لم يثن زخم الانتخابات الرئاسية التونسية المقررة في 15 أيلول سبتمبر الجاري، والجدل المرافق للاستحقاق من حيث عدد المرشحين وهوياتهم وقدرتهم على الوصول بالبلاد إلى بر الأمان بعد ثماني سنوات جربوا فيهم أنواع الحكم (ترويكا تكنوقراط وتوافق)، التونسيين من شن حملات على مواقع التواصل الاجتماعي لمحاربة بعد الظواهر التي تشكل تهديدًا لسلمهم وأمنهم ومنها الجريمة.
ويرى مراقبون أن المجتمع التونسي دخل بعد ثورة 14 يناير 2011 في مرحلة انتقال جذري على كل المستويات (سياسي اقتصادي واجتماعي) لذلك من البديهي أن يشهد مهد الربيع العربي متغيرات تتعلق أساسًا بالقيم والأخلاق خاصة مع ضعف المنظومة الأمنية وحداثة المؤسسات الدستورية.
تفشي الجريمة
كانت تقارير أمنية أوردت أنه تم تسجيل أكثر من 8 جرائم طعن ومحاولة قتل وقتل في أسبوع واحد مع أكثر من 11 محاولة اغتصاب وتحويل وجهة وتحرش، فيما كشفت بيانات منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (غير حكومي) عن زيادة العنف الجماعي خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب الماضيين.
ونشرت سامية الفهري تدوينة على فيسبوك: “براكاجات قاتلة من هنا وهناك وإجرام متفشي، مافهمتش انظموا رواحنا ونكونوا أمن ذاتي بعد ماناخذو رخصة من سيادة وزير الداخلية!”، فيما قال بوقرة سامي:” براكاجات في قلب العاصمة والداخلية غياب كلي غير معنية بالموضوع”.
ظاهرة “البراكاجات” تفاقمت في تونس بعد 2011، وطالت حتى الأمنيين الذين يتدخّلون دون ضمانات قانونية للتصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة، معلقا بالقول: إن “القادم أعظم“
أما بشير باشا فدون على صفحته: “علينا أن نعيد لجان حماية اﻷحياء بما أن الحكومة ووزارة العدل والداخلية لا يهتمان بسلامة المواطن براكجات والقتل”.
ومصطلح “براكاج” يعني السرقة باستخدام العنف أي أنه اعتداء بنية افتكاك وسلب أحد المارة ما يملك وهو ما يعرف شرعًا بقطع الطريق أو الحرابة ويأتي في خانة أعمال الافساد في الأرض، ويُعاقب القانوني التونسي (الفصل 261 القانون الجزائي) بالسجن مدة تصل إلى عشرين عامًا مرتكب السرقة الواقعة باستعمال استعمال العنف الشديد.
وحذّر الكاتب العام للنقابة العامة لموظفي الأمن العمومي، عماد بن علي، في وقت سابق من انتشار ظاهرة “البراكاجات” في تونس، في تعليقه على حادثة مقتل الشاب قيس الصفراوي طعنا بالسكين رفقة شقيقه في منطقة العوينة (العاصمة).
وأوضح المسؤول الأمني أنه تم إلقاء القبض في الإبّان على المعتدين كما تم ايقاف اثنين آخرين بجهة حلق الوادي، مشيرًا إلى أن ظاهرة “البراكاجات” تفاقمت في تونس بعد 2011، وطالت حتى الأمنيين الذين يتدخّلون دون ضمانات قانونية للتصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة، معلقا بالقول: إن “القادم أعظم.”
وأكد أن الأجهزة الأمنية تتفاعل مع المواطنين الذين ينشرون مقاطع فيديو لعمليات سطو أو اعتداء مسلح ويتم القبض على المجرمين الخطرين على أمن المواطن، إلا أنه يتم اخلاء سبيلهم لاحقًا، مشيرًا إلى أن القوانين المطبّقة غير صارمة مع مثل هؤلاء المجرمين كما اعتبر أن الأحكام القضائية غير رادعة مما أسهم بشكل كبير في انتشار هذه الجرائم الخطيرة التي أصبحت تهدّد الحياة اليومية للمواطن في ظل انتشار المخدرات بكل أشكالها وأساسا الحبوب المخدرة.
منسوب الجريمة في تونس سواء بالوسط الحضري أو الريفي تطور بشكل مقلق وباتت مفزعة
ظاهرة اجتماعية
وعن تفشي ظاهرة الجريمة، قال الدكتور في علم الاجتماع الهادي العلوي في تصريح لـ”نون بوست” إنّ ظاهرة الانحراف والجريمة من الظواهر التي تواجه جميع المجتمعات النامية والمتقدمة، وهي نتاج لعوامل البيئية الاجتماعيـة الاقتصادية أو السياسية، مشيرًا إلى أن المجتمع التونسي يعيش بعد الثورة تداعيات أزمات متتالية، وأصبح يعيش نوعًا من “الأنوميا” (ظاهرة يتعرض لها النظام الاجتماعي وتجعله غير منظم)، إلاّ أن الجريمة في تونس ورغم انتشارها لا يمكن تصنيفها بالخطيرة أو الوبائية.
وأكّد على أن منظمات المجتمع المدني والجمعيات المحلية تقوم بتعبئة وتنظيم مشاركة الأفراد وتقديم خدمات إنتاجية ورعائية واجتماعية وتحسين جودة الحياة للفئات ذات علاقة وهذه المنظمات تعتبر إطارًا مثاليًا للمشاركة الشعبية ومواجهة التحديات بشكل جمعي من خلال وضع سياسات عامة تهدف إلى معالجة المتغيرات الطارئة على المجتمع ومتابعة ومراقبة من أجل الإصلاح، مضيفاً أن المجتمع يملك الكثير من القوى والتأثير في كبح الجريمة أو تشجيعها وهذا يلزم المجتمع أن يبذل الجهود في دعم الحالة الاجتماعية.
في مقابل ذلك، أكد المختص في علم الاجتماع، زهير العزعوزي، أن منسوب الجريمة في تونس سواء بالوسط الحضري أو الريفي تطور بشكل مقلق وباتت مفزعة، مضيفًا أن المجتمع التونسي يسجل ما بين 20 و25 جريمة في كل ساعة وقد بلغ عدد الجرائم منذ يناير/ جانفي إلى يوليو 2019، 150 ألف جريمة، مشيرًا إلى أن سنة 2018 شهدت وقوع 195 ألف جريمة.
وأشار إلى ازدياد جرائم العنف خصوصًا ‘النطرة’ (النشل) و’البراكاجات’ ضد النساء وكبار السن في السنوات الأخيرة، إضافة إلى وجود عصابات منظمة تنفذ جرائم سرقة المنازل والسيارات والبنوك وتستغل التكنولوجيات الحديثة في عملياتها.
ارتفاع الجريمة في تونس ليست نتاجًا لغياب منظومة عاقب زجري أو لوهن في سلطة العدالة وإنما تعود أساسًا إلى عوامل أخرى أهمها انعدام المقاربات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يُمكنها معالجة الأزمة.
القانون والحلول
تعدد جرائم السلب والقتل والاغتصاب دفع التونسيين إلى التساؤل حول قدرة القوانين ومؤسسات الدولة إضافة إلى السياسيين (برامج انتخابية) على معالجة الأزمة التي باتت تؤرقهم وتُهدد أمنهم.
وفي ذات السياق، قال المترشح للانتخابات الرئاسية، ناجي جلول، إنه ضدّ تنفيذ حكم الإعدام حتى لمرتكبي جرائم الاغتصاب، لكنّه مع عقوبة إخصاء كل من تثبت عليه الجريمة، وفق قوله.
وأوضح وزير التربية السابق، في تصريح إعلامي، أنه مع مسألة الإخصاء لأن الاغتصاب يحطّم الإنسان وهو “اعتداء على حرمة الجسد وله تبعات نفسية كبيرة، واصفًا “العنف والاغتصاب” بـ “الإرهاب”، وهو ما تعيش على وقعه البلاد يوميًا تقريبًا، حسب تعبيره. ووعد المترشّح للانتخابات الرئاسية، ناجي جلول، بعدم التسامح مع مثل هذه الجرائم وبتطبيق القانون بصرامة مع مرتكبيها.
من جانبه، أكد المحامي وعضو لجنة تنقيح المجلة الجزائية (تتولى تحديد الجرائم وعقوباتها وهي من أقدم المجلات القانونية صدرت سنة 1913 وكانت بدورها نتيجة أشغال لجنة مختصّة تم إنشائها سنة 1896)، عماد القاسمي في تصريح لـ”نون بوست” أن القوانين في المجمل هي قوانين متطورة وقادرة على مواكبة صيرورة التطور المجتمعي، مؤكدًا أن ارتفاع الجريمة في تونس ليست نتاجًا لغياب منظومة عاقب زجري أو لوهن في سلطة العدالة وإنما تعود أساسًا إلى عوامل أخرى أهمها انعدام المقاربات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يُمكنها معالجة الأزمة.
وأضاف القاسمي أن الصراع على الحكم ومخلفات السياسيين بعد ثورة 14 يناير لا يمكن “كنسها” بطريقة أمنية بحتة، مرجعًا سبب ارتفاع الجريمة إلى غياب الدور التربوي في المدارس والاعداديات والمعاهد، والانقطاع المبكر عن الدراسة، وانتشار البطالة، وانعدام العناية العائلية (التشتت الأسري).
ارتفاع نسب الجريمة لم يرى فيه التونسيون تهديدا للأمن العام وسلامة المواطنين في الشوارع ووسائل النقل العمومية فقط، بل تجاوز الخوف عند طيف منهم ليصل حد التحذير من أن هذه العمليات المتواترة وفي فترات زمنية قصيرة تهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي
بدوره، نشر النائب في البرلمان التونسي عماد الدايمي تدوينته على حسابه الشخصي بالفيسبوك قال فيها: “إنّ الوقت قد حان ليتمّ التعامل مع ظاهرة البراكاجات والعنف بأقصى درجات الردع، ضمن سياسة وطنية متعددة الجوانب، الجنائية والثقافية والإعلامية والتربوية والدينية”، واعتبر أنّ “المجتمع التونسي يدفع اليوم ثمن سنوات التجهيل والتسطيح الفكري والمعرفي والإبعاد القسري عن الهوية وضرب التدين”.
وردًا على استفحال عمليات السلب “القاتلة” دعا بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى تشديد العقوبات على الخارجين عن القانون ومضاعفة العقوبة السجنية، فيما ذهب جزء منهم إلى المناداة بإعدامهم مستندين إلى شهادات من التاريخ ومن بعض كتب علماء تونس الزيتونيين قبل الاستقلال من بينهم العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه التحرير والتنوير (182/6): (وقد كانت نزلت بتونس قضية لصّ اسمه “ونّاس” أخاف أهل تونس بحيَله في السرقة وكان يحمل السلاح، فحُكم عليه بحكم المُحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقُتل شنقا بـ”باب سويقة”).
إلى ذلك، فإنّ ارتفاع نسب الجريمة لم يرى فيه التونسيون تهديدًا للأمن العام وسلامة المواطنين في الشوارع ووسائل النقل العمومية فقط، بل تجاوز الخوف عند طيف منهم ليصل حد التحذير من أن هذه العمليات المتواترة وفي فترات زمنية قصيرة تهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي ومن ثمة استهداف العملية الانتخابية برمتها.