مجرد كائن صغير جدًا، يحيا في قبو حيث يشاهد المارة والعربات، وبالكاد لديه نافذة صغيرة حيث ينفذ منها ضوء أشعة الشمس، الطاقة التي تتعرف منها على العالم وما يدور حولك أو فوقك. هذا هو المشهد الافتتاحي للفيلم الكوري الجنوبي “parasite“، الحائز على جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان في دورته لهذا العام.
القبو والبق
“أتعرف ما نوع الخطط التي لا تفشل؟ الخطط التي لا وجود لها”.
أنت عاطل وتحيا في قبو مع باقي أفراد عائلتك الذين يعانون أيضًا من البطالة، لا تستطيع دفع فواتير الهاتف ولا تملك طعامًا، فقط بعض الفتات الذي غزاه البق، ولم يتبق منه شيء.
فيلم “parasite“، هو أول فيلم كوري جنوبي يحصد جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان، من إخراج وكتابة بونج جون هو، وبنسبة كبيرة هو من الأفلام المرشحة لجائزة الأوسكار أفضل فيلم أجنبي.
في لمحاتٍ سريعة على جدران القبو، تلتقط الكاميرا إطارًا معلقًا به ميدالية فضية، حصلت عليها الأم في ألعاب القوى، الأم تملك ميدالية في لعبة كبيرة ولا تستطيع إطعام أولادها، عاطلة عن العمل منذ فترة طويلة، هي وباقي العائلة.
من يرى اللوحات المرصوصة على الجدار بعناية، يعرف إلى أي حدٍ هذا البيت مرتب وراقٍ
حجر يجلب الحظ
“لا يزالون يفعلون مثل هذه الأشياء. أعتقد ذلك. أغلق النافذة. لا، اتركها مفتوحة، سنحصل على إبادة مجانية، اقتلوا البق النتن”.
ينجح “مين” صديق “كي وو” الابن، أن يوفر له وظيفة مدرس للغة الإنجليزية بأحد المنازل الراقية والغنية.
أول مرة رأى فيها كي وو هذا البيت، وهو يصعد السلالم المؤدية للحديقة، ويرى الشجر الموجود في صفٍ واحد، ثم يدخل فناء البيت، ويرى كم هو واسع جدًا، وأربعة أشخاص فقط هم الذين يعيشون فيه، وكيف أن مطبخ هذا البيت وحده أوسع بكثير من ذلك القبو الذي يحيا فيه مع عائلته.
من يرى اللوحات المرصوصة على الجدار بعناية، يعرف إلى أي حدٍ هذا البيت مرتب وراقٍ.
صراع على طاولة المطبخ
“الأشخاص الذين يستقلون قطار الأنفاق يملكون رائحة مميزة”.
سيدة المنزل لم تكن تعرف أن كي وو ينحدر من طبقة أقل منها ومن صديقه مين الذي رشحه لهذه الوظيفة، وأن مؤهلاته هذه محض وهم ومزورة، ورغم أنها بدت في حديثها ودودة، بعد قليل انتبه أن حديثها أصبح طبقيًا، خصوصًا مع وجود هذا الكلب الذي تربت وتلعب معه، ويبدو أكثر نظافة من كي وو.
القلب لا يكذب
“الامتحان مثل العبور خلال غابة، إذا خسرت تركيزك عندها، أنت انتهيت”.
حين كان كي وو يتحدث مع دا هاي، عن الأسئلة وما يتطلب من قوة وتركيز لعبور الامتحان بنجاح، بل والقضاء عليه تمامًا، كان يحدث نفسه بهذا الكلام في هذه اللحظة، خصوصًا أنه جرب الفشل كثيرًا، حين خاض الامتحان التأهيلي للجامعة أربع مرات وفشل فيه.
بعد أن ثبت كي وو نفسه كمعلم من أول حصة في هذا البيت، وضمن وظيفة ومال جيد، بحيلةٍ ذكية استطاع توفير وظيفة لأخته كمعلمة للفنون للطفل الصغير دا سونغ.
فخ في السيارة
“التمثيل شيء بسيط، لكن هذه العائلة سهلة الانخداع”.
حين لا تعلم الطبقات المرفهة بحال الطبقات الدنيا وما يدور فيها من فظائع وأهوال، لا يتورع أي شخص من طبقة أدنى في استغلال أي فرصة تمكنه من الالتحاق بهذه الطبقات، حتى لو كان في صعوده هذا عبارة عن كائن طفيلي.
الانتقال إلى المرحلة الجديدة من محاولة إيجاد فرصة وظيفة أخرى للأب والأم، بعد نجاح الأبناء في مهمتهم، هذا الانتقال بدأ سريعًا من خلال فخ نصبته الابنة كي جانغ في سيارة رب المنزل والعمل، وكان ضحية هذا الفخ، هو السائق الذي يتم استبداله بالأب.
الفيلم يبدأ بكوميديا سوداء مكتوبة بحرفية شديدة، مناسبة جدًا لأجواء العمل، ثم نجد جزءًا من الفيلم أصبح دراميًا
أي شيء تحت خط 38
“في عصر مثل عصرنا عند الإعلان عن وظيفة حارس فإن 500 خريج جامعي يقدم عليها. عائلتنا بالكامل قد حصلت على وظائف”.
هذه الكذبة الكبيرة التي اختلقتها العائلة كلها، كانت فقط من أجل النجاة من هذا القبو المقرف برائحته النتنة والبق الموجود به، محاولة الإحساس أنهم أحياء، لم يموتوا بعد، وبدلًا من بقائهم عاطلين، يصبحون بين ليلة وضحاها أصحاب وظائف في مكان مرموق، أرباب العمل فيه يدفعون بسخاء.
خلف الكاميرا
الفيلم يبدأ بكوميديا سوداء مكتوبة بحرفية شديدة، مناسبة جدًا لأجواء العمل، ثم نجد جزءًا من الفيلم أصبح دراميًا، وبعد أن نستمر في المشاهدة، يتحول الفيلم لديستوبيا كبيرة، تضاهي أي رواية ديستوبية أو فيلم هوليوودي من هذا النوع، فأنت أمام فيلم تجد فيه كل شيء، بداية من الكوميديا، مرورًا بالدراما والجريمة، ثم الديستوبيا والنهايات الصادمة أو التي لم توضع في الحسبان.
الموسيقى أيضًا، كانت جميلة ومناسبة للإيقاع الذي يتبناه الفيلم في كل لحظاته، خصوصًا في مرحلة تسكين الوظائف للعائلة واللعبة الذكية التي يلعبونها.
كذلك التصوير، فمن الأشياء الجميلة في هذا العمل أن أحداثه تدور فقط في مكانين اثنين، القبو والبيت الراقي، مقارنة لعبها المخرج بحرفية، رمزية عالية لتصوير الطبقات.
أهم شيء في هذا العمل هو الممثلون، التزام كبير وأداء عالٍ، هذا الفيلم وهؤلاء الممثلون لا يستحقون فقط السعفة الذهبية، بل كل الجوائز التي من الممكن أن تمنحها لفيلم أجنبي، بهذا الجمال والمتعة.
ملصق فيلم الطفيلي parasite
فنانو خداع
“لا يوجد خطة، أتعلم لماذا؟ إذا وضعت خطة، لن تسير الحياة كما خططت”.
ما نراه في الفيلم هو صراع بين الطبقات، خصوصًا الطبقة الفقيرة المعدمة التي تحاول بأي طريقة أن تجد لها مكانًا في المجتمع، بين وحش الرأسمالية العملاق، الذي أول ما يقتل تكون الطبقة الفقيرة، وهذه الطبقة لن تعود خطوة للوراء مهما كلفها هذا الأمر، حتى لو ارتكبت الجرائم.
هذه العائلة لم تكن تملك إلا الحيلة والذكاء، وبهم استطاع الكائن الطفيلي أن يحدث ثورة في فناء هذا البيت الكبير، رغم ما سببته من فوضى عارمة، وما حدث في آخر الفيلم من نهاية تبدو صادمة، لكنها في الحقيقة واقعية جدًا ومناسبة.