في العشرين من أغسطس/آب 2024 خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، منتشيًا بلغة الواثق من نفسه، المؤمن بقدرات جيشه، ليعلنها صريحةً أن إسرائيل لن تنسحب من محور نتساريم تحت أي ظرف من الظروف، ورغم الضغوط الهائلة التي يتعرض لها للقيام بذلك، مشددًا على أن المحور أصول استراتيجية للكيان، عسكريًا وسياسيًا، لا يمكن التخلي عنها.
اليوم، ومع إشراقة شمس التاسع من فبراير/شباط 2025، قال جيش الاحتلال إنه سحب قواته بالكامل من محور نتساريم، التزامًا باتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع المقاومة والذي دخل حيز التنفيذ في التاسع عشر من الشهر الماضي، مُنهيًا بذلك عامًا و3 أشهر كان فيها المحور تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي.
بهذا الانسحاب، لم يعد لعناصر الاحتلال أي تواجد في وسط وشمال قطاع غزة، باستثناء قوات الفرقة 162 التي تنتشر على طول المنطقة العازلة قرب الحدود، حسبما قالت صحيفة يديعوت أحرونوت، التي لفتت إلى أن الوجود العسكري الإسرائيلي سيقتصر في الوقت الحالي بشكل جزئي على محور فيلادلفيا جنوبي قطاع غزة.
خمسة أشهر وعشرون يومًا هي المدة الفاصلة بين أوهام نتنياهو باستحالة الانسحاب من نتساريم، والواقع الذي بثته إذاعة الجيش الإسرائيلي بالتأكيد على سحب كامل القوات من المحور، تناقض عكس عقارب الساعة الإسرائيلية، يفند الكثير من المزاعم والسرديات التي اعتادت حكومة الاحتلال وإعلامها ترديدها طيلة الأشهر الماضية. فأي دلالة رمزية تعكسها تلك الخطوة التي تُعد بمعايير العسكرية تحوّلاً استراتيجيًا في المعركة؟
فشل خطة التقسيم
على المستوى العسكري، فالانسحاب يعني باختصار فشل خطة تقسيم قطاع غزة، وهي الخطة التي تبناها جنرالات الاحتلال منذ اليوم الأول للحرب ضمنيًا داخل الأهداف الثلاثة المعلنة (القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا للداخل الإسرائيلي).
وحاول الاحتلال مع بداية المعركة فرض واقع جديد يضمن به وأد أي تهديد من داخل القطاع، وذلك عبر تفكيك لحمته وتقسيمه إلى مناطق عدة، مفصولة عن بعضها، ووضع لأجل هذا الهدف العديد من الخطط، أشهرها المعروف إعلاميًا بـ “خطة الجنرالات” التي وُضعت لفصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه، كذلك المخطط الرامي لفصل جنوب القطاع عن شماله في الاتجاه المعاكس، عبر السيطرة على محوري فيلادلفيا ونتساريم.
كان المحتل يُمني نفسه ببقاء دائم في الجنوب، وهو ما تكشفه البنى التحتية التي دشنها عند محور نتساريم، حيث وسّع مساحته بعرض وصل إلى 80 كيلومترًا وعمقه إلى ما بين 6.5 و7 كيلومترات، هذا بخلاف إقامته لأربعة مواقع رئيسية مدعومة بأربعة أخرى مساندة، وهي الخطوات التي تعكس رغبته في ترسيخ أقدامه في تلك المنطقة لفترات طويلة.
يرحلون ونبقى والأرض لنا ستبقى.#نتساريم pic.twitter.com/QrZi1KEVoI
— أنس الشريف Anas Al-Sharif (@AnasAlSharif0) February 9, 2025
غير أنه ومع الأيام الأولى لدخول الاتفاق – الذي أُجبر الكيان المحتل على إبرامه بعدما باتت الحرب عبثية حيث لا أهداف ولا رؤية – حيز التنفيذ، انهارت “خطة الجنرالات” تحت أقدام الزحف المقدس للفلسطينيين العائدين إلى مناطق الشمال، رغم انتفاء مقومات الحياة هناك. إذ كانت المشهدية ورمزياتها صادمة للداخل الإسرائيلي الذي وصفها بأنها “عار وهزيمة مدوية”، كما جاء على لسان بعض وزرائه من اليمين المتطرف.
ومع الساعات الأولى لفجر اليوم، الأحد 9/2/2025، سقطت الخطة الأخرى، الرامية لفصل جنوب القطاع عن بقية أجزاءه، وذلك حين انسحبت قوات الاحتلال من محور نتساريم الذي ظل طيلة الحرب مرتكزًا لوجستيًا وحيويًا للجيش الإسرائيلي في عملياته العسكرية ضد المقاومة والفلسطينيين في القطاع.
بالانسحاب من نتساريم، يعود قطاع غزة لحمة واحدة، شمالًا يتصل بالجنوب دون عوائق، ووسط يربط بين الجهتين بلا عراقيل، وهو ما يسهل عملية التنقل بالنسبة للمواطنين ذهابًا وإيابًا، مما يعني عمليًا كسر الحصار الذي كان مفروضًا عليهم لأكثر من 15 شهرًا، كانت حركتهم خلالها رهن التعليمات والإفادات الواردة من المتحدث باسم جيش الاحتلال.
إخفاق الرؤية السياسية إزاء غزة
لم يكن قرار الانسحاب من نتساريم، ومن قبله الابتعاد تدريجيًا عن معظم القطاع، ولا عودة سكان الشمال إلى مناطقهم مرة أخرى، خيارًا سهلاً على الكيان المحتل الذي يعلم جيدًا أن تلك المشاهد تنسف مزاعم الانتصار المطلق نسفًا من الجذور، بل وتحولها إلى “نكتة”، كما جاء على لسان وزير الأمن المستقيل، إيتمار بن غفير.
غير أن نتنياهو وجنرالاته ما أُجبروا على ذلك، كراهية أو طواعية، إلا رضوخًا لمعطيات الميدان وتطورات ساحة القتال. فالصمود الذي أبدته المقاومة منذ اليوم الأول للحرب، وإفشالها لمساعي تحقيق جيش الاحتلال لأهداف المعركة المعلنة، تزامنًا مع ثبات الغزيين ونضالهم وإجهاضهم لكافة مخططات التهجير، كل هذا كان له صداه على الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي تعرضت هي الأخرى لشروخ قوية في جدارها الهش، فمثلت ضغطًا كبيرًا على حكومة الاحتلال. هذا الضغط نُقل بالتبعية إلى خارج الحدود حيث الحليف الأمريكي الذي تدخل في اللحظات الأخيرة لإنقاذ الكيان من هذا المستنقع بعد أكثر من 470 يومًا من القتال كان الفشل عنوانها الأبرز.
وأكد المحتل بانسحابه من نتساريم على مقولة المقاومة حين نوهت وشددت مرارًا وتكرارًا أنه لا حلول بالقوة العسكرية، ولا أهداف ستتحقق بالقتال. فما حرر المحتل أسراه إلا عبر اتفاق مع حماس وبشروطها وبالمشهدية التي تريد، ولم ينجح في ضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا له إلا عبر تفاهمات سياسية.
حماس: محاولات الاحتلال بسط سيطرته على قطاع غزة وتقسيمه باءت بالفشل أمام بسالة المقاومة وصمود شعبنا، وستبقى #غزة أرضا محررة بسواعد أهلها ومجاهديها ومحرمة على الغزاة المحتلين#حرب_غزة pic.twitter.com/lR3MLDgXNv
— قناة الجزيرة (@AJArabic) February 9, 2025
حماس في بيان لها تعليقًا على عملية الانسحاب أشارت إلى أن المشهد اليوم هو “استكمال لفشل أهداف حرب الإبادة على شعبنا”، مؤكدة على أن “عودة النازحين واستمرار تبادل الأسرى والانسحاب من نتساريم دحضت كذبة نتنياهو بتحقيق النصر الكامل”. وأضافت أن “محاولات الاحتلال بسط سيطرته على قطاع غزة وتقسيمه باءت بالفشل أمام بسالة المقاومة وصمود شعبنا.. وما لم يحققه الاحتلال في 15 شهرًا من تجويع وإبادة وتدمير ممنهج بتهجير شعبنا لن يحققه (الرئيس الأميركي) دونالد ترامب بالصفقات”.
نتنياهو وجنرالاته دوماً ما صدعوا رؤوس العالم بصراخهم المتواصل حول التأكيد على أن الحل الوحيد لتحقيق أهداف الحرب هو مواصلة القتال مع المقاومة، وأنه لا سبيل لتحرير الأسرى إلا بالقوة الوحشية، شاهرين سيف القتال كسلاح وحيد لردع المقاومة، لتأت المشاهد تباعًا منذ 19 يناير/كانون الثاني الماضي وحتى فجر اليوم 9 فبراير/شباط 2025 لتؤكد فشل تلك المقاربة وسقوطها بالقاضية.
عرقلة الاتفاق.. المخاوف تتصاعد
لم يكن يتوقع نتنياهو أن مخرجات الاتفاق ستكون بهذه الكيفية، ولا كان يدور بخلده أن تهندس حماس هذا المشهد بتلك الرمزية التي نجحت من خلالها في إحراز عشرات الأهداف في مرمى الاحتلال الذي تحول إلى مستقبل وفقط، دون أي قدرة أو إمكانية على الرد إلا من خلال الانتهاكات والقفز على بنود الصفقة.
وبينما كان يُمني رئيس الحكومة نفسه، قبل إبرام هذا الاتفاق، بانتصار مدوٍ يحافظ به على حظوظه السياسية ويطيل من خلاله في عمر حكومته العرجاء، إذ به اليوم يواجه مصيره المحتوم، بعدما حولت المقاومة الاتفاق إلى كابوس يؤرق مضاجعه ويضع مستقبل ائتلافه على المحك، ومن ثم حريته التي باتت هي الأخرى محل شك في ظل الملاحقات القضائية المحتملة التي قد تغوص في أوحالها إذا ما سقطت حكومته.
ورغم قشة الإنقاذ التي قدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنتنياهو خلال زيارته الأخيرة لواشنطن وتفجير قنبلته المدوية بمقترحه المرتكز على تهجير سكان غزة واحتلال أمريكا للقطاع وتحويله إلى منتجع سياحي عالمي، بما يتماهى مع الأجندة الصهيونية ويداعب أحلام اليمين المتطرف في إسرائيل، إلا أن رد الفعل الدولي والعربي الرافض لمثل هذا المقترح العنصري كان صادمًا للأمريكان بشكل غير متوقع، ما دفع البيت الأبيض ووزارة الخارجية لتلطيف الأجواء من خلال التراجع عن بعض النقاط المثيرة للجدل مثل الاحتلال الأمريكي للقطاع والتهجير الدائم للغزيين، وصولا إلى تسويف ترامب نفسه لهذا المقترح لما هو قادم دون أي عجلة بشأنه، مما اعتبره البعض تجميدًا مرحليًا للخطة.
وأمام هذا المشهد المرتبك، الذي تحاول من خلاله حماس تحقيق بعض الانتصارات الرمزية على حساب الاحتلال، بما يفند مزاعمه ويضعه في مأزق حقيقي أمام الشارع الإسرائيلي، تصاعدت المخاوف بشأن إقدام نتنياهو على إفشال الصفقة، يقينًا أن استكمالها يعني نهايته السياسية، وهو ما ألمحت إليه صحيفة “هآرتس” العبرية.
الصحيفة نقلت عن مصادر إسرائيلية قولها إن نتنياهو قد يسعى إلى وضع عراقيل تؤدي إلى انهيار صفقة التبادل مع حماس، لافتةً إلى أن الفريق الذي يزور الدوحة حاليًا لن يدفع باتجاه المرحلة الثانية التي لا يريدها نتنياهو الطامح في تمديد أجل المرحلة الأولى قدر الإمكان والدخول ضمنيًا في المرحلة الثانية دون الالتزام بشروطها التي تمثل ألغامًا قد تطيح بحكومته.
وكان رئيس الحكومة قد أوفد فريقًا للدوحة لا يتضمن رئيسي الشاباك والموساد كما هو معتاد خلال الجولات الماضية، فهو بحسب البعض فريق “تقني” منزوع الدسم، وبلا أي صلاحيات، وأن الهدف من إيفاده هو إرضاء ترامب ومبعوثه ستيفن ويتكوف، لكسب المزيد من الوقت حتى إطلاق سراح بقية الأسرى، ثم تقييم المشهد بناء على مقترح الرئيس الأمريكي وفي ضوء المستجدات الراهنة.
وتشير الكثير من المصادر إلى أن مشاهد تسليم الأسرى الإسرائيليين والرسائل التي بعثت بها المقاومة من خلالها أثرت سلبًا على استطلاعات الرأي وعلى شعبية الائتلاف الحكومي الذي تراجع بنسب مقلقة، وهو ما أثار استفزاز نتنياهو الذي هدد في مقابلة له مع قناة “فوكس نيوز” بمعاودة القتال مرة أخرى بعد الإفراج عن كافة الأسرى، قائلًا إن “إسرائيل ستكون قد أخرجت 75% من الرهائن الأحياء الأسبوع المقبل وستحقق النصر التام على حماس”، وفق وصفه.
عائلات الأسرى المحتجزين لدى المقاومة تستشعر هي الأخرى هذا القلق من احتمالية انقلاب نتنياهو على الاتفاق، حيث ناشدت الرئيس الأمريكي بالتدخل والضغط على نتنياهو لاستكمال بقية مراحل الصفقة، منددين بمحاولات إفشالها من خلال الاكتفاء بالمرحلة الأولى فقط دون تنفيذ بقية المراحل، تلبيةً لمطالب اليمين المتطرف، وحفاظًا على الائتلاف الحكومي المعرض للانهيار، خاصة بعد تفنيد مشاهد التسليم لمزاعم النصر المطلق التي عزفت على أوتارها الآلة الإعلامية التابعة لجيش الاحتلال والحكومة.