منذ اللحظة الأولى لأي شغوف بتجربة أنواع الطعام المختلفة وعند تذوقه لواحدة من الأكلات السودانية البسيطة، سيلاحظ بالتأكيد انعكاس التنوع الكبير للمطبخ الإفريقي القديم على المطبخ السوداني الذي يعتمد بشكل رئيسي على المواد الموسمية والمتوافرة محليًا مثل الفواكه والحبوب والخضراوات والحليب ومنتجات اللحوم، وفي بعض المناطق يعتمد كليًا على الحليب ومشتقاته.
أما عن قربه من البهارات العربية وحلوياتها بشكل أوضح فيمكن القول إن المطبخ السوداني تأثر بدوره بمطابخ دول الجوار، إذ يعد المطبخ الشامي والمصري وحتى التركي أكثر ما أثر فيه حتى الآن، فدخل بفضلهم العديد من الأطعمة الجديدة مثل الخبز التقليدي الذي يشبه العيش المصري إلى حد ما ويطلق عليه اسم “العيش البلدي”، وبقلاوة الفستق الحلبي القادمة من المطبخ الشامي والحلويات الشرقية، بالإضافة إلى أطعمة مختلفة من المطبخ التركي كالكباب والكفتة والشاورما العثمانية.
تأثير الثقافة على مطبخ السودان
يتأثر المطبخ في كل مكان في العالم بثقافة المنطقة وبيئتها وطقسها وحتى الدين المعتنق من السكان المقيمين فيها، وهذا هو الحال في السودان أيضًا الذي يعد دولة تتحكم فيها عوامل مختلفة كموقعها على الخريطة الإفريقية الذي يجعلها حارةً جدًا في الصيف فتصل درجات الحرارة إلى 40 درجة مئوية فينتشر البطيخ، إذ يعتبر السودان سادس أكبر دولة منتجة للبطيخ فهو من المحاصيل الخضراء الصيفية الجيدة.
ومن الخضار فتأتي البامية على رأس القائمة، فهي المحصول الخبازي الوحيد والشعبي الأول في السودان نظرًا لملاءمتها لجميع طبقات المجتمع، كما يوجد الخيار والفلفل والطماطم، ومن الحبوب تزدهر المحاصيل الحارة في مجموعة واسعة من المناخات، كالحنطة السوداء سريعة النمو، وحبوب الذرة التي تنتج منها كميات كبيرة كل عام بالإضافة إلى بذور دوار الشمس، كما يأتي الفول السوداني على رأس المحاصيل السودانية المعروفة، فيدخل السودان في المرتبة السابعة عالميًا من بين أكثر الدول زراعةً وتصديرًا له، بينما تعد الصين البلد الأولى عالميًا.
أما من الناحية الدينية، فقد تأثر المطبخ السوداني بالأطعمة المقدسة في الدين الإسلامي والمسيحي الأرثذوكسي
إلى جانب كون السودان بلدًا مصدرًا لأجود أنواع اللحوم وأكثرها تنوعًا إلى عدة بلدان في الوطن العربي بفضل وجود الكثير من مصانع اللحوم السودانية الضخمة، فيعد وجودها في المطبخ السوداني قوي أيضًا إذ يصل استهلاك اللحوم في ولاية الخرطوم وحدها إلى ما يقارب 2-3 ألف رأس من الضأن وما بين 750- 1000 رأس من الأبقار والذبيحة سنويًا.
أما من الناحية الدينية فقد تأثر المطبخ السوداني بالأطعمة المقدسة في الدين الإسلامي والمسيحي الأرثذوكسي، فنجد قراصة البلح من الحلويات التقليدية البسيطة التي تتكون من البلح المطحون بشكل رئيسي، كما أخذ الفول والكشري من أقباط مصر فأصبح شائعًا بين معتنقي الديانة المسيحية بالأخص من هم على صلة قرابة بمسيحيي مصر.
أبرز الأطباق السودانية
يختلف السودان عن باقي البلدان العربية بوجود 3 أصناف من الأطعمة التقليدية الرئيسية يستوجب وجودها في كل سفرة وهي الكسرة والقراصة والعصيدة، إذ تؤكل أغلب الأكلات السودانية باستخدامها، فهي تشبه أهمية الخبز في بلاد الشام إلى حد ما.
تتكون الكسرى من الدقيق والملح والسكر والخميرة وتكون على شكل أرغف مدورة وكبيرة، بينما تتميز عن باقي أنواع الخبز العربي بكونها رقيقة جدًا فهي تشبه إلى حد ما الخبز التركي الشعبي. والقراصة تنقسم إلى نوعين يشبه الأول الخبز والثاني يكون حلوًا فيتم حشوه بالسكر والبلح المهروس وهي من الحلويات التقليدية البسيطة في السودان.
أما العصيدة فتتكون من طحين الذرة وزيت الذرة والملح واللحم والبصل والطماطم ثم تطهى بقوام رقيق حتى يصبح لزجًا ويكثر تقديمها في المناسبات والحفلات الاجتماعية، كما أن العصيدة تشترك في أصلها مع عدة دول أخرى فهي موجودة في المطبخ الليبي والتونسي وتقدم في أسبوع المولود الجديد أو في يوم المولد النبوي الشريف، إلا أن مكوناتها تختلف من منطقة إلى أخرى فهناك مناطق تحضرها من دقيق الدخن وأخرى من دقيق الذرة.
تكتسب اللحوم مكانة كبيرة في المطبخ السوداني، فتوجد العديد من الطبخات المعروفة التي تقتصر مكوناتها على اللحوم فقط
وفي ذكر الحلويات السودانية فغالبًا ما تأتي المدائد – جمع مديدة – وهو حساء كثيف حلو المذاق أو مالح يصنع من طحين الذرة أو الدخن أو التمر الهندي أو الحلبة وغيرها، فهو من أفضل الحلويات المناسبة لفصل الشتاء البارد كونه دسمًا، بالإضافة إلى أنه كان وما زال يقدم للأم الجديدة بعد ولادتها لدر الحليب اللازم للرضاعة، فهو ليس دخيلاً على المطبخ السوداني بل أعدته السودانيات منذ القدم حتى إنه وصل إلى مصر.
كما تعتبر البليلة من المأكولات الشهيرة في السودان إلا أنها تكون حلوة أو مالحة أحيانًا على خلاف ما هي عليه في الشام، إذ تتكون من عدة حبوب وبقول مسلوقة ومنكهة ببهارات تختلف حسب الذوق.
تكتسب اللحوم مكانة كبيرة في المطبخ السوداني، فتوجد العديد من الطبخات المعروفة التي تقتصر مكوناتها على اللحوم فقط، أشهرها “الشرموط” وهي لحم مقدد يجفف ويضاف إلى أغلب أنواع الملاح مع الويكة، كما يوجد “الأقاشي” وهو شكل من أشكال اللحم المشوي يشبه في تقطيعه الكستليتة ولكن له ينفرد بنوع واحد ومميز من عدة بهارات ممزوجة معًا كالكاري والفلفل الحار، أيضًا يوجد نوع من الأكلات السودانية يسمى “المرارة” وهو عبارة عن أخذ أجزاء من لحم حيوان مذبوح حديثًا ويشترط أن يكون حديثًا، وهي الكبد أو الرئة أو “الفشفاش” بالعامية السودانية.
المشروبات والشاي السوداني
لا يقتصر ثراء المطبخ السوداني على المأكولات التقليدية المتنوعة بل أيضًا بتنوع المشاريب وأنواع الشاي وأطعمه المختلفة، إذ تعد المشروبات السودانية نابعة من ملاءمتها للطقس ودرجات الحرارة، فمنها ما هو بارد يشرب في أيام الصيف الحار ومنها أنواع الشاي الشتوية التي تساعد على تحمل شتاء السودان الجاف، فنجد الشاي الأحمر وهو المشروب المتعارف عليه وله شعبية كبيرة في السودان إلا أن السودانيين يفضلونه ثقيلًا أكثر من المعتاد، وتعرف قبائل الشايقية في الشمال باستهلاكهم الكبير له.
عرف السودانيون نبات القضيم وعصيره حتى أصبح جزءًا من تراثهم وبات يستخدم كاسم ووصف لشخصيات سودانية شهيرة
كما يوجد القضيم أو القنطريون الأحمر وهو يوجد على شكل ثمار صغيرة بلون برتقالي لامع ويزرع في غرب السودان وكذلك في بعض مناطق اليمن، ثبت عنه الكثير من الفوائد الصحية ومعالجته لأمراض فقر الدم كما يزيد نسبة الحديد في فترة قصيرة، أما أوراقه فتستعمل مسحوقًا لعلاج البكتيريا والفطريات، عرفه السودانيون قديمًا حتى أصبح جزءًا من تراثهم وبات يستخدم كاسم ووصف لشخصيات سودانية شهيرة، حتى إن مسرحي السودان الأول الراحل الفاضل سعيد – رحمه الله – اختاره اسمًا لواحدة من الشخصيات في مسرحية شعبية “بت قضيم”، ويكثر شربه في شهر رمضان المبارك.
وإلى جانب عصائر الفواكه الاستوائية التي يعرف السودان بزراعتها كالمانجو والجوافة والجريب فروت والبرتقال وغيرها يوجد أيضًا واحد من أكثر المشروبات انتشارًا في السوق السودانية وهو التبلدي، نبات يتبع لفصيلة الخبازيات تكثر زراعته في غرب السودان، وهي منطقة تسقط فيها الأمطار بغزارة، ثم يعقبها فترة جفاف، فتقوم أشجاره بتخزين كميات كبيرة من الماء حتى انقضاء فترة الجفاف، وقد يصل قطر جذع الشجرة إلى عشرة أمتار، وتستخدم ثمار هذه الأشجار كعصائر بلدية باسم القنقليز وفي علاج بعض الأمراض الباطنية.
على خلاف النظرة البسيطة عن المطبخ السوداني إلا أنه مليء بالمأكولات المتنوعة والمفيدة في آن واحد، كما أنها خليط من مزيج من ثقافات وحضارات قديمة وجديدة يجعل من تجربتها فرصة ذهبية مليئة بالمفاجآت.