ما زالت فرنسا تبذل جهودًا كبيرة من أجل إعادة الحياة للاتفاق النووي مع إيران منذ انسحاب واشنطن منه في مايو 2018، وهو ما شكل سببًا لتصاعد الخلاف بين طهران ومحيطها الإقليمي والدولي، الأمر الذي أدى إلى توتر عسكري في منطقة مضيق هرمز، على إثر أزمة الناقلات التي اندلعت بسبب منع إيران من تصدير نفطها، بحيث شهدت المنطقة تحشيدًا عسكريًا غير مسبوق، وضعها على شفير حرب وشيكة كادت ولا تزال مرشحة للحدوث.
حاولت دول الاتحاد الأوروبي، والحديث هنا عن فرنسا وألمانيا وبريطانيا، إيجاد آلية سياسية ومالية للتعاون مع إيران، من أجل التغلب على نظام العقوبات الأمريكية، وبرزت آلية “الأنستيكس” كإحدى الطرق لتجاوز نظام العقوبات الأمريكية، إلا إنها لم تفعل حتى هذه اللحظة، وذلك لأسباب عديدة أهمها سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على الأنظمة المالية والمصرفية الدولية، التي لم تؤد إلى حلول تذكر على مستوى العلاقات بين أطراف الصراع.
تدرك دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها فرنسا، التداعيات السلبية التي يمكن أن تتمخض عن أي مواجهة عسكرية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، على اعتبار أنها المتضرر الأول من ذلك اجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا، ولذلك نجدها تبذل جهودًا عديدة لحل الخلاف الحاليّ بين أطراف الصراع، فعلى الرغم من العقبات الكبيرة التي تقف في وجه المبادرات السياسية التي طرحها الاتحاد الأوروبي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية يبدو أنها غير مهتمة بها، وما زالت ماضية في سياسات الضغط السياسي والاقتصادي ضد إيران، ورغم المؤشرات الإيجابية التي ألمح بها الرئيس ترامب في قمة مجموعة السبع الصناعية التي عقدت مؤخرًا في باريس، فإنه عاد وتراجع عنها بعد ذلك.
أشار الرئيس الإيراني حسن روحاني عبر العديد من التصريحات الصحفية، إلى أن السياسات الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية يحددها المرشد وحده، ولا مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية دون رفع العقوبات
إن فرنسا كجزء من دبلوماسيية مستقلة عن سياسة الاتحاد الأوروبي، مدفوعة بالعديد من الاعتبارات التاريخية، التي تأتي في مقدمتها أنها ساهمت في نجاح ثورة الخميني في إيران، من خلال رعايتها لمرشد الثورة الخميني ومساهمتها في إسقاط نظام الشاه المدعوم من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، هذا إلى جانب طموحاتها لتولي دفة القيادة في الاتحاد الأوروبي، أعلنت مبادرة سياسية لحلحلة فتيل الأزمة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، التي تمخضت عن دعوة وجهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لطرفي الصراع، الرئيس حسن روحاني والرئيس دونالد ترامب للقاء مباشرة، من أجل التوصل إلى حل نهائي لأزمة الاتفاق النووي الإيراني، إلا أنها لم تؤت ثمارها بعد.
فحوى المباردة الفرنسية
جاءت زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى باريس اليوم الماضي، لتوضح الكثير من فقرات المبادرة الفرنسية التي أعلنها الرئيس ماكرون على هامش قمة باريس، التي يمكن وصفها بأنها جرعة حياة منحتها فرنسا لإيران، فمن خلال الاطلاع على فقرات هذه المبادرة يمكن القول إنها مبادرة لترميم عظام النظام الإيراني الذي أنهكته العقوبات الأمريكية المفروضة عليه منذ مايو العام الماضي، فقد أعلنت فرنسا تقديمها قرضًا ماليًا لإيران بقيمة 15 مليار دولار، بعد فشل آلية “الأنستيكس” في تحقيق الهدف منها، مقابل التزام إيران بعدم دخول المرحلة الثالثة من تخفيض التزاماتها من الاتفاق النووي، إلى جانب تجميد برنامج الصورايخ الباليستية.
وكانت أولى ردود الفعل الصادرة عن إيران متفائلة بهذه المبادرة، إذ قال المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، إن طهران متفائلة بشأن التوصل إلى اتفاق مع أوروبا لتجنب الموعد النهائي الذي حددته إيران لتخفيض التزاماتها النووية، وإلى جانب ذلك قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي: “الخطوة الثالثة لإيران في تخفيض التزاماتها ستكون أكثر خطورة، لكن إذا حدث تقدم في المحادثات مع أوروبا يمكن أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل”.
فضلاً عما تقدم، وتعقيبًا على المبادرة الفرنسية، أشار الرئيس الإيراني حسن روحاني عبر العديد من التصريحات الصحفية، إلى أن السياسات الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية يحددها المرشد وحده، ولا مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية دون رفع العقوبات، ويبدو أن تصريحات الرئيس روحاني جاءت للتخفيف من حدة الضغوط التي يقودها التيار المحافظ ضده في مجلس الشورى الإيراني، الذي اعتبر أن موافقة روحاني على اللقاء بالرئيس ترامب، يعني نسفًا لمواقف المرشد الأعلى علي خامنئي الذي أعلن في مواقف سابقة أن إدارة الرئيس ترامب غير جديرة للتفاوض معها، وإيران ستبقى في حالة لا حرب ولا مفاوضات مع أمريكا، وهو ما اعتبره رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري، بأنه مقاومة فاعلة لمواجهة الضغوط الأمريكية على إيران.
يمكن القول إنه من خلال وجود ظريف في موسكو، وعرقجي في باريس، حاولت إيران إرسال رسالتين في آن واحد، فالمؤشرات الإيجابية التي بعثت بها إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر عراقجي ردًا على المبادرة الفرنسية قابلتها مؤشرات تصعيدية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا
ظريف في موسكو
في سياق متصل تأتي زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى موسكو اليوم الماضي أيضًا، لتسلط الكثير من الضوء على دبلوماسية الأزمة التي تديرها إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، فقط أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وعبر المؤتمر الصحفي الذي جمعه بوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، عن ترحيبه بدعوة الوزير ظريف بإجراء مناورات عسكرية مشتركة في منطقة المحيط الهندي، وأعلن الوزير ظريف أن بإمكان دول أخرى الانضمام إلى هذه المناورات المشتركة التي تهدف إلى تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الخليج، مضيفًا بأن الدول التي تشتري أمنها عن طريق الحشود العسكرية الأجنبية في منطقة الخليج ومضيق هرمز، لا تؤدي إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة.
رسائل إيرانية
يمكن القول إن من خلال وجد ظريف في موسكو، وعرقجي في باريس، حاولت إيران إرسال رسالتين في آن واحد، فالمؤشرات الإيجابية التي بعثت بها إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر عراقجي ردًا على المبادرة الفرنسية، قابلتها مؤشرات تصعيدية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عبر دعوتها لروسيا للوجود في منطقة الخليج، وهي بذلك تسعى إلى إدارة علاقاتها مع باقي الأطراف، عن طريق الإدارة بالأزمة، فهي لا تستطيع أن تجد نفسها في ظروف طبيعية، إذ لم تعد هناك أوراق تتفاوض بها مع الولايات المتحدة الأمريكية، فحلفاؤها في العراق وسوريا ولبنان تحت ضغط القصف الجوي الإسرائيلي، كما أنها تواجه وضعًا جيوسياسيًا صعبًا جدًا مع قرب انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، ولذلك فإن المطالبات الإيرانية برفع العقوبات كشرط للجلوس على طاولة المفاوضات، هو من أجل كسب نقاط قوة تفاوضية لا أكثر، وعدم جلوسها على كرسي الحلقة الأضعف في أي مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
استحقاقات محتملة
الهدف الرئيسي من المبادرة الفرنسية هو إنعاش النظام السياسي في إيران، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تأكيد إجراءات بناء الثقة معها، تمهيدًا لمفاوضات الحل النهائي التي أعلنها الرئيس ماكرون، فهذه المبادرة – كما سبقت الإشارة – هي بديل لآلية “الإنستيكس” الأوروبية، وليست جزءًا من اشتراطات أمريكية، فدول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها فرنسا، تدفع في اتجاه إيقاف إيران عند هذا الحد، خشية أن تؤدي تحركاتها باتجاه تخفيف التزاماتها بالاتفاق النووي، إلى إعطاء مبرر لتطرف الولايات المتحدة الأمريكية في مواقفها السياسية ضد إيران، وهو ما يعني تصعيدًا مقابل من جانب إيران، ومن ثم الدخول في مرحلة حسابات نهائية معقدة.
فرغم التفاؤل الإيراني بالمبادرة الفرنسية، فإنها ليست بالحد الذي يخرج النظام السياسي في إيران من أزماته السياسية والاقتصادية التي يعاني منها، فرغم الطموح الفرنسي من أن تؤدي هذه المبادرة إلى تخفيف الرفض الإيراني من التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية، هناك ملفات معقدة من غير الممكن أن تتهاون بها إيران، فالمستهدف الحقيقي من أي مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية هو نفوذها الإقليمي، وهو نفوذ لا تستطيع هذه النوعية من المبادرات السياسية أن تحتويه، بل تحتاج إلى صفقة قرن لحلها.