بضحكته الصفراء كما شعره البرتقالي، وبجانب مجرم الحرب والإبادة بنيامين نتنياهو، يعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إحدى خططه بشأن الشرق الأوسط وقطاع غزة تحديدًا؛ إذ يريد أن تستولي قواته على قطاع غزة بعد تهجير كافة الفلسطينيين منها إلى دول أخرى، وتحويلها إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”.
وجدد ترامب، مرات عدة، أقواله والتعبير عن خطته، سواءً مع نتنياهو بجانبه أو بدونه، حتى استيقظ صباحًا ليكشف عن توجه جديد: “ترامب ملتزم بشراء غزة وامتلاكها، وقد يمنح أجزاء من القطاع لدول أخرى في الشرق الأوسط لإعادة بنائها”. وقد أثارت تصريحاته، كما حدث سابقًا، غضبًا فصائليًا فلسطينيًا، وتصريحات رفض عربية وأوروبية وأممية.
وبعيدًا عن النقاش حول إمكانية تحقيق فكرة ترامب وما إذا كان قادرًا فعلًا على تنفيذها أم لا، وهو موضوع يحتمل مناقشات سياسية ومنطقية حول القدرة، يبقى السؤال المطروح: كيف نتعامل إعلاميًا مع هذه القضية دون أن نكون أداة لأجندات ترامب الخفية، وما الذي يقف وراء سطور إعلانه؟ وكيف لا نقوض منجزات “طوفان الأقصى” بالنسبة للدول المحيطة بفلسطين؟ وكيف لا نولي جماعة “لا سمح الله” الاهتمام الذي تطمح إليه؟
حذّرت من التبعات الكارثية.. رفض دولي واسع لخطة #ترامب لتهجير الفلسطينيين والسيطرة على #غزة. pic.twitter.com/LBV4o6Zi9c
— نون بوست (@NoonPost) February 5, 2025
فجأة، تحولت الأنظمة العربية إلى حامي الحمى الفلسطيني، وهي التي مدت جسورها البرية، كما فعل الأردن، والبحرية، كما فعلت مصر، إلى الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، كما رأت في “طوفان الأقصى” عرقلةً لخطتها التطبيعية، كما في السعودية، وكشف “الطوفان” جليًا أن أنظمة هذه الدول ليست متخاذلة أو جبانة، بل شريكة ومتواطئة، قولًا لا مجازًا، في إبادة غزة وقتل الفلسطينيين.
جماعة “لا سمح الله”
خلال الحرب، ومع عجز الأنظمة العربية وتواطؤها مع الاحتلال الإسرائيلي في إبادة قطاع غزة، ظهر أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، في كلمات مصورة أظهر فيها غضبًا لاذعًا تجاه الأنظمة العربية المتواطئة وليس المتخاذلة.
قال أبو عبيدة في كلمته: “شعبنا صمد صمودًا أسطوريًا رغم خذلان القريب، وجبن الأنظمة وتواطؤها، ورغم بطش العدو وقوى البغي والعدوان. هل وصل بكم العجز إلى أنكم لا تستطيعون تحريك المساعدات؟ لا نريد أن تقاتلوا معنا أو أن تدافعوا عن أطفال غزة الأبرياء ومقدساتكم بجيوشكم، لا سمح الله”.
وتكشف البيانات الرسمية الإسرائيلية أن قيمة صادرات الدول العربية الخمس إلى دولة الاحتلال وصلت إلى 2 مليار و897 مليون دولار في الفترة الممتدة من أكتوبر 2023 وحتى نهاية أغسطس 2024، بارتفاع قدره 122 مليون دولار خلال أشهر الحرب مقارنةً بنفس الفترة في العامين 2022 و2023.
كما أن حجم التبادل التجاري (صادرات وواردات بدون ألماس) بين الدول المطبعة والاحتلال وصل إلى 4 مليارات دولار، خلال أشهر الحرب على غزة، فيما كان حجم التبادل خلال نفس الأشهر من العامين 2022 و2023 نحو 3.6 مليار.
الأردن: الجسر البري واعتقال المتضامنين
بعد نحو شهرين من بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، وتحديدًا في 6 ديسمبر/كانون الأول 2023، ذكرت صحيفة “معاريف الإسرائيلية” أن جسرًا بريًا قد أنشئ بين الإمارات ودولة الاحتلال، مرورًا بالسعودية والأردن؛ مشيرةً إلى أن هذا الجسر سيوفر نحو 80٪ من تكلفة نقل البضائع عبر البحر الأحمر، الذي أغلقته جماعة الحوثيين أمام السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى “إسرائيل” خلال الحرب.
View this post on Instagram
وبحسب التفاصيل التي ذكرتها الصحيفة، فقد وقعت شركة “تراك نت” الإسرائيلية اتفاقيةً مع شركة “بيور ترانز” الإماراتية للخدمات اللوجستية، لبدء تسيير الشاحنات المحملة بالبضائع من ميناء دبي، عبر الأراضي السعودية والأردنية، وصولاً إلى ميناء مدينة حيفا المحتلة.
ووفقًا للبيانات الإسرائيلية، جاء الأردن في المرتبة الثالثة بين الدول العربية من حيث حجم التبادل التجاري مع دولة الاحتلال خلال الأشهر الـ11 الأولى للحرب، إذ بلغ حجمه 398.5 مليون دولار، معظمها صادرات من الأردن للأراضي المحتلة.
ولم تقتصر مشاركة الأردن على إمداد الاحتلال بالبضائع فحسب، بل قام النظام الأردني أيضًا بقمع المتظاهرين أثناء نزولهم إلى الشوارع قرب سفارة الاحتلال في عمان، ومنعهم من التوجه إلى الحدود مع فلسطين، وقمعهم بالرصاص وقنابل الغاز، وشنت حملة اعتقالات واسعة تجاوزت في الشهر الأول من الحرب 1000 معتقل على خلفية مناصرتهم لفلسطين.
مصر: حصار غزة وتزويد الاحتلال بالمتفجرات
أعلن نظام عبد الفتاح السيسي، الذي يرفض حاليًا مخططات التهجير وقد أظهرت مصادر استعداده لنقل الجيش المصري إلى الحدود لإفشال خطة ترامب، رفضه لمخططات التهجير حين كان من المقرر تهجير أهل غزة إلى سيناء.
ومع ذلك، سمح النظام خلال الحرب للسفينة “إم في كاثرين” التي ترفع العلم الألماني، والتي كانت تحمل متفجرات متجهة إلى دولة الاحتلال، بالرسو والتفريغ في ميناء الإسكندرية، رغم الخطر المتمثل في مساهمة هذه الشحنة في ارتكاب جرائم حرب في غزة، وهو ما أكدت عليه منظمة العفو الدولية، بينما حاول المتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية نفي ذلك.
كما سارت الاعتقالات في مصر على قدم وساق؛ ففي العشرين يومًا الأولى للحرب، اعتقل الأمن المصري 56 شخصًا على الأقل بسبب مشاركتهم في المظاهرات المناصرة لفلسطين، واستمرت الاعتقالات الرسمية وغير المعلنة، حتى وصل عدد المعتقلين المعروفين في السجون المصرية خلال عام من حرب الإبادة إلى 82 معتقلًا، دون احتساب المئات ممن تم اعتقالهم وإفراجهم، وآخرين مختفون قسريًا.
وفي مجال التجارة، تُظهر البيانات الإسرائيلية أن حجم التبادل التجاري بين مصر ودولة الاحتلال خلال 11 شهرًا من حرب غزة هو الأعلى منذ العام 2014، حيث تجاوز 193.9 مليون دولار، ولم تقتصر تجارة مصر مع الاحتلال على البضائع فقط؛ بل كانت التجارة بمثابة تجارة بدماء أهل غزة، عبر إغلاق معبر رفح ورفض مصر خروج الغزيين إلا بتنسيق.
وقد كشفت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية أن شركة العرجاني وأصحابها من النفوذ في النظام المصري حققوا 88 مليون دولار خلال شهري مارس وإبريل 2023، من خلال فرض رسوم على الفلسطينيين اليائسين لأكثر من 5000 دولار للخروج من غزة إلى مصر.
ويُذكر أن مصر شاركت أيضًا في حصار قطاع غزة؛ ليس الحصار المعتاد الذي دام 17 عامًا فحسب، بل أيضًا بإغلاق المعبر في اليوم الأول من الحرب أمام الشاحنات التجارية والبضائع، وفي اليوم السابع، أغلق الجيش المصري معبر رفح نهائيًا بتركيب جدار إسمنتي مرتفع لا يمكن تجاوزه، رغم الدعوات العالمية والإقليمية والفلسطينية بضرورة فتح المعبر أمام حركة المساعدات ونقل المصابين إلى مصر.
السعودية: عرقلة التطبيع
جاء “طوفان الأقصى” معرقلًا خطط التطبيع السعودية مع الاحتلال، رغم تأخره قليلاً، ورغم حجم الإبادة في قطاع غزة، أصرت السعودية على مواصلة مسارها في عقد اتفاقية التطبيع، إذ كشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية في ديسمبر 2024 أن “إسرائيل” والسعودية حققتا مؤخرًا تقدمًا كبيرًا في المفاوضات بشأن تطبيع العلاقات بينهما.
ونقلت الصحيفة عن مصادرها أن السعودية تخلت عن مطلبها السابق بالاعتراف الإسرائيلي الصريح بدولة فلسطينية، وبدلًا من ذلك، وافق الطرفان على تعهد إسرائيلي مبهم بشأن ضمان مسار نحو دولة فلسطينية، وهي الصيغة التي سبق أن تبنتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي ترى أن الظروف الحالية لا تسمح بإقامة دولة فلسطينية.
ووفقًا للصحيفة، تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط والضامن لهذه المباحثات، مع تنسيق إسرائيلي بين إدارة بايدن وترامب، حيث يُتوقع تقديم مزايا استراتيجية للسعودية مثل اتفاقية دفاع مشترك ومبيعات أسلحة متطورة في إطار حزمة التطبيع مع “إسرائيل”.
وأشار التقرير إلى أن السعودية، وعلى مدار سنوات، تمسكت بمطلب الاعتراف بدولة فلسطينية كشرط للتطبيع مع الاحتلال، إلا أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بات يرى أن إحراز تقدم شكلي في هذا الملف يكفي لتمرير الاتفاق أمام الرأي العام والنخبة السياسية والدينية في السعودية.
منجز الطوفان بخصوص الطوق
إذن، مع إعلان ترامب عن خطته، حلت النخوة الغائبة طوال 15 شهرًا من عمر الإبادة على الأنظمة العربية، حتى أن الأردن بات مستعدًا للحرب في حال أجبر الفلسطينيون بالقوة على الهجرة إلى أراضيه، وفقًا لما نقله موقع “ميدل إيست أي” عن مصادره، كما أجرت مصر اتصالات مكثفة مع وزراء خارجية السعودية والإمارات والكويت وسلطنة عمان والبحرين والأردن والعراق والجزائر وتونس وموريتانيا والسودان لرفض التهجير، وأعلنت هي الأخرى رفضها له.
