتقبة عبر وساطة فرنسية وصمت أمريكي تام عن إدانة حزب الله وتهديدات أمينه العام ضد “إسرائيل” الجنوبية، ركز حسن نصر الله على تآكل الردع من إجمالي القصف، باعتباره ينطوي على اختراق للمجال الجوي اللبناني وكسر لقواعد الاشتباك المتعارف عليها، وألزم نفسه بالرد، من لبنان، نيابةً عن الجانب الإيراني فيما يخص الدماء، من خلال تكذيبه الرواية الإسرائيلية (المصورة) التي قالت إن الاستهداف كان لخلية إيرانية، تابعة لـ”فيلق القدس”، خططت للهجوم على أهداف إسرائيلية في الجولان المحتل باستخدام طائرات غير مأهولة، معتبرًا أن الاستهداف كان – في حقيقة الأمر – لمنزل يرتاده بعض عناصر الحزب الموجودة في سوريا، وقد أسفر عن قتيلين من هذه العناصر.
المحددات التي رسمها نصر الله لنفسه وفقًا لهذا التصور، هي أن يضمن الحزب ألا يتكرر الاعتداء الإسرائيلي على لبنان مجددًا، محافظًا على الحد الأدنى من الردع وقواعد الاشتباك التي تضمن حماية مشروعاته المستقبلية
وقد التقط نصر الله، في الوقت ذاته، هدية “إسرائيل” التي لم تعترف رسميًا بالقصف، فبدا في خطاب متلفز تجاوزت مدته الخمسين دقيقة جادًا في قضايا شديدة المحلية تخص لبنان تارة والحزب تارة أخرى، يبتسم كما لو أن شيئًا لم يكن، متجاهلًا قصف المنشأة الصاروخية النوعية.
المحددات التي رسمها نصر الله لنفسه وفقًا لهذا التصور، هي أن يضمن الحزب ألا يتكرر الاعتداء الإسرائيلي على لبنان مجددًا، محافظًا على الحد الأدنى من الردع وقواعد الاشتباك التي تضمن حماية مشروعاته المستقبلية، دون الإقرار بتلقيه ضربةً إستراتيجية، وأن يحفظ ماء وجه حلفائه الإيرانيين الذين تعرضوا لثلاث ضربات في وقتٍ متزامن تقريبًا، ليست هي الأولى من نوعها، عبر الزعم بأن الدماء التي أسيلت في سوريا هي دماءٌ لبنانية، ومن ثم سيكون على الحزب الثأر من أجلها، باعتبار أنه أكثر وكلاء إيران جاهزية، وأقربهم إلى “إسرائيل” من الناحية الجغرافية، وأكبرهم خسارةً.
ما الذي تحقق؟
بشكل أكثر وضوحًا، كان المنتظر أن يقوم حزب الله بردٍ محدود على الاعتداءات الإسرائيلية، انطلاقًا من الأراضي اللبنانية، برًا أو بحرًا أو جوًا، يتسبب في إسقاط قتلى من الجانب الإسرائيلي.
أمس، مساء الأحد، أعلن فعليًا حزب الله أنه “عند الساعة الرابعة و15 دقيقة، من بعد ظهر يوم الأحد، بتاريخ 1 من سبتمبر/أيلول، دمرت مجموعة الشهيدين حسن زبيب وياسر ضاهر آلية عسكرية إسرائيلية على طريق ثكنة أفيفيم وقتل وجرح من فيها”.
لاحقًا، اعترف الجيش الإسرائيلي أن المجموعة التابعة لحزب الله أطلقت عددًا من صواريخ” كورنيت” المتطورة، المضادة للدروع، روسية الصنع، تجاه قاعدة عسكرية وعدد من الآليات، مما أدى إلى إصابة بعض المعدات، نافيًا وقوع أي إصابات، “ولو بخدش” كما أشار بنيامين نتنياهو في كلمة تليفزيونية ظهر فيها شديد الارتياح بعد انتهاء الاشتباكات على الحدود.
وفقًا لهاتين الرواتين، ثمة مؤشرات واضحة تؤكد أن حزب الله قد خطط بالفعل لعمليةٍ عسكرية واسعة، منها ما هو رمزي، كإطلاق اسم قتيليه في سوريا، حسن زبيب وياسر ضاهر، على المجموعة التي أطلقت هذه المقذوفات، في إشارة واضحة إلى أن العملية كانت تستهدف الثأر لدمائهما.
من ضمن الإجراءات التي شرعت القيادة الشمالية في استخدامها، هي استخدام “الفخاخ” لتضليل العدو، واستبدال الجنود المرابطين في مواقعهم بـ”دمي” ترتدي أزياءهم
استخدم حزب الله عددًا من صواريخ الكورنيت المضادة للدبابات، وهي صواريخ معروفة بدقتها الشديدة وقدرتها العالية على اختراق الدروع وثمنها المرتفع نسبيًا، ولو أراد الحزب ردًا شكليًا، لكان استخدم صواريخ RPJ-7 الروسية المحمولة على الكتف، رخيصة الثمن، قليلة الدقة، التي تمتلكها كل الميليشيات المسلحة بأعداد كبيرة، خاصة أن المسافة بين الحدود اللبنانية والمستوطنة المستهدفة لا تتجاوز كيلومترًا واحدًا.
استهدفت العملية بشكل أساس ناقلة الجند المدرعة “وولف” التي تنتجها شركة “رفائيل” الإسرائيلية المتخصصة في صناعة أنظمة القتال البرية، وتتسع الناقلة التي دخلت الخدمة في الجيش منذ عام 2005 إلى 8 جنود، وقد أكد البيان بوضوح أن العملية أسفرت عن قتلى وجرحى، فلماذا لم تعلن “إسرائيل” القتلى؟
خداع تكتيكي
أشرنا في المقالة السابقة التي تناولت تطورات الوضع الميداني على الحدود، أن الجيش الإسرائيلي شرع في اتخاذ حزمة واسعة من التدابير الاحترازية، على الصعيدين العسكري والمدني.
وقلنا، نقلًا عن مراسلين عسكريين إسرائيليين، إن مهمة الجيش الأساسية هي أن يسحب الجنود من خطوط الاشتباك الأولى مع العدو، خوفًا من تعرضهم لعملية قنص أو استهدافهم بسهولة، وإخفاء نقاط الضعف الميدانية التي قد يستغلها حزب الله في عمليته الانتقامية.
ومن ضمن الإجراءات التي شرعت القيادة الشمالية في استخدامها، هي استخدام “الفخاخ” لتضليل العدو، واستبدال الجنود المرابطين في مواقعهم بـ”دمي” ترتدي أزياءهم، بغرض حماية أكبر عدد من الجنود واختبار نية الحزب في الميدان مباشرة.
بطبيعة الحال، ينتظر المهاجمون الذين يخططون لعمليات من ذلك النوع الذي أعلنه حزب الله عدة دقائق في مواقعهم، للاطلاع على نتائج العملية وتصوير ما يمكن تصويره، ثم ينسحبون من مواقعهم بعد هذه المدة الوجيزة، خوفًا من قذائف الاحتلال التي سرعان ما تحدد مصدر القصف بدقة، وتعمل على تسويته بالأرض.
يعتبر الإقدام على الرد في حد ذاته ضربًا من المخاطرة، نطرًا لأن تطورات الاشتباك في الميدان لا يمكن التنبؤ بمآلاتها
مصادر من داخل الحزب فور انتهاء العملية أكدت أن المنفذين شاهدوا طواقم الإنقاذ تهرع إلى موقع القصف وتقوم بإخلاء المصابين، ولكنهم رفضوا استهدافهم خوفًا من تفاقم الأوضاع على الحدود، وتجنبًا للإدانة الأخلاقية باستهداف الطواقم الطبية، كما اعتاد الاحتلال استهداف الطواقم الطبية.
ثم اتضح نهاية ليلة أمس وعقب توقف الاشتباكات بين الجانبين، أن سحب الجنود من الميدان كان جزءًا من خطة إسرائيلية واسعة، بدأت من يوم السبت، عندما وصلت الجيش معلومات عن نية المهاجمين تنفيذ عمليتهم يوم الأحد، استغلالًا لإلغاء تدريب عسكري واسع على مستوى القيادة العامة، فأرسل الجيش تعزيزات عسكرية وهمية ومدرعات قديمة من المخازن إلى مواقع في الشمال، بعضها شارك في حرب فيتنام مع الجيش الأمريكي، لينصب كمينًا محكمًا يدفع حزب الله للاعتقاد بأن الفرصة قد سنحت للرد، وعقب سقوط المنفذين في الكمين الذي نصبه الاحتلال وإطلاق ما لديهم من المقذوفات واعتقادهم أن المهمة قد اكتملت كما خططوا، هرعت مروحية الإسعاف إلى الموقع، وحملت بعض الجنود الذين تظاهروا بالإصابة إلى مستشفى “رامبام” بالشمال.
نتائج جيدة للجانبين
يعتبر الإقدام على الرد في حد ذاته ضربًا من المخاطرة، نظرًا لأن تطورات الاشتباك في الميدان لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، وقد كان محتملًا أن يفتح المهاجمون ذخيرتهم على الطواقم الطبية التي تظاهرت بإجلاء الجرحى، كما كان واردًا أن يؤدي الاشتباك مع المهاجمين إلى مقتلهم، وهو ما كان كفيلًا بزيادة أمد هذا الصراع وتحويله إلى جولة تصعيد تشبه جولات التصعيد بين حماس و”إسرائيل”.
وصلت “إسرائيل” من هذه المحاولة الواسعة التي نفذها حزب الله، رسالةٌ شديدة اللهجة، مفادها أن الاعتداءات على الجانب اللبناني وكسر قواعد الاشتباك المعروفة لن تمر بدون تكلفة باهظة
قام حزب الله بالرد، من لبنان كما وعد، في وقتٍ شديد الخطورة على الساحة الإسرائيلية، فبينما كان المهاجمون يتحركون لقصف الآليات، كانت حكومة الاحتلال منشغلةً في استقبال رئيس الوزراء الإثيوبي الذي يزور البلاد زيارة تاريخية، وكان طلاب المدارس الإسرائيلية عائدين لتوهم إلى منازلهم من أول يوم دراسي في العام.
وعلى وقع الهجوم اللبناني، أظهرت نتائج الاستطلاع التي أجرتها القناة 13 الإسرائيلية تقدم حزب “أزرق – أبيض” الذي يتزعمه عدو نتنياهو اللدود، بيني غانتس، متقدمًا عليه بفارق صوت واحد لأول مرة في تاريخ المنافسة الحالية على الانتخابات، حيث حصل حزب غانتس على 32 صوتًا مقابل 31 صوتًا لليكود.
وعلى غير العادة، وخلافا للهجة الصارمة التي حذر بها نتنياهو حسن نصر الله والدولة اللبنانية، ومن خلفهم قاسم سليماني، من تبعات الانتقام من أهداف إسرائيلية، لم تقم طائرات سلاح الجو بالإغارة على أي أهداف عسكرية أو مدنية، ردًا على الهجوم، مكتفيةً بإطلاق الـ100 قذيفة التي ادعت إطلاقها على أماكن مفتوحة من الجنوب اللبناني.
وقد وصلت “إسرائيل” من هذه المحاولة الواسعة التي نفذها حزب الله، رسالةٌ شديدة اللهجة، مفادها أن الاعتداءات على الجانب اللبناني وكسر قواعد الاشتباك المعروفة لن تمر بدون تكلفة باهظة يدفعها الاحتلال من دماء أبنائه وكرامة جيشه.
تبقى في الأفق احتمالات ضئيلة لمزيدٍ من التصعيد، استنادًا إلى ما قد يحمله حسن نصر الله إلى جمهوره في كلمته المرتقبة
وفي المقابل، أسفرت رحلة التصعيد الإسرائيلي التي بدأت منذ أسبوع عن تدمير مُركبٍ شديد النوعية في برنامج الصواريخ اللبناني، الذي قد يعيق تطور البرنامج لفترة طويلة، وهذا مكسب إستراتيجي للقيادة الإسرائيلية بكل تأكيد، يؤكد حقيقة سياسة “الضربات الجراحية العابرة للحدود”. كما أفشلت مساعي حزب الله في تكبيده خسائر بشرية، وخرج نتنياهو سعيدًا، دون أن يقدم حتى على استدعاء المجلس الوزاري الأمني المصغر “كابينيت”، كما كان يفعل في جولات التصعيد مع قطاع غزة، وظهر نتنياهو بمظهر القائد قاتل الأعداء، والمخادع الذي استطاع حماية جنوده.
هذه النتيجة، يؤكدها عدد كبير من الباحثين المختصين بالشؤون الإسرائيلية، ومن ضمنهم عماد عواد الذي يشير بوضوح إلى أن “ما حدث بالأمس، توازن ردع وانتصار لكل طرف أمام جمهوره، حقق له ما أراد، ومن المرجح العودة إلى الهدوء”.
وتبقى في الأفق احتمالات ضئيلة لمزيد من التصعيد، استنادًا إلى ما قد يحمله حسن نصر الله إلى جمهوره في كلمته المرتقبة، التي قد يعرض خلالها شريطًا مصورًا للعملية، أو إشارات إلى أن عملية الأمس كانت ردًا على مقتل عناصره في سوريا، وأن الحزب لم يرد إلى الآن على هجوم الضاحية الجنوبية الذي استخدمت خلاله الطائرات المسيرة في ضرب المنشأة الصاروخية.