ترجمة وتحرير نون بوست
في أحد أيام ربيع سنة 2017، أنشئ نصب تذكاري في مدينة فيشغراد البوسنية، في ذكرى جريمة قتل جماعية فظيعة وقعت هناك قبل عقدين من الزمن. وتعد فيشغراد موقعًا لأسوأ الفظائع التي وقعت خلال الحروب الفظيعة التي أعقبت انهيار يوغسلافيا. وفي صيف سنة 1992، تم إطلاق النار على حوالي 3000 مسلم واغتصابهم وإغراقهم في هذه المدينة التاريخية على ضفاف نهر درينا.
علاوة على ذلك، حُوّل منتجع فيلين فلاس إلى معسكر اعتقال لاغتصاب الشابات، حيث اقتادوا في مناسبتين، العشرات من المسنين والنساء والأطفال تحت تهديد المسلحين وأحرقوهم أحياء. وفي الواقع، تجعل هذه الأحداث الأليمة والجرائم البشعة مسألة تركيز النصب التذكاري الجديد بمثابة أمر غير مفهوم، حيث أن الصليب الساطع لم يُنصب في ذكرى الضحايا المسلمين للإبادة الجماعية، بل لتكريم الجناة وحلفائهم على غرار القوات شبه العسكرية الصربية والمتطوعون الروس الذين ساعدوهم على تطهير المدينة عرقيًا.
أعلى اليسار: قبر في مقبرة فيشغراد، حيث أُزيلت سنة 2014 كلمة “إبادة جماعية”، وأُضيفت الكلمة مرة أخرى بالحبر الأسود من قبل شخص مجهول. أسفل اليمين: الكشف عن نصب صليب مسيحي أرثوذكسي على تل غراد فوق فيشغراد في نيسان/أبريل سنة 2017.
عقب ما يناهز العقدين من انتهاء الحرب، لا تزال البوسنة تكافح من أجل الخروج من دوامة الكراهية التي عصفت بالبلاد خلال التسعينيات. لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه خارج البوسنة، أصبحت ذكرى الإبادة الجماعية المرتكبة ضد مسلميها مصدر إلهام لليمين المتطرف العالمي. فعلى سبيل المثال، كتب مطلق النار الذي قتل 51 شخصًا في مسجدين في نيوزيلندا في آذار/ مارس الماضي أسماء الزعماء القوميين الصرب على البندقية التي استخدمها لتنفيذ المذابح.
في الحقيقة، أصبحت ردود فعل الجناة اليوم في المناطق التي تم تطهيرها عرقيا في البوسنة، حيث وقعت الإبادة الجماعية، تتمثل إما في تجاهل ما حدث أو الاحتفاء به. وبالإضافة إلى النصب التذكاري الموجود أعلى التل فوق فيشغراد، يوجد تمثال برونزي في وسط المدينة نُصّب على شرف المحاربين القدامى المحليين، الذين أدين العديد منهم بارتكاب جرائم حرب في لاهاي. وبغض النظر عن بعض اللوحات الصغيرة التي وضعتها مجموعات الضحايا في الأحياء التي وقعت فيها عمليات القتل الجماعي، لا يوجد اعتراف بالمذابح.
من أجل فهم أيديولوجية اليمين المتطرف الناشئ، المهووس بالديموغرافيا والنظرة المميتة للإبادة الجماعية في البوسنة، من المهم النظر إلى ما حدث بالفعل في البوسنة. وعموما، ينبغي أن يشير النجاح المريع للإبادة الجماعية في تطهير جزء كبير من البوسنة إلى السبب الذي جعلها مصدر إلهام.
في الحقيقة، إن تطهير أماكن مثل فيشغراد وفوتشا وسريبرينيتسا وبريدور وزفورنيك لم يكن حربًا بين قوتين متساويتين ومعارضتين. فقد كانت حملة قتل ووحشية ضد شعب أعزل، شُنّت باسم التركيبة السكانية والطهارة العرقية.
صورة مشوهة عثرت عليها عائلة بوسنية عندما عادوا إلى منزلهم في إحدى ضواحي سراييفو، البوسنة، في 17 آذار/ مارس سنة 1996. وقد غادر الصرب الذين احتلوا المنزل حين أضحت المدينة خاضعة لحكومة البوسنة التي يقودها المسلمون حاملين معهم أثاث الأسرة البوسنية وبقية ممتلكاتهم من المنزل.
خلال السنوات التي سبقت اندلاع الحرب، أثار السياسيون المتطرفون بقلق هواجس الشعب بشأن التوازن الديمغرافي ليوغوسلافيا. وفي هذا الصدد، كتب المؤرخ مايكل سيلز قائلا: “أصبح معدل الولادات قضية ساخنة لدرجة أن القوميين الصرب اتهموا المسلمين بحياكة مؤامرة متعمدة لاستخدام مواليدهم لسحق الصرب المسيحيين وتدميرهم في نهاية المطاف”. وتجدر الغشارة إلى أن الأمر نفسه أصبح راسخا في الوقت الراهن في أذهان الكثير من الناس خارج صربيا والبوسنة، بما في ذلك الولايات المتحدة.
في الواقع، كان الصرب والكروات والمسلمون يعيشون سويًا كمواطنين في يوغوسلافيا السابقة لفترة طويلة قبل وصول المؤمنين بالديماغوجيا إلى السلطة. وفي الواقع، استغرق الأمر سنوات من الجهد الذي بُذل خلال أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات حتى يتمكن القادة القوميون من إثارة الخوف والكراهية لإعلان الحرب.
كانت يوغوسلافيا السابقة، قبل انهيارها، مكانًا عصريًا نسبيًا مع وجود ثلة من النخبة في مدنها فضلا عن طبقة كبيرة من العمال. ومنذ عقود مضت، بدأت يوغوسلافيا السابقة تعاني من العنصرية التي تشهدها الولايات المتحدة في الوقت الراهن. لذلك، نحن نشهد فقط على المراحل المبكرة من العملية التي مرت بها يوغوسلافيا السابقة بالكامل.
وبينما تتصارع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية في الوقت الراهن مع الحركات السياسية التي تطالب بالنقاء العرقي والتغيير الديموغرافي، أصبح من المهم إلقاء نظرة على الإلهام الذي أشعل فتيل هذه المطالب وعواقبها.
نديبة صالحوفيتش، وهي امرأة من سريبرينيتسا، تصرخ على جندي للأمم المتحدة في مخيم للاجئين في توزلا، البوسنة، في 17 تموز/ يوليو سنة 1995. وقد أُعدم أكثر من 7000 رجل مع احتلال القوات الصربية لملاذ الأمم المتحدة الآمن في سريبرينيتسا.
سوء التقدير
عندما وقعت مذبحة نيوزيلندا في آذار/ مارس، وبدأ العالم في تحليل الإشارات التاريخية الصربية الخفية التي تركها مطلق النار وراءه، استجاب السياسيون الصرب إلى الاندفاع المفاجئ لاهتمام وسائل الإعلام بسخط. وفي هذا الصدد، قال وزير الخارجية، إيفيكا داتشيتش خلال مؤتمر صحفي: “أنا أدين هذه الأنواع من الانتهاكات، فالرجل لا علاقة له بصربيا. ولا أعلم من يمكن أن يكون مصدر إلهام بالنسبة له، حتى أنني رأيت أسماء بلدان أخرى في تلك القائمة”.
في الواقع، لا تعد صربيا محل اهتمام الصحافة الدولية في الوقت الراهن. في المقابل، تعدّ المرة التي لفتت أنظار العالم إليها لفترة طويلة، في التسعينيات، بسبب جرائم الحرب المروعة التي جدت آنذاك. والجدير بالذكر أن الإبادة الجماعية في البوسنة لم تكن أول حملة من الفظائع الجماعية التي عصفت بالمنطقة. فخلال الحرب العالمية الثانية، قام نظام متحالف من النازيين في كرواتيا بعملية إبادة جماعية ضد الصرب، قُتل فيها مئات الآلاف من الأشخاص.
على عكس تلك الحملة، وقعت الجرائم التي ارتكبت في التسعينيات على مرأى ومسمع وسائل الإعلام العالمية الحديثة، وكان الصرب الجناة. ولفترة طويلة، ارتبطت هذه الصورة بصربيا. وفي هذا السياق، كتب الصحفي تيم جودا في حديثه عن تاريخ ما بعد الحرب في البلاد، قائلا: “يبدو أن القيادة الصربية لم تدرك أبدًا أنها وقعت في الفخ وأن كل طلقة كانت تحول الصرب إلى منبوذين دوليين”.
أعضاء من فرقة نمور أركان، وهي وحدة شبه عسكرية متطوعة صربية، رفقة مدنيين مسلمين وهم بصدد أن يلقوا حتفهم أثناء المعركة الأولى للبوسنة في بيليجينا، في الثاني من نيسان/ أبريل سنة 1992. وكانت الوحدة شبه العسكرية مسؤولة عن قتل الآلاف من الأشخاص خلال الحرب البوسنية، حيث وُجّهت لاحقا أصابع الاتهام لنمور أركان بارتكاب جرائم حرب.
في حال كان اليمين الدولي المتطرف مستوحى من صربيا لارتباطها بالتطهير العرقي في التسعينيات، فتجدر الإشارة إلى أن هذه الصورة لا تعكس حقيقة البلد. وعلى الرغم من القمع والإبادة، إلا أن صربيا الحديثة لديها تاريخ غني من المعارضة الديمقراطية للقومية المتطرفة. وفي الحقيقة، لعبت إحدى الحركات التي انضم إليها العديد من الناشطين الليبراليين الصرب، التي تجمّع كثير منهم تحت لواء جماعة يقودها الطلاب تدعى أوتبور (“المقاومة” باللغة الصربية)، دورًا أساسيًا في الحركة التي أطاحت بدكتاتورية سلوبودان ميلوشيفيتش سنة 2000. وساعدت مشورة وتكتيكات الحركة في إلهام ثوار الربيع العربي بعد حوالي عقد من الزمان.
أعلى اليسار: أسرى الحرب البوسنيين والكروات في معسكر السجن في مانجاكا، البوسنة، في 22 آب/ أغسطس سنة 1992. أسفل اليمين: امرأة تنعى قبر أحد أقاربها في النصب التذكاري للإبادة الجماعية في سريبرينيتسا في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2017.
بعد الإطاحة بميلوشيفيتش، بدأت الحركة في صربيا بمحاولة التغلب على الماضي لمنع نشوب المزيد من الحروب الكارثية. ولكن بحلول سنة 2012، استنفذت الحركة قوتها مما ساهم في عودة الاستبداد (كجزء من التراجع العالمي للمعايير الديمقراطية) الذي استمر إلى يومنا هذا.
في الحقيقة، بدا التنصل من الماضي جليا خلال احتفاء الحكومة الصربية الحالية بوقاحة بمجرمي الحرب المدانين، الأمر الذي شجع الشعب على اعتبارهم أبطالا. وفي الحقيقة، يملك أحد أسوأ القتلة من فيشيجراد، وهو رجل ميليشيا سيئ السمعة يدعى ميلان لوكيتش، صفحة على فيسبوك يديرها من سجن إستوني. وتتلقى قصائد وصور لوكيتش مئات الإعجابات والتعليقات من المعجبين المتحمسين. وفي شهر يونيو/حزيران من هذا العام، نشر لوكيتش صورة لدونالد ترامب مع تعليق “عيد ميلاد سعيد يا سيادة الرئيس!”.
أصبح فندق فيلين فلاس، حيث تعرضت النساء والفتيات المسلمات للضرب والتعذيب والاعتداء الجنسي خلال حرب البوسنة، اليوم منتجعا صحيا.
ماذا يحدث عندما يصبح لديك دولة عرقية؟
عندما كان شابًا، كان أوبراد بولوغا؛ هو شخص يشير إليه الناس في البوسنة بأن يديه “ملطخة بالدماء”، في إشارة إلى أولئك الذين يُعتقد أنهم ارتكبوا فظائع خلال الحرب، قائدًا في إحدى الميليشيات سيئة السمعة التي تعمل في فيشغراد. وفي سنة 2014، اتّهم رفقة تسعة آخرين بضلوعهم في زمن الحرب في تعذيب وقتل 20 شخصًا تم اختطافهم من محطة قطار خارج المدينة. وكان التحقيق في المذبحة من ضمن الحالات النادرة التي تعاون فيها مكتب الادعاء البوسني والصربي.
في الوقت الراهن، يعيش بولوغا حرا طليقا في فيشغراد، حيث لم يبتّ بعد في قضيته. وحتى وقت قريب، كان بولوغا رئيسًا لجمعية المحاربين القدامى، حيث ساعد في تنظيم فعاليات مثل الكشف عن النصب التذكاري الذي يتمركز على التل سنة 2017. وفي الواقع، توجّهت هذا الصيف إلى فيشغراد، مع مسلم بوسني يدعى سمير سابانيجا الذي طالت عملية التطهير عائلته في بلدة روغاتيكا القريبة. وبعد العديد من المكالمات التي أُجريت معه، وافق بولوغا على لقائنا. وبشكل واضح، كان عصبيا بولوغا، حيث صرح قائلا: “لم أقتل أي شخص خلال الحرب، ولم أقترف أي ذنب في ذلك الوقت”.
قبل لقائي ببولوغا، زُرت المنتجع، حيث كانت الكافتيريا الموجودة في الطابق الأرضي مكتظة بالعائلات التي يقضون عطلاتهم والمسنين الذين يتناولون الطعام بصخب. وكانت الإشارة الوحيدة التي تُشير إلى حدوث شيء سيء في الماضي تتمثل في علامة “ممنوع التصوير” عند المدخل. وفيما يتعلق بالمسؤول عن الجرائم سيئة السمعة التي طهرت فيشغراد من مسلميها خلال الحرب، كان بولوغا مُراوغا في حديثه.
في هذا الصدد أخبرني بولوغا أنه بالفعل ارتكبت بعض الجرائم “وقد وثّقت المحاكم الدولية ذلك”. في المقابل، اعتبر بولوغا أنه لا علاقة لها بأي شخص من فيشغراد باستثناء شخص أو شخصين، ولم يكن أحد من البلدة يعلم ما يجري. كما أخبرني بحذر أن القوات شبه العسكرية ارتكبت عمليات القتل في أماكن في صربيا، وليسوا أشخاص من هنا.
على الرغم من قضية جرائم الحرب التي لم يُبتّ فيها بعد، استمرت حياة بولوغا بشكل طبيعي نسبيًا، حيث أنه يعمل في الوقت الراهن مدربا للكراتيه ولديه ابن يعيش في سراييفو. وفي هذا الإطار، قال بولوغا: “لا توجد حياة هنا ولا وظائف ولا فرص. كما أن المصانع التي وظفت معظم الناس أغلقت أبوابها أثناء اندلاع الحرب”.
في الحقيقة، لم يقتصر الأمر على قتل أو طرد العديد من سكان فيشغراد إلى الأبد بسبب الإبادة الجماعية، حيث دُمّرت المدينة كذلك. كنتيجة لذلك، حصل المنتصرون على ما يريدون، وأصبحوا في الوقت الراهن أسوأ حالًا من أي وقت مضى. وفي الوقت الراهن، باتت فيشغراد مدينة أشباح غريبة لا تشبه إلى حد كبير المكان المفعم بالحيوية والذي تم تصويره ببلاغة في رواية إيفو أندريتش الشهيرة، التي تحمل عنوان “جسر على نهر درينا”.
تمثال للكاتب اليوغسلافي إيفو أندريتش في الساحة الرئيسية بأندريغراد
إثر العديد من المحاولات للضغط على بولوغا للحصول على مزيد من التفاصيل حول عملية التطهير العرقي في فيشغراد، حيث لم يكن من السهل الحديث إلى متهم بارتكاب جرائم حرب، ظهرت جوانب كبيرة من التناقضات في حديثه. فبعد الاعتراف بحدوث الكثير من الأعمال الوحشية ضد الأبرياء، شدّد بولوغا على وجود معركة عسكرية كبيرة بين الطرفين المتنازعين، وهو ما لم يحدث أبدا في فيشغراد. وأكّد أنه في حال كانت هناك جرائم حرب حصلت، فلم يكن لأحد أن يدرك ذلك حينها.
وتجدر الإشارة إلى أن مدينة فيشغراد أضحت خرابا اليوم، وهو أمر لا يمكن إنكاره. ولم يبق سوى الفكرة التي كان يؤمن بها سكّانها المتبقين”المنتصرين” في عملية التطهير، بأن كل شيء حدث كان يستحق كل ذلك العناء بشكل أو بآخر. ويعتبر متنزه أندريغراد الترفيهي، الذي شُيّد على أنقاض موقع معسكر اعتقال سابق، آخر تكريم يائس للمشروع القومي العرقي الذي أدى إلى الإبادة الجماعية.
وجهة نظر ضحية عملية التطهير
يعد جسر محمد باشا سوكولوفيتش في فيشغراد تحفة معمارية يعود تاريخها إلى الدولة العثمانية في القرون الوسطى، ويمتد لمسافة حوالي 180 مترًا على نهر درينا. كان هذا الجسر الحجري المزخرف مكانًا حيويا يجتمع فيه الناس للشرب والثرثرة والصيد. بعد تولي القوات شبه العسكرية السلطة في سنة 1992، أضحى مكانًا لتنفيذ عمليات الإعدام.
كان سمير سبانيجا، البالغ من العمر الآن 40 سنة، أحد أولئك الذين عاشوا في فترة الحرب وكانوا شاهدين على الجرائم التي حدثت حينها. فقد كان مراهقا عندما اندلعت الحرب، وعلى غرار مئات الآلاف من البوسنيين الآخرين، وجد نفسه فجأة لاجئًا في بلده، ووقع تجنيده في الجيش البوسني الناشئ حديثا. خلال الحرب، أُصيب أربع مرات، بما في ذلك إصابته بشظية الهاون استقرت في بطنه، مما أجبره على البقاء على كرسي متحرك مدة سنة قبل أن يتمكن من المشي مرة أخرى. وفي الوقت الراهن، يمارس السباحة ليبقى في حالة جيدة، ويصر على أن إصاباته في الحرب لم تؤثر عليه على حياته على الرغم من أنه لم يعد بإمكانه الركض.
يُعتبر سبانيجا أحد ضحايا عملية التطهير العرقي، حيث أنه ينتمي إلى المجتمع الذي كان مستهدفا بأعمال العنف. بالنسبة لبعض المسلمين في البوسنة، فإن التعايش مع حقيقة أن الجيران حاولوا في العديد من المناسبات القضاء عليهم، الأمر الذي خلق لديهم مشاعر قلق إزاء مستقبلهم. أما بالنسبة لسبانيجا، الذي شارف على الموت في مناسبات عديدة، فقد تولّد لديه نوع من المرونة أو، على الأقل، نوع من اللامبالاة.
ترعرع سبانيجا في روغاتيكا، وهي بلدة صغيرة تقع غرب مدينة فيشغراد، والتي أصبحت الآن جزءا من جمهورية صرب البوسنة. وعلى غرار أغلب المدن في شرق البوسنة، فإن هذه البلدة تبدو هادئة والحياة فيها تسير بشكل طبيعي. وتتميز الهندسة المعمارية فيها بكونها عبارة عن مزيج من المباني الخرسانية على الطراز الشيوعي، ومن المنازل الحجرية ذات أسقف برتقالية اللون وجدرانها مطلية باللون الأبيض.
سمير يقف على الجسر فوق نهر درينا في 25 حزيران/ يونيو سنة 2019.
مع ذلك، كانت هذه المباني شاهدة على جرائم شنيعة. عقب اندلاع الحرب، انضم جيران سبانيجا الصرب إلى المنظمات شبه العسكرية متأثرين بالخطابات المتطرفة للقادة السياسيين الذين قدّموا وعودا بإنشاء وطن لا يعيش فيه سوى الصرب. فقد أصبحت المدرسة الثانوية المحلية تُستخدم كمعسكر اعتقال، حيث تعرّض السجناء للاحتجاز والتعذيب. وتحوّل منزل بالقرب من الحديقة حيث كان يلعب مع أقربائه لمركز احتجاز للنساء، وتعرضت العديد منهن للاغتصاب على أيدي القوات شبه العسكرية.
إثر سيطرة القوات شبه العسكرية على روغاتيكا، فرّت عائلة سبانيجا مع عدد آخرين من المسلمين إلى التلال المحيطة، ووردتهم أخبار بأن منزلهم تعرّض للاحتراق. ويُذكر أنّه خلال الحرب، قُتل أكثر من 100 ألف شخص، حوالي الثلث منهم كانوا مسلمين. والأمر الذي زاد من فظاعة عملية إبادة المسلمين هي الطرق الوحشية التي اعتُمدت في تنفيذ تلك الجرائم. فقد تعرّضت النخبة المثقفة والسياسيين والزعماء الدينيين وغيرهم من الشخصيات التي تحظى بتقدير واحترام كبير في مجتمعهم للقتل أمام مرأى عامة الناس.
يبدو أن الهدف من ذلك هو تدمير قدرة المسلمين على تجديد أنفسهم كمجتمع، حيث انجر عن مقتل قادتهم بطرق فظيعة انهيار معنويات شعبهم. وفي مجتمع بلقاني محافظ، حيث يحمل العنف الجنسي وصمة عار، كان للاغتصاب الجماعي النساء أثر متوقع انجرّ عنه تراجع نسبة الولادات، وذلك من خلال تدمير قدرتهن على تكوين أسر. لم تسعى الحرب لمحو مسلمي البوسنة كشعب فحسب، وإنما لمحو أي دليل على وجودهم، حيث تعرضت المساجد التاريخية للتفجير ووٌضعت أنقاضها في مصبات القمامة والأماكن التي كانوا يقيمون فيها إلى محلاّت تخزين.
كانت لهذه الذكريات التي استرجعها سبانيجا خلال المقابلة أثر عميق على شخصيته، ومازالت راسخة في ذهنه طوال هذه السنوات الطويلة حتى بعد انتهاء الحرب، التي لم تكن كمثيلاتها. فقد كان هناك الكثير من القسوة والكراهية والاستمتاع بالتعذيب وابتكار طرق جديدة لقتل المسلمين، وقد تحوّل أصدقائهم وجيرانهم بين ليلة وضحاها إلى أعداء بسبب “التاريخ”.
أحد خبراء الطب الشرعي البوسني يفرز عبوات تحتوي على رفات بشرية عثر عليها في مقبرة جماعية في قرية إيفان بولي بالقرب من روغاتيكا في 10 أيار/ مايو سنة 2011. ويعتقد خبراء الطب الشرعي أن هذه المقبرة الجماعية قد تحتوي على العشرات من الرفات التي يعتقد أنها تعود لمسلمي البوسنة من بلدة روغاتيكا الذين قتلوا في سنة 1992.
لقد تطلّب الأمر الكثير من العنف لمحو التاريخ الزاخر للمسلمين والكروات والصرب الذين كانوا يعيشون معًا في سلام في البوسنة. ما إن انتهت الحرب واتخذت البلاد حدودها الجديدة الأكثر تجانسا، لم يكن أحد يشعر بسعادة. بدلاً من ذلك، أصبحت ألمانيا “الأرض الموعودة”، وبدرجة أقل، الولايات المتحدة، حيث أن كلاهما أصبحا موطنًا يلجأ إليه الكثير من المهاجرين من يوغوسلافيا السابقة. في نهاية المطاف، بعد أن وقع القضاء على التنوع في البوسنة بسبب الحرب، بدأ الناس من جميع المجموعات العرقية يحلمون بالرحيل إلى مكان يخوضون فيه تجربة تنوّع جديدة.
عندما تدخل سراييفو من الشرق، فإن أولى الأشياء التي تراها هي قاعة مدينة سراييفو التاريخية، التي بنيت في عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية. وخلال الحرب، دُمّر المبنى الأصلي بسبب القصف الذي شنّته القوات الصربية التي كانت متمركزة في التلال المحيطة، واحترقت معه قرابة مليوني وثيقة تاريخية لا تقدر بثمن.
في المبنى الجديد الذي اكتمل ترميمه، توجد لوحة لتذكير الزائرين بما حدث خلال الحرب، وتضمّ هذه الكلمات: “لا تنسوا، بل تذكروا وحذّروا!” من الصعب فهم ما يجب فعله بمثل هذه الذكرى لكن من المغري التخلي عنها، على أمل ألا تتحمل أجيال المستقبل هذا العبء. ولكن في بلد تندلع فيه الحرب كل بضعة عقود، يصبح النسيان أمرا صعبا جدا، خاصّة إذا خضت تجربة إبادة جماعية.
يجتمع المشيعون في موقع تذكاري مؤقت بالقرب من مسجد النور في كرايستشيرش في نيوزيلندا، في 19 آذار/مارس سنة 2019.
من البوسنة إلى كرايستشيرش
أوضح لي إطلاق النار المميت على المسجد في نيوزيلندا في شهر آذار/مارس الماضي جميع المخاوف التي تواجهها الأقليات التي تعيش في الغرب منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر. ومع استمرار الهجمات، بما في ذلك عمليّة إطلاق النار التي شنّها أحد اليمنيين المتشّدين على مسجد في أوسلو، الذي كنت على بعد بضعة أميال منه في تلك اللحظة، لم أعد أقوى على تجاهل ما يحصل.
تتمثّل نقطة التشابه بين هؤلاء الرماة في الخطابات المكتوبة التي تركوها وراءهم، والتي حرصت على أن أقرأ كل واحدة منها. وما أذهلني أكثر من الكراهيّة المتواجدة في خطابات هؤلاء الشباب الذين يبررون عمليات القتل التي ارتكبوها، هو مدى شعورهم باليأس. ويبدو هؤلاء الأشخاص مهووسين بالثقافة والعرق، والمستقبل الذي يتوقّعونه قاتم بما يفوق الخيال. ويعتقدون أن الحل الوحيد هو القتل الجماعي الذي هم على وشك ارتكابه.
وعلى سبيل المثال، حذر كل من رادوفان كاراديتش وسلوبودان ميلوشيفيتش من أن مجتمعهما كان في خطر ديموغرافي مميت وأن العنف سيكون ضروريًا للحلول دون انهياره. وقضت رؤيتهم على عديد الأرواح التي لا حصر لها وحولت صربيا والجمهورية الصربيّة إلى منطقة شبيهة بالدولة المنبوذة. على الرغم من إخفاقاتهم، إلا أن رؤيتهم ما زالت قائمة في مخيلة اليمين المتطرف الدولي وبين جيل من الشباب القوميين المتطرفين، ليس فقط في صربيا بل في أنحاء البلقان.
في أعقاب سنوات الحرب التي تزامنت مع انهيار يوغوسلافيا، تمّ تأسيس عديد المنظمات غير الحكومية في جميع أنحاء البلقان لمحاولة إعادة تجميع النسيج الاجتماعي الممزق في المنطقة. وإحدى هذه المنظمات هي مبادرة الشباب من أجل حقوق الإنسان، وهي مجموعة ناشطة تأسست سنة 2003 لتنمية الديمقراطيات الناشئة في المنطقة ومساعدة الناس على مواجهة التأثيرات التي خلّفها النزاع. ويعد إيفان ديوريتش مدير برنامج مكتب مبادرة الشباب من أجل حقوق الإنسان في بلغراد.
تنظم مبادرة الشباب من أجل حقوق الإنسان حلقات دراسية عامة حول جرائم الحرب والعدالة الانتقالية والسلطوية في البلقان. وفي الآونة الأخيرة، توجّه بعض النشطاء من المجموعة إلى الاحتجاجات التي أقيمت على شرف مجرمي الحرب. وسنة 2017، حاول ديوريتش رفقة مجموعة من الناشطين الآخرين تخريب حدث أقيم على شرف فيسيلين سيليفانانين، وهو ضابط بالجيش أدين في لاهاي بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لكنّ وجّهت لهم تهمة ارتكاب جنحة بسبب مقاطعة الحدث.
عندما بدأت يوغوسلافيا تنقسم بعنف إلى دول عرقية متنافسة، رفض الكثير من الناس، بمن فيهم الصرب والكروات والمسلمون والسلوفينيون، مواكبة الواقع الطائفي الجديد.
على الرغم من أن الدعم المقدم لمجرمي الحرب من قبل الحكومة الصربية قد يبدو غريبًا تمامًا على الأميركيين، إلا أنه ليس كذلك في الواقع. واليوم يدافع المسؤولون المنتخبون في الولايات المتحدة علانية عن مجرمي الحرب المتهمين في إطار حملة أوسع نطاقا يسيّرها فكر القوميين المتطرفين وكره الأجانب. وعلاوة على ذلك، فإن أوجه التشابه في الطريقة التي يحظّر من خلالها الزعماء الصرب مجتمعهم نفسيا لتقبّل العنف، مثيرة للقلق.
عندما بدأت يوغوسلافيا تنقسم بعنف إلى دول عرقية متنافسة، رفض الكثير من الناس، بمن فيهم الصرب والكروات والمسلمون والسلوفينيون، مواكبة الواقع الطائفي الجديد. وفي الواقع، ظلّ البعض منهم يطلقون على أنفسهم اسم يوغوسلافيا: مواطنو مجتمع متعدد الثقافات سيتوقف قريباً عن الوجود. وسيقول الكثير من الأشخاص الذين يتذكرون الفترة التي سبقت الحرب أنهم لم يتصوروا قط أن مثل هذه الأحداث قد تقع في بلدهم. سنة 1984، كانت مدينة سراييفو مقرًا لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية وبعد أقل من عقد من الزمان، أصبحت تقبع تحت أسوأ حصار عسكري شهدته أوروبا منذ ستالينغراد.
خلال السنوات الأخيرة من صمود يوغوسلافيا، حيث بدأ النظام في الانهيار، استمر القادة الوطنيون في رفض جميع الاحتمالات بأن الأمور ستكون أفضل من أي وقت مضى، ما لم يسمح لهم الشعب بتمرير أجندتهم اليمينية. وحتى مع وجود زعيم ديماغوجي وغير كفء، فإن الولايات المتحدة لا تزال على الأرجح أكثر مرونة مما كانت عليه يوغوسلافيا في أي فترة من تاريخها. لكن المشاعر المعادية للأجانب والغرور والجهل التي تمجّد بصوت عالٍ في الولايات المتحدة أثارت اهتمام أشخاص مثل ديوريتش، لأنه شبيه بما حدث لمجتمعه قبل أن ينهار.
المصدر: الإنترسبت