“انتباه، إلى سكان المدينة، إننا مهتمون بإيجاد أنفاق ومرافق حضرية تحت الأرض، مملوكة لإحدى الجامعات أو المراكز البحثية، حيث يمكننا استضافة الأبحاث والتجارب، وأن المرفق المطلوب هو بيئة من صنع الإنسان تحت الأرض، وتمتد على عدة مناطق من المدينة، مع تخطيطات معقدة وأنفاق وسلالم، ونأمل العثور على مثل هذا الموقع الجغرافي بحلول يوم الجمعة عند الساعة 9 مساءً بتوقيت غرينتش”.
بهذه الكلمات المقلقة، خاطبت “داربا” المجتمع الأمريكي قبل أيام قلائل، من على حسابها الرسمي على تويتر، معلنة حاجتها لمثل هذا الموقع الغريب.
هذا الإعلان أثار موجة من النظريات المقلقة التي تراوحت بين ظهور الزومبي وغزوات الأجانب ونهاية العالم، بينما قال كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي إن كلامها يبدو “مريبًا للغاية” وبالتأكيد هو أمر “مشؤوم”.
قد يبدو مثل هذا الإعلان مبهمًا وغريبًا، لكن من كان متابعًا لأخبار (وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة) أو ما يعرف اختصارًا بـ”داربا” فلن يتفاجأ البتة من إعلانها، فالوكالة أسستها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدًا عام 1958، وهي فرع من وزارة الدفاع، ويخصص لها سنويًا مليارات الدولارات، ومهمتها ابتكار أغرب الأسلحة وأخطرها للحفاظ على قدم السبق للجيش الأمريكي على جيوش العالم.
تعتبر داربا الممول الرئيس للعديد من التقنيات ذات الأثر الكبير على العالم بأكمله، ويتضمن ذلك شبكات الحاسب الآلي، بالإضافة إلى العديد من الأنظمة على الإنترنت التي من أهمها نظام الربط التشعيبي (HTTP)، التي كانت بداية انتشار الإنترنت الذي نستخدمه اليوم وكذلك نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وأيضًا أنظمة واجهات المستخدم بالرسومات المعاصرة، وتعرف الوكالة بأنها المسؤولة عن تطوير التقنيات العسكرية الناشئة، ولديها تاريخ طويل مع إطلاق أفكار مجنونة ومخيفة.
في العقد الأخير، ومع انتشار الكثير من تقنيات الذكاء الاصطناعي، أعلنت داربا – المتسمة بالكثير من السرية والغموض – للعلن العديد من برامجها الخطيرة التي دفعت الكثيرين للتساؤل إلى أين تريد داربا الوصول بالبشرية.
وفي ظل سباق التسلح التكنولوجي بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، تأمل وزارة الدفاع استخدام الذكاء الاصطناعي لفهم الأحداث العالمية بشكل أفضل في عالم يزداد تعقيدًا، إذ تخطط داربا لاستثمار نحو ملياري دولار في تطوير ما يسمى بمشاريع الذكاء الاصطناعي “الموجة الثالثة” على مدار السنوات الخمسة القادمة.
وتتطلع وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة، إلى بناء واجهات عصبية تعمل على الذكاء الاصطناعي تسمح للبشر بالتحكم في الآلات من خلال أفكارهم، حيث تدير الوكالة حالًًّيًا أكثر من 20 برنامجًا تحاول أن تدفع بالآلات نحو الجيل الثالث من الذكاء والتفكير المنطقي المقارب لذكاء البشر.
ركزت “داربا” في العديد من أبحاثها على الدماغ البشري بغية بناء واجهة (دماغ – كمبيوتر)، كالتي أعلنها الملياردير الأمريكي إيلون موسك مؤسس شركة تسلا وسبيس إكس، الذي يحاول زرع شرائح في أدمغة الناس متصلة بالإنترنت بغية برمجتها بالمعلومات والوصول إلى مستويات خارقة من الذكاء! هنالك العديد من البرامج المثيرة التي صنعتها داربا، ونستعرض فيما يلي أكثر البحوث غرابة أو أكثرها إثارةً للجدل.
تسعى داربا بالشراكة مع العديد من المراكز البحثية لتصميم “نظام الهندسة العصبية” أو ما يعرف بالأوساط العلمية بـ”واجهة الدماغ – الكومبيوتر”
في البدء.. أبحاث داربا في دماغ الإنسان:
1- آلة تحاكي قشرة الدماغ
تعتبر القشرة المخيّة من أهم أجزاء الدماغ البشري، فهي المسؤولة عن جميع مهارات التفكير العليا لدينا مثل اللغة والتفكير الواعي. يتم برمجة أجهزة الحاسوب الحاليّة لأداء مهام معقدة بدقة وسرعة عاليتين قد يصعب على البشر القيام بمثلها، لكن ماذا لو طرأت تغيرات مفاجئة على المهمة التي يقوم بها الحاسوب، فماذا سيفعل؟
هنا يتضح لماذا يُعَدّ الإنسان أفضل من الآلة، فهو لديه القدرة على التعامل مع الظروف الطارئة وغير المتوقعة بسرعة وكفاءة. لذا تحاول داربا فهم تