يبدو أن المشهد الضبابي الذي يحيط بمستقبل العلاقات الروسية مع الإدارة السورية الجديدة، قد بدأ ينجلي أكثر فأكثر، مع حديث وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، الذي أكد أن سوريا منفتحة على السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها الجوية والبحرية على طول الساحل السوري، طالما أن أي اتفاق مع الكرملين يخدم مصالح البلاد ويحقق المكاسب.
حديث أبو قصرة مع صحيفة واشنطن بوست، يوحي بأن موقف روسيا تجاه الحكومة السورية الجديدة قد تحسّن بشكل ملحوظ منذ سقوط الأسد، ولا سيما مع إشارته إلى أنه “في السياسة، لا يوجد أعداء دائمون، وأن روسيا ربما تُمنح الحق في الاحتفاظ بقاعدتها البحرية في طرطوس وقاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، في حال الحصول على مكاسب لصالح سوريا”.
سوريا.. أهم قاعدة لروسيا
تعد سوريا أهمَّ قاعدة عسكرية بالنسبة إلى الاتحاد السوفييتي السابق وإلى وريثه الاتحاد الروسي في دول منطقة الشرق الأوسط، نظراً لأهمية موقعها على البحر المتوسط، وقربِ سوريا من دول الخليج التي تطمح روسيا إلى دخول أسواقها، ومنافسة تركيا في قيادة المنطقة، والأهم من ذلك سوق السلاح الكبير الروسي المصدَّر للجيش السوري والذي يرتكز في عمله على العقيدة الشرقية، وعلى السلاح الشرقي، والروسي بالتحديد.
ولروسيا قاعدتان رئيسيتان فقط في سوريا، انطلقت من خلالهما في دعم النظام البائد وتأمين العمليات القتالية ضد الشعب السوري وتدمير مدنه عبر تجريب الأسلحة الفتاكة المختلفة.
القاعدة الأولى في ميناء طرطوس: وهي إرث روسيا من الاتحاد السوفيتي وتشكّل مركز ثقل غاية في الأهمية للوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وتأسست قاعدة طرطوس البحرية عام 1971، بموجب اتفاق بين سورية والاتحاد السوفييتي، واستخدمها الأسطول البحري السوفييتي، كمركز للدعم اللوجستي والتقني لأسطول البحر الأسود الموجود في البحر المتوسط، إضافة لرصد نشاطات قوات حلف شمال الأطلسي وتحركاتها.
وخسارة القاعدة بالنسبة للروس يعني أن نفوذها في المنطقة قد انتهى، لذا تم توقيع اتفاقية مع نظام الأسد البائد في كانون الثاني/ يناير 2017، تسمح للروس ببقاء قاعدتها البحرية في مدينة طرطوس السورية مدة 49 عامًا قابلة للتمديد تلقائيًا لفترات متعاقبة لمدة 255 عامًا، دون مقابل مالي.
كما تضمنت المعاهدة السماح للروس بتحديث وتوسيع القاعدة، بحيث يمكنها استضافة عدد من السفن الحربية الروسية، واستيعاب حاملات الطائرات والغواصات النووية، وتقضي الاتفاقية بمنح القاعدة الروسية حصانة كاملة من القوانين السورية، وبعدم السماح للسلطات السورية بدخولها، وتستطيع روسيا -بموجب الاتفاقية وبموافقة الأطراف المعنية- نشر مواقع عسكرية متحركة لها خارج نطاق القاعدة بهدف حمايتها والدفاع عنها.
القاعدة الثانية في مطار حميميم: وتعد الذراع الأقوى والأطول للقوات الروسية في ارتكاب كثير من المجازر، وهي قاعدة عسكرية جوية تقع في بلدة حميميم، على بعد أربعة كيلومترات من مدينة جبلة، و19 كيلومترًا من محافظة اللاذقية، بالقرب من “مطار باسل الأسد”، وأنشئت كمهبط للحوامات، قبل أن تتحول إلى مطار يستقبل الطائرات المدنية الصغيرة والمتوسطة.
وقبيل التدخل الروسي، في آب/ أغسطس 2015، وقّعت روسيا اتفاقًا مع النظام البائد يسمح لقواتها استخدام هذه القاعدة، كمركز رئيسي لانطلاق عملياتها العسكرية على الشعب السوري، من دون أي مقابل مدة 49 عامًا، وأن يكون لها الخيار في تمديد هذه الاتفاقية لمدة خمس وعشرين سنة أخرى.
واستخدمت روسيا قاعدة حميميم الجوية كمركز لاستهداف المدن السورية الثائرة، كما دعمت المرتزقة العاملين لصالح مجموعة فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان، وقاعدتي الجفرة وبنينا الليبيتين.
تواصل حثيث
منذ سقوط نظام الأسد، كشفت وزارة الخارجية الروسية أنها على اتصال مع كافة فصائل المعارضة السورية، والتي بدورها قدمت ضمانات للحفاظ على أمن القواعد العسكرية الروسية في سوريا.
يأتي ذلك بالتزامن مع سحب الجيش الروسي بعض التجهيزات والعناصر من هذه القواعد في الأيام الأولى لوصول إدارة العمليات العسكرية إلى الساحل السوري، وحسب تقرير نشره معهد “دراسة الحرب”، كانون أول/ ديسمبر الفائت، فإن روسيا “نقلت بعض السفن من ميناء طرطوس إلى منطقة قريبة قبالة الساحل”، كما أظهرت صور الأقمار الاصطناعية الملتقطة، أن جميع السفن والغواصات الروسية غادرت ميناء طرطوس.
وأضاف التقرير إلى أنه “من غير الواضح في هذا الوقت ما إذا كانت روسيا تنقل السفن من طرطوس كجزء من عملية إخلاء أوسع، أو لحماية هذه الأصول العسكرية بشكل أفضل”.
التحرك الروسي أعقبه زيارة نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، إلى دمشق، نهاية كانون الثاني الماضي، حيث التقى بالمسؤولين السوريين، لنقاش مجموعة ملفات أهمها القاعدتان الروسيتان على الأراضي السورية.
بدوره، أشار مكتب الرئاسة الروسية “الكرملين”، إلى أن روسيا ستواصل الحوار مع السلطات السورية الجديدة بشأن جميع القضايا، بما في ذلك الاتفاقات حول قواعدها العسكرية في سوريا.
لكن الحدث الأبرز فيما يتعلق بالملف الروسي المعقد في سوريا، هو إلغاء حكومة دمشق الجديدة أواخر، كانون الثاني/ يناير الفائت، الاتفاق الموقع مع شركة “ستروي ترانس غاز “(CTG) الروسية، التي تدير وتشغل بموجبه الشركة الروسية مرفأ طرطوس.
تُعد شركة “ستروي ترانس غاز” واحدة من كبرى شركات المقاولات الروسية، وتنشط في مجالات هندسة الطاقة، والنفط، والغاز، والبتروكيماويات. ومن بين أهم العقود التي أبرمتها مع نظام الأسد، حصلت الشركة على عقد لمدة 50 عامًا، يمنحها حصة 70% من إيرادات مبيعات أكبر مناجم الفوسفات في سوريا، الواقعة قرب مدينة تدمر، والتي يصل إنتاجها السنوي إلى نحو 650 ألف طن من الفوسفات.
بالإضافة إلى استثمارها في إدارة وتوسيع وتشغيل مرفأ طرطوس، بموجب عقد شراكة بين القطاعين العام والخاص المعتمد في سوريا، وذلك بقيمة تصل إلى نصف مليار دولار على مدى أربع سنوات بهدف تطوير المرفأ وتعزيز قدراته التشغيلية.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى مدير مكتب صحيفة “الشرق الأوسط” في موسكو، والباحث في الشؤون الروسية رائد جبر، أن إنهاء عقد ستروي غاز لاستثمار مرفأ طرطوس لا يعني تهديد الوجود العسكري في سوريا أو مقدمة لذلك.
لكن يمكن قراءة ذلك الإجراء -حسب جبر- بأنه سيفتح الباب للتساؤل عن مستقبل عقود الشركات الروسية الأخرى مع سوريا ومراجعة تلك العقود، باعتبار أن هذه الشركة الروسية هي شركة خاصة ونصف أسهمها كان يعود لمجموعة “قاطرجي” الذراع الاقتصادي الفاسد لبشار الأسد، بمعنى أن هذا العقد مرتبط بشكل أو بآخر بالفساد ضمن منظومة النظام السابق وليس مرتبطًا بعقود حكومية.
رفض شعبي وقبول حكومي
لا شك أن الوجود الروسي في سوريا يواجه رفضًا واسعًا على المستوى الشعبي، نظرًا للدور الذي لعبته موسكو في دعم النظام البائد سياسيًا وعسكريًا، مما ساهم في إطالة أمد بقائه، وتدمير البنية التحتية للبلاد، والتسبب في مقتل آلاف السوريين بالآلة العسكرية الروسية. ومع ذلك، يبدو أن الإدارة السورية الناشئة تأخذ في الاعتبار اعتبارات أخرى في تعاملها مع الروس، تعكس أولويات مختلفة تتعلق بالمرحلة المقبلة.
وظهرت بوادر تلك الاعتبارات في حديث الرئيس السوري أحمد الشرع، عندما وصف روسيا بالدولة المهمة وثاني أقوى دولة في العالم، وأن دمشق لا ترغب بمغادرة موسكو بالطريقة التي يتمناها البعض.
مشيرًا إلى أن استمرار التعاون معها يخدم المصالح الاستراتيجية لسوريا، مع التأكيد على أولوية المصالح السورية دون إثارة صراعات مع الدول الخارجية.
حسب ديمتري بريدج، مسؤول وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية (CAES) فإن الأجواء لم تعد كما كانت عليه أيام انفراد النظام السابق بالسلطة، فالشعب السوري الذي ثار على الاستبداد يراقب عن كثب أي نفوذ خارجي يسعى للهيمنة. وبالتالي، تواجه موسكو تحديات تتعلق بإعادة رسم سمعتها وصورتها أمام السوريين والمجتمع الدولي، فقد باتت مسؤولة سياسيًا وأخلاقيًا عن سنوات من القتل والتدمير إما بالتدخل المباشر أو بتوفير الغطاء للنظام السابق.
ويضيف بريدجيه في حديثه لـ”نون بوست”، أن بناء شرعية دولية حقيقية يتطلب تحقيق تطلعات الشعب السوري قبل كل شيء والانخراط بإيجابية مع القوى الاقليمية والدولية الراغبة في دعم الاستقرار وإعادة الاعمار، إذ ما عاد بمقدور القيادة السياسية في دمشق التمسك بمقعد أو قرار يعتمد حصرًا على فيتو روسي يعيق أي إرادة دولية، بعد أن تغيرت قواعد اللعبة بسقوط النظام.
لا بدّ أن للرأي العام السوري دور كبير في رسم العلاقة بين الطرفين، لذا قد يؤثر الغضب الشعبي على المدى البعيد في حجم القبول بأي شراكة استراتيجية مع موسكو في المستقبل، ما لم تقدم الأخيرة بادرة واضحة لتغيير سلوكها وضمان شراكة تحترم سيادة البلاد واستقلال قراره.
لكن على الجانب الآخر تلوح في الأفق الكثير من العقبات التي تنتظر حكومة دمشق لدى محاولتها تمرير أي قرار ضمن الأروقة الدولية يخدم مصلحة السوريين في حال استعداء روسيا، أو عقبات أخرى في حال الضغط على القواعد الروسية التي يمكن أن تستخدم من قبل الدول الداعمة لتوصيل المساعدات الإنسانية أو القوات الجيش السوري للتزود بقطع الغيار باعتبار أن كل السلاح السوري هو سلاح روسي وبالتالي لا غنى عنها في المدى المنظور.
يدعو الباحث جبر إلى مراجعة السياسة السورية تجاه روسيا، فالدول الكبرى تقيّم علاقاتها على أساس المصالح وليس على أساس العواطف.
مضيفًا أنه من المفيد لحكومة الشرع أن توسّع حضورها وشرعيتها الدولية لإقامة توازن في العلاقات مع كل الأطراف ليس لأن روسيا عضو في مجلس الأمن، بل لأن روسيا لديها مواقف سياسية واضحة -بصرف النظر عن مواقفها من بشار الأسد- تتعلق بالحفاظ على سيادة ووحدة الأراضي السورية وهو موقف معلن في مجلس الأمن لمعارضة التدخلات الإسرائيلية والحفاظ على أحقية سوريا في الجولان المحتل.
“النفط والقمح” ورقتا ضغط
تواجه البلاد أزمات كبيرة في تحسين اقتصادها المنهار تمامًا، فمعظم القطاعات العامة متآكلة ودون أي إنتاجية تذكر، وأشار الرئيس السوري الشرع في مقابلة لصحيفة “إيكونوميست”، إلى أن سوريا بحاجة إلى بناء اقتصاد قوي، وأن حكومته تعمل على إعادة تأهيل الاقتصاد الوطني.
لكن ذلك البناء يواجه تحديات كبيرة تتطلب من حكومة الشرع اتخاذ خطوات عاجلة لضمان الاستقرار وتجنّب أزمة سياسية جديدة، فحسب صحيفة “واشنطن بوست”، أن الحكومة الجديدة لم تقدّم رؤية سياسية واضحة، ما ترك المجال مفتوحًا أمام المخاوف الاقتصادية والتساؤلات عن التوجّه الذي سيسلكه الشرع في إدارة البلاد.
يعدّ القمح والنفط من أبرز الأوراق التي تملكها روسيا ويمكن أن تستخدمهما كوسيلة ضغط على دمشق، حيث يمثلان أهم المتطلبات الأساسية للحكومة الناشئة، خاصة في ظل سيطرة ميليشيا “قسد” على مصادر هاتين المادتين في الشمال الشرقي السوري، وحرمان حكومة دمشق منهما. وذلك إلى جانب أن الإنتاج المحلي لهذه الموارد لا يكفي أصلًا لتغطية الاحتياجات الداخلية، مما يجعل تأمينها من الخارج ضرورة ملحة.
يرى الباحث جبر أنه من المفيد التعاون مع روسيا على أساس إجراء مراجعة للتاريخ القريب، بمعنى أن الوجود العسكري الروسي يمكن أن يمدد على خلفيات وأسس جديدة ربما مقابل دفع تعويضات لسوريا وهذا أمر كل دول العالم تعمل بهذا النظام وعلى أساس يحقق المصلحة للطرفين، أو الحصول على مادتي النفط والقمح.
وبما أن الشركات السوفيتية هي من ساهمت بإقامة السدود وترميم البنية التحتية والمنشآت الحيوية ومحطات الطاقة الكهربائية على الجغرافية السورية ولا سيما في فترة السبعينيات والثمانينيات فيمكن لروسيا أيضاً، حسب جبر، أن تساهم بإعادة إعمار سوريا من خلال دفع شركات روسية لترميم بعض البنى التحتية الخاصة كالسدود أو إنشاء محطات كهروذرية كما تفعل روسيا في تركيا ومصر ولو بشكل محدود باعتبار أن روسيا منشغلة بالحرب الأوكرانية وليس لديها القدرة المالية للمساهمة في إعمار سوريا بشكل فاعل.
ولا شكّ أن روسيا ستظل تسعى لاستخدام علاقاتها الاقتصادية وقدراتها اللوجستية في قطاع القمح والنفط كورقة ضغط ومساومة مع أي سلطة سورية مقبلة، مستفيدة من حاجة البلاد الماسة إلى الدعم في هذه القطاعات الحيوية، غير أن نجاح موسكو في ذلك يعتمد على عوامل عدة، حسب الباحث بريدج.
العامل الأول: إذا تبنت حكومة دمشق الناشئة خيارات اقتصادية أكثر انفتاحًا على أسواق وشركاء دوليين متعددين، فلن تعود مضطرة إلى التبعية المطلقة لروسيا، خصوصًا أن هناك دولاً أخرى يمكن أن تغطي احتياجات سوريا من القمح والطاقة.
العامل الثاني: الضغوط الدولية، فموسكو نفسها تعاني من ضغوط وعقوبات دولية قد تحدّ من قدرتها على المناورة. واستمرار التوترات بين روسيا والغرب قد يضعها في موقف أضعف بالتفاوض على ملفات تجارية كبرى مع سوريا مثلاً.
في ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجه سوريا، يبقى مستقبل العلاقة مع روسيا مرهونًا بمدى قدرة الحكومة الجديدة على تحقيق توازن بين المصالح الوطنية والتفاهمات الدولية، بما يضمن تأمين الاحتياجات الأساسية وإعادة الإعمار دون المساس بالسيادة والقرار المستقل.