ويبدو أن خطة ترامب تهدف أيضًا إلى إعادة صياغة صورة الأنظمة العربية، لا سيما السعودية، كمنقذين للوضع؛ وهو ما أشارت إليه صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية بإمكانية ارتباط تلويح ترامب بتهجير الفلسطينيين في قطاع غزة باتفاق التطبيع مع السعودية، حيث قالت إن المملكة ستستخدم ورقة التطبيع مع “إسرائيل” لمساعدة ترامب في النزول عن الشجرة، عندما يحول إخلاء غزة إلى مسابقة صعبة مع الأردن ومصر.
لا يمكن لوسائل الإعلام العربية، حتى تلك المؤيدة للمقاومة، أن تتجاهل هذا الرفض العربي الرسمي أو تغض الطرف عن التصريحات، وإن كانت تدرك في قرارة نفسها أنها مسرحية بحتة، لكن الخطورة تكمن في أن الاكتفاء بنقل التصريحات وضخها في وسائل الإعلام يعطل منجزًا من منجزات “طوفان الأقصى” الذي رآه العالم خلال الإبادة: الشعوب تتحرك.
المشكلة الحقيقية في التغطية الإعلامية لخطة ترامب تكمن في إعادة تعريف الأنظمة العربية والترويج لها كمنقذين للوضع، دون طرح خطاب يوجه الشعوب العربية حول ما يجب فعله في مواجهة مخططات التهجير
صحيح أن التحرك العربي الشعبي كان خجولًا خلال حرب الإبادة، لكن “الطوفان” زرع بذرة التغيير نحو فلسطين بعيدًا عن الأنظمة المتواطئة، وكانت هذه هي الرسالة الأولى التي أطلقها الشهيد محمد الضيف، القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، في كلمة صوتية مسجلة يوم السابع من أكتوبر 2023، حيث قال:
“يا أهلنا في الأردن ولبنان، في مصر والجزائر، والمغرب العربي، في باكستان وماليزيا وأندونيسيا، وفي كل أنحاء الوطن العربي والإسلامي، ابدأوا بالزحف اليوم، الآن وليس غدًا، نحو فلسطين، ولا تجعلوا حدودًا ولا أنظمة ولا قيودًا تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى. {انفروا خفافًا وثقالًا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.”
وتابع الشهيد أبو خالد الضيف قائلاً: “اليوم، اليوم، كل من لديه بندقية فليُخرجها، فهذا أوانها. ومن لا يملك بندقية، فليُخرج بساطوره، أو بلطته، أو فأسه، أو زجاجته الحارقة، بشاحنته، أو جرافته، أو سيارته. اليوم، اليوم، يفتح التاريخ أنصع وأبهى وأشرف صفحاته؛ فمن يسجل اسمه واسم عائلته واسم بلدته في صحائف النور والمجد؟”
وأضاف: “يا أبناء أمتنا، ويا أحرار العالم، من لم يستطع المشاركة في “طوفان الأقصى” بشكل فعلي، فليشارك بالتضامن والتظاهر والمساندة. اخرجوا للساحات والميادين، وارفعوا راية الحرية لفلسطين والمسجد الأقصى، وأعلنوا الاعتصامات المفتوحة في كل مكان لمنع الأنظمة التي وفرت الدعم والغطاء لجرائم الاحتلال من الاستمرار في شراكته في جريمته. هذا يوم الثورة الكبرى من أجل إنهاء الاحتلال الأخير، ونظام الفصل العنصري الأخير في العالم”.
إن المشكلة الحقيقية في التغطية الإعلامية لخطة ترامب تكمن في إعادة تعريف الأنظمة العربية والترويج لها كمنقذين للوضع، دون طرح خطاب متوازن يوجه الشعوب العربية حول ما يجب فعله في مواجهة مخططات التهجير؛ بدءًا من الدعوة للنزول إلى الحدود كما دعا أبو عبيدة والشهيد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، مرارًا خلال الحرب، وصولاً إلى إعادة الروح إلى المظاهرات ضد سفارات الاحتلال والسفارات الأمريكية في الدول العربية، وتذكير “الأنظمة المتباكية” بقطع علاقاتها مع الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية.