لا يخفى على أحد أن منطقتنا العربية تمر بأصعب مراحلها، فبعد أن تكونت الجمهوريات والدول المستقلة عن وصاية المستعمر دخلت أمتنا في دوامة عميقة من التجاذبات السياسة انتهت بحكومات خالدة لا يحق لأحد أن يقول لها كيف ولماذا ومن أين! وجدنا أنفسنا في جمهوريات وراثية وديمقراطية شكلية ودساتير وهمية وإعلامٍ زائف ومحاكم ظالمة لا تعرف وزنًا لشيء سوى للدولار والهدايا تحت الطاولات او فوقها، ومع هذا كان هناك استقرار أمني دفع الجميع بأن يقبلوا أياديهم حمدًا لله على هذه النعمة ويطلبوا منه الصبر على ما هم عليه من ظلم.
حتى طفح الكيل، وبلغ السيل مبلغه، فلا صبر ولا سلوان ليولد بعدها الربيع العربي تدريجيًا، فكان الخروج الجماعي للشوارع والهتافات و”الشعب يريد” ولكن لم تمر شهور حتى تعثر الربيع ثم سقط ودخل في نوبة من الحمى والألم أدت إلى دخوله إلى ماهو أشبه حاليًا بالغيبوبة أو الموت السريري! فمن يا ترى قتل الربيع ولماذا وكيف؟
أسباب فشل الربيع العربي
يمكننا اختصار أسباب فشل ربيع ٢٠١١ وعدم حدوث التغييرات المرجوة منه لأسباب عديدة، أهمها عدم جاهزية المنطقة للثورات وغياب الوعي الشعبي لمفهوم الثورة وانعدام قيادات فعالة تلهم الشباب للمضي قدمًا نحو تحقيق طموحاتهم، بالإضافة إلى خوف الحكومات الخارجية المختلفة – عربية كانت أو غربية – من قدرة الشعوب على حكم نفسها بنفسها مما يعرض بقائها وبقاء مصالحها لخطر حقيقي يدفعها للتحالف مع الأنظمة المستبدة حفاظًا على نفسها، وهذا أمر خارج سيطرة الشعوب لذا نركز هنا على الأسباب الثلاثة التالية:
1- عدم جاهزية المجتمع للتغيير
لا يمكننا أن نظل في حالة من اللاواقعية، كمن يفقد أعز أقاربه فيظل يوهم نفسه بأن كل شيء على ما يرام وأن هذا مجرد حلم وأنه سيفيق منه قريبًا وسيكون بخير! لقد مات الربيع والبقاء لله، لنصبر ولنحتسب! فشعوبنا العربية من السطحية والسذاجة ما لا يمكن أن يوصف في مقال أو مقالين، إذ كيف لنا أن نتوهم بأن التغيير السياسي في المنطقة سيحدث في عام او عامين أو ثلاثة؟ كيف لأبناء الأربعينيات أن يتقبلوا أبناء السبعينات والثمانينات حكامًا لهم؟ كيف للثورات الجذرية أو الإصلاحية أن تبني لنا أوطانًا راقية بلمح البصر؟ وكيف للدولة العميقة بقضائها وإعلامها وعسكرها أن تتنحى جانبًا بكل لطف ورقي لتقول “قوموا بنا لنبني أمة زاهرة!”
لقد فشل الربيع لسذاجة الشعوب وقلة فهمها لواقعنا المتشعب، فشل الربيع لأن في هذه الشعوب من لا يمكنه أن يتصور غدًا أفضل بدون الظلم والاستبداد والفساد والقهر، أصبحت شعوبنا مدمنة على هذه الطبيعة من الحياة القاتمة فظنوا أن الحرية والعدل والمساواة والتعددية الحزبية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة موت لهم فما كان منهم إلا الالتفات حول النظام السابق لينقظهم من هذا الموت.
شعوبٌ بهذه الدرجة من اللاوعي والتخبط الفكري لا تستحق الربيع، بل عليها أن تتذوق كل فصول السنة تحت أحذية الذل والهوان لأنهم وبكل بساطة لا يمتلكون عوامل النهضة وآليات بناء الأمم، ولكن هذا شيء طبيعي إذ أن الطبقة الحاكمة في عالمنا العربي عودتنا على ألا نثق بأنفسنا وبقدراتنا، عودونا بأننا لا شيء بدون الأخ الزعيم الكبير الذي يرعانا ويحرص على سلامتنا!
هذا الترويض الأيديلوجي لسلب الجماهير قدرتها على بناء الذات بدأ منذ الثورة العربية الكبرى والتي أوهمت العرب بأنهم صنف مقدس من البشر وأن الأتراك لا يستحقون شرف حكمهم، فجاء المستعمر الغربي بديلاً للترك ليذيقنا الذل ويسلب منا ما بقي من قيمنا الدينية ثم تركنا فلا نحن من هؤلاء ولا هؤلاء، مذبذبين بين الأمم ومغرمين بالغرب الأخاذ وحضارته التي نحن من بناها وساهم فيها أصلاً منذ أيام الأندلس.
فكان ما كان من شباب العشرينيات الذين درسوا في باريس ولندن وغيرها ثم عادوا لبلادهم وهم يحتقرون أنفسهم وأوطانهم ويظنون في الغرب جنة الخلد التي وعد الرحمن عباده في كتابه! هذه الأفكار مازالت حية في مجتمعاتنا اليوم ما يجعلها تعيش في حالة من ضياع الهوية واغتراب الذات واحتقارها.
وعليه فشعوبنا انسلخت من دينها وعروبتها وعزة نفسها لتدخل في مرحلة جديدة من الصراع مع الذات والانتحار الجماعي البطئ لكل القيم الحميدة، فأصبح الدم رخيصًا والشرف والنخوة سلعة تُباع وتشترى .. فما قيمة الربيع العربي وما قيمة بقائه وحياته فينا والأمة كلها ميتة لا حراك فيها؟
2- عدم الفهم الحقيقي لمفهوم التغيير
شخصيًا، لا يهمني من يحكم وطني! المهم بالنسبة لي هو أن يعاملني المجتمع كما أحب، بألا يغشني صاحب المحل، وألا يظلمني رب العمل، وألا أُمنع من وظيفة أو خدمة معينة بسبب أني لم أدفع الرشوة المطلوبة أو لأنني من تلك الديانة أو ذاك الحزب! أريد مجتمعًا متصالحًا مع نفسه، متسامحًا مع أصحاب الأفكار المغايرة للسائد، مجتمعًا قادرًا على إدارة نفسه بنفسه بشكل عادل وشفاف بغض النظر عن المستوى الطبقي والتعليمي والمادي .. فهل هناك مكان لهذا المجتمع في عالمنا العربي؟
هذا هو التغيير الحقيقي، أي “كيف تغير مجتمعًا متهالك الأخلاق والقيم معاديًا للجميع؟” وليس التغيير المطلوب هو تغيير الرؤساء والأحزاب وهيكلة الكيانات الفرعونية التي مازالت تحكمنا بدون أي وجه حق وبدون أي مساهمة منها لتوعية المجتمع ليتغير نحو الأفضل، بل تقهقره وتسلب ما لديه من فتاتٍ من قيم! التغيير والثورة الحقيقيتين هي ثورة العقول والأرواح لا ثورة السلاح والقتل، لا يمكنك أن تبرر لأحد سبب استخدامك للعنف كوسيلة للتغيير أو سبب رضوخك للجلاد بدون أن تقول له أنت ظالم، لابد من خط وسط يقود المجتمعات للتغيير الجذري لطبيعتها المتهالكة عبر المقاومة السلمية للحاكم الظالم.
نحن في زمن أشبه ما يكون بالحقبة الجاهلية ما قبل الإسلام، بل إن عرب ذاك الزمان رغم عبادتهم للأصنام إلا أنهم أفضل حالاً من عرب اليوم الذين يعبدون حكامهم ويصنعون فراعينهم بأيديهم ويسجدون لهم من دون الله! ما نحتاجه هو ثورة فكرية حقيقية تعيد أمتنا إلى رشدها وتصعقها كهربائيًا لإنعاشها وإعادة الروح فيها! إننا اليوم أحوج ما نكون لشخصيات رائدة في علم القيادة لتوحد الصف وتلهم الشعوب للتغيير السلمي الإيجابي، هذا معدوم حاليًا، فالفجوة كبيرة بين من ثاروا ضد ظلم الستينات وظلم اليوم، فحتى الحركات والأحزاب الإصلاحية متغطرسة وظالمة لشبابها المتحمس للقيادة، فتجد الشاب الإصلاحي مكبلاً بمشاكل الجيل السابق بالإضافة لمشاكل جيله الحالية.
هذا ما يجعل أحزابًا عربية عريقة غير قادرة على أن تأثر في المجتمع، فالقوميون من جهة والإسلاميون من جهة أُخرى وغيرهم من اليسار واليمين، عاجزون تمامًا أمام المتغيرات السريعة لواقعنا المرير، بل يزيدون المشاكل تعقيدًا بسبب أفكارهم الغير واقعية وخبرتهم المعدومة في طرق المقاومة السياسية والثورية!
3- عدم وجود قيادات ثورية ذات وعي السياسي
لا يوجد في هذا العالم ثورة ناجحة بدون عقول مدبرة لها، لا يمكنك أن تتصور جيشًا يحارب بدون قيادة ملهمة له تحفزه وتنسق حركاته، إذًا من الغباء أن تقول لي الثورات العربية نجحت لأنها بلا قائد! وأنا أقول بل ماتت الثورات لأنها بلا قائد! ولتعلم مدى خطورة الحراك العفوي ضد الحاكم المستبد عليك فقط أن تنظر للصين في أواخر الثمانينات حين حاول الصينيون الإطاحة بنظامهم.
مثالٌ ناجح للقادة الملهمة تتمثل في جنوب أفريقيا، إذ أنها تعتبر بصيص أمل حقيقي لكل الشعوب التي أنهكتها الخلافات وظلم الطبقة الحاكمة وتبحث عن مخرجٍ للتعايش بسلام وديمقراطية، ولكن جنوب أفريقيا ما كانت لتصل الى هذه المرحلة من التعايش السلمي لولا تضحية أبنائها وتواجد قادة مخلصين لهذه الأهداف النبيلة، هؤلاء القادة وعلى رأسهم “نيلسون مانديلا” عرفوا كيف لهم أن يخوضوا الحرب من أجل السلام، من أجل التساوي والتعايش المتكافئ لشعبهم، لم يقاتلوا من أجل حزبهم أو قبيلتهم، بل قاتلوا من أجل جنوب أفريقيا ديمقراطية تحتوي الجميع، وهذا ما علينا أن نفهمه بشكلٍ واضح، فمانديلا لم يكن غاندي ولم يكن لوثر كينغ بل كان مانديلا المحارب المستعد للسلام إذا تحققت مطالبه.
يقول مانديلا عن نضاله ضد التمييز العنصري: “طيلة حياتي كرست نفسي لنضال الشعوب الأفريقية، لقد قاتلت ضد هيمنة البيض وقاتلت ضد هيمنة السود، آمنت بفكرة الديمقراطية والحرية بحيث يعيش الجميع في وئام وعلى أساس تكافؤ الفرص، ذلك هو المثال الذي آمل لأن أعيش لأُحققه، ولكن إذا لزم الأمر، فذلك هو المثال الأعلى الذي لن أتردد لأن أموت من أجله.”
إذا حللنا مقولته هذه نجد كل مقومات القيادة وشروطها فيه، الرؤية الواضحة، الشجاعة، التحفيز، الشفافية، الحزم وإمكانية التسوية إذا تحققت الشروط، فهل يا ترى في عالمنا العربي نجد رجلاً يمتلك هذه القدرات الفذة؟ هل هناك من يعرف إلى أين يقود شعبه أو حزبه أو الثوريين الذين يشاطرونه الهدف؟ أم أن الراعي أعمى بلا بصرٍ ولا بصيرة؟
الرجل الذي عوقب بالسجن مدى الحياة مع الأعمال الشاقة في سجن روبن إيلاند الرهيب، خرج إلى العالم بعد سبعٍ وعشرين سنة من الصمود والعزيمة الغير متزحزحة ليصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، خرج ليكمل نضاله ليتغلب على الحقد وينسى ما تعرض إليه من ظلم من أجل غدٍ أفضل لوطنه، ومع أنه كان بإمكانه التربع على عرش الرئاسة طيلة حياته إلا أنه اكتفى بفترة رئاسية واحدة، ليفسح المجال لغيره وليعلمهم أن القائد الجيد هو من يثق بغيره لا من يستفرد بكل شيء بكل تكبر واحتقار لقدرات الآخرين ظنًا منه أنه المهدي المنتظر والمخلص الأوحد.
مانديلا علمنا الكثير لا من خلال خطبه ولكن من خلال أفعاله، فالقائد الفذ هو من يقود بالمثل، هو ذاك الذي يطبق ما يُدرِس قبل غيره، القائد الحقيقي هو الذي يضع بصره دائمًا على الهدف مخططًا نحو المستقبل البعيد بعزيمة وإصرار متجاوزًا مشاعر الخوف والشك فيه، إنه ذاك المحلل الجيد للأحداث والمتغيرات ليصل إلى القرارات الصائبة بدون إقصاء لرفاقه ومعاونيه وهذا منعدمٌ تمامًا في عالمنا العربي اليوم.
فشلنا هو سر نجاحهم ولكن
نجح السيسي للوصول إلى عرش مصر لأنه أخذ وخطط وتحالف، ثم صبر ونفذ بروية وهدوء، ليس هذا مديحًا له ولكنها الحقيقة فبينما هو يخطط ويستغفل الناس، ظل المعارضون له متشتتين وبدون أي رؤية واضحة لمواجهة مخططه، هذا الحال نشاهده اليوم أيضًا في سوريا، وليبيا، إذ أن تفكك الثوار وتنازعهم ليس إلا عامل قوة للطرف الآخر!
جاء زعيم الجزائر ليحكم شعبه بالكرسي المتحرك، ونجح السيسي في مسرحية الانتخابات بنسبة ٩٦٪، وجاء بشار بنسبة أكثر واقعية ولكن برقم سهل الحفظ ٨٨٪، ولا استبعد أن يأتي حفتر لحكم ليبيا بنسبة ٧٧٪ إن لم يوقف ثوار ليبيا تشتتهم تحزبهم ضد بعضهم! فبساطة شعوبنا وجهلها المبرر بالثورات تجعلها تهز رأسها بقبول أي شيء من أي أحد كي تظل الأشياء على حالها وتستقر الأمور.
ولكن رغم أن ربيع العرب الأول قد مات بفضل ملايين الدولارات التي صبت في عروقه لتلوثه وتقتله ورغم الأسباب الثلاثة المذكورة هنا إلا أن ألف ربيع آخر قادم بدون أي شك! عندما ينكسر حاجر الخوف ومفهوم “المستحيل” لأول مرة في تاريخه فمن السهل أن يُكسر آلاف المرات .. من كان يتصور أن صياح الشعوب العربية في الشوارع يمكنه أن يؤثر في حكامنا؟ من كان يظن أن أيًا من الذي حدث منذ ٢٠١١ يمكنه أن يحدث في منطقتنا؟ كيف للتماثيل أن تتهتز وتسقط بالصرخات؟ ربيع ٢٠١١ جاء قبل وقته ولكنه مهد الطريق لنجاحات باهرة لشعوبنا إذا هي قررت أن تتعلم الدروس الكثيرة المستفادة من مقتل الربيع الأول وتحضر نفسها بشكلٍ أفضل لألف ألف ربيع آخر.