تهيمن الشركات العائلية على العمود الفقري للعديد من اقتصادات الدول في العالم، حيث توجد نحو 85% من الشركات العائلية الكبيرة – التي تزيد قيمتها على مليار دولار – في جنوب شرق آسيا، وما بين 65% إلى 75% منها في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية والهند، ما يعني أن نحو ثلثي الأعمال في جميع أنحاء العالم تديرها العائلات، وذلك وفقًا لمعهد الشركات العائلية.
وكما هو الحال في معظم دول العالم، فإن غالبية الشركات الموجودة في تركيا مملوكة لعائلات، حيث تمثل الشركات العائلية نحو 95% من إجمالي الشركات الموجودة في البلاد، وعادةً ما يبلغ متوسط عمرها نحو 25 عامًا، إذ تصل 30% فقط من الشركات للجيل الثاني بينما تصل نحو 12% إلى الجيل الثالث، أما الشركات التي تصمد في السوق حتى الجيل الرابع تقدر نسبتها بـ3% تقريبًا، فهناك نحو 69 شركة من الشركات العائلية التي تم تأسيسها في فترة ما قبل الجمهورية ولا تزال مستمرة إلى الآن.
في هذا التقرير، نلقي الضوء على أثرى العائلات التركية التي تسهم بنسبة وازنة في إنماء اقتصاد بلاد الأناضول، مع نظرة على تاريخها وعوامل صمودها ونجاحها.
أكثر الشركات العائلية نفوذًا وثرءًا في تركيا
عائلة كوتش
أسست هذه العائلة إمبراطوريتها المالية “مجموعة كوتش القابضة” عام 1926 على يد الجد وهبي كوتش، واستمرت رحلتها إلى الجيل الثاني بقيادة رحمي كوتش الذي دفعها للنجاح والنمو حتى صمدت إلى الجيل الثالث، ومن بعده استلم الدفة مصطفى كوتش الذي توفي قبل 3 أعوام ليتولى عنه أخيه عمر كوتش رئاسة المجموعة.
لعبت أعمال هذه العائلة دورًا رئيسيًا ومهمًا في الاقتصاد التركي، حيث ساهمت بأكثر من 10% من الناتج القومي، وحققت أكثر من 10% من إجمالي صادرات تركيا، وذلك من خلال أنشطة شركاتها التي تعتبر 5 منها من بين أكبر 10 شركات في البلاد، ومن بينها شركات بيكو وأرشيليك وغرونديغ التي تبلغ قيمة أصولها أكثر من 8 مليارات دولار.
وبالتحديد، تساهم مجموعة كوتش في إنتاج 45% من السيارات وتمثل مبيعاتها نحو 43% من حجم الصادرات، يضاف إلى ذلك جهودها في تحقيق 46% من صادرات الأجهزة المنزلية الكهربائية، عدا عن دورها في توظيف أكثر من 94 ألف و513 موظفًا يعملون في شركاتها التي يبلغ عددها 64 شركة تنشط في مجالات مختلفة مثل السيارات والطاقة والسياحة والبناء والبحرية والتعليم والمصارف، وغيرها من الاستثمارات الأخرى في مجال البحث والتطوير.
عائلة شاهينك
تم وضع أسس “مجموعة دوغش” المملوكة لهذه العائلة عام 1951، حيث تعمل فيها أكثر من 300 شركة في 25 دولة، تتوزع أنشطتها إلى 8 مجالات أساسية مثل السيارات والبناء والإعلام والسياحة والخدمات والعقارات والطاقة والأغذية والمشروبات، وذلك عدا عن نمو استثماراتها في قطاعات التكنولوجيا والرياضة والترفيه مع وجود أكثر من 35 ألف موظف في مكاتبها ومصانعها يخدمون أكثر من 5 ملايين عميل.
تأسست هذه المجموعة العملاقة بواسطة أيهان شاهينك الذي بدأ رحلته في أعمال بناء الطرق والموانئ والمستشفيات، ومع انتهاء فترة السبعينيات، تضمنت أنشطة الشركة خدمات مصرفية ومالية. استمرت الشركة في التوسع خلال فترة الثمانينيات، إذ شاركت مجموعة “دوغش” عددًا من عمالقة الأسواق الدولية بمشاريع في صناعة السيارات والسياحة والطعام مثل فولكس واجن وشيراتون.
وابتداءً من عام 1998، ظهرت لمسات الابن فريد شاهينك على إنجازات الشركة، وكان من أبرزها الاستحواذ على سلسلتين لبيع المواد الغذائية بالتجزئة وضم قناة “إن تي في” التليفزيونية لممتلكات الشركة، وبعد تقدمه بخطوات إدارية واسعة في الشركة ووفاة الأب شاهينك، انتقلت ملكية المجموعة إلى فريد الابن واستمرت مشاريعه في تحقيق إيرادات عالية مثل إدارته لعدد من وسائل الإعلام التركية وحيازته أكثر من 10% من سوق الإعلانات في البلاد، وتوالت الإنجازات حتى بداية الألفينيات مع بلوغ إيرادات الشركة نحو 6 مليارات دولار.
عائلة صابانجي
هي واحدة من أغنى العائلات في تركيا، وفقًا لقائمة فوربس للمليارديرات عام 2016، حيث تتراوح ثروتها بين 20 إلى 30 مليار دولار. أسس كيان الأعمال الرئيسي للعائلة حاجي عمر صابانجي في الثلاثينيات بعدما انتقل من موطنه قيصري إلى أضنة في أوائل العشرينيات من القرن الماضي ليؤسس شركة مختصة في تسويق السيارات وتصدير القطن.
توسعت أعمال الشركة تدريجيًا وباتت مجموعتها من الأسرع نموًا في تركيا، إذ قادت مشاريع مختلفة في مجال الخدمات المصرفية والتأمين والطاقة والإسمنت والصناعة، حيث تعمل المجموعة حاليًّا في 13 دولة وتسوق منتجاتها في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وشمال إفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية، ما يعني أنها ساهمت بشكل كبير في تنمية الاقتصاد التركي، ففي عام 2018، حققت إيرادات مبيعات مجمعة قدرها 88 مليار ليرة تركية وأرباح صافية بلغت 3.8 مليار ليرة تركية، كما تمثل الشركة العملاقة 12% من بورصة إسطنبول، ويعمل فيها 56 ألف شخص.
ومن أكثر الجوانب إثارة للاهتمام في تاريخ هذه الشركة هو رئاسة جولر صابانجي مجلس إدارة هذه الإمبراطورية العملاقة وهي أول امرأة تصل إلى هذا المنصب، ورغم التشكيك بقدراتها، فإن أرباح الشركة نمت بمعدل 12% تحت إشرافها، كما احتلت المرتبة الثانية في مجلة “فاينانشال تايمز” كواحدة من أفضل 50 امرأة في عالم الأعمال لعام 2011، وتبع ذلك تربعها في المرتبة الـ93 في قائمة “فوربس” لأقوى نساء العالم.
عائلة أولكر
تمتلك هذه العائلة مجموعة يلديز القابضة التي تعتبر اليوم أكبر شركة أغذية في كل من وسط أوروبا وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط وإفريقيا، إذ تملك الشركةُ 77 مصنعًا، 25 منها خارج تركيا، ويعمل فيها 50 ألف شخص ويديرها مراد أولكر الذي حصل على هذه الثروة من والده صبره وعمه عاصم اللذين بدأت رحلتهما إلى الثراء بصناعة البسكويت عام 1944 وبيعه في محل صغير بمدينة إسطنبول.
بعدما لاقت منتجاتهما إعجاب السوق، فتحا أول مصنعًا لهذه العلامة التجارية عام 1948، ومن ثم توسعت أعمالهما في مدن أخرى إلى أن قرر الأخوان صناعة الشيكولاتة الخاصة بهما وتصديرها إلى دول الشرق الأوسط، وتدريجيًا تحولت هذه الشركات والمصانع إلى مجموعة يلدز القابضة التي تمتلك اليوم 5 آلاف و400 منتج مع وجود 300 علامة تجارية فرعية.
بدأ مراد أولكر في العمل بهذه المجموعة منذ عام 1984 كمنسق رقابي وبالتدريج تولى مناصب مختلفة في الشركة إلى أن نال شرف إدارتها بالكامل سنة 2008، ومنذ ذاك الوقت لُقِب أولكر بأغنى رجل في تركيا بثروة تقدر بـ4.1 مليار دولار أمريكي، فلقد تضاعفت إنجازاته مع شرائه شركة جوديفا البلجيكية للشيكولاتة عام 2007، وشراء يونايتد بسكويت من المملكة المتحدة عام 2014 مقابل 3.3 مليار دولار، وغيرها العديد من العلامات والشركات العالمية الكبرى.
الالتزام والتعليم.. كيف صمدت هذه الشركات العائلية في السوق؟
اعتمدت كل عائلة في نجاح أعمالها على عناصر مختلفة، على سبيل المثال، رأت عائلة شاهينك أن تركيزها على المصلحة والمسؤولية الاجتماعية في حساباتها أوصلها إلى رضا الزبائن وثقتهم فيها، إذ تحرص العائلة على إطلاق مشاريع في مجال الثقافة والفنون والرياضة والتعليم وذلك عدا عن اجتهادها في بناء شراكات قوية مع العلامات التجارية العالمية للتعلم من خبراتهم والاستفادة من المهارات.
في المقابل رأت عائلة كوتش أن التعليم هو ركيزة استمرارها، فلا يجدر منح المناصب الإدارية والقيادية لأبناء وأحفاد العائلة لمجرد أنهم ينتمون إليها أو يحملون اسمها، على سبيل المثال كتب الجد وهبي كوتش رسالة يوصي بها خلفاءه بالتصرف بما تقتضي به تعليمات العمل، وقال:
“حسب ما أعرفه إن التعليم والتدريب والتأهيل شرط رئيس لا بدّ منه، إذ يجب على الأولاد أن يتعلموا ويتدربوا ويتأهلوا بشكل جيد، ولكن أرى أنه يتم التعامل معهم على أساس أنهم أبناء رحمي كوتش، وهذا ما يقودني إلى الاستياء، إن ساعات خروجهم إلى العمل ووصولهم إلى الشركة ومغادرتهم إياها غير معروفة، يقومون بفعل كل ما يحلو لهم، يذهبون بغرض السياحة إلى البلد الذي يريدونه، ولا أحد يقف أمامهم أو يعترض على ما يفعلونه، ولذلك عليك يا “رحمي” أن تكتب إلى مديري الشركات التي يعملون بها رسالة أشبه بمشروع، ولتكن الرسالة على سبيل المثال إلى الشركة التي يعمل بها مصطفى، ولتكن الرسالة على الشكل التالي: إن ابني مصطفى كوتش يعمل في شركتكم، ولكي ينشأ مصطفى تنشئة صحيحة نرجو منكم أن تتعاملوا معه كباقي الموظفين لديكم، أن يأتي إلى الشركة بانتظام وفي الوقت المطلوب، وألا يغادرها إلا بعد انتهاء الدوام، وأن يُطلب منه القيام بمهامه على أكمل وجه”.
ونتيجة لهذا الخطاب نجد أن مصطفى كوتش (الحفيد) تأثر كثيرًا بهذه الكلمات، فلقد أكد مرارًا أهمية التعليم وعلاقته بإقامة مستقبل أفضل للبلاد وهو ما استثمرت فيه العائلة بشكل كبير على مر السنين، بجانب افتتاحها مؤسسات للتدريب المهني لكي يسهل على الخريجين ورواد سوق العمل الجديد الاستعداد للعمل ومتطلباته، إذ تعد جامعة “كوتش” حاليًّا واحدة من أفضل 10 جامعات صغيرة في العالم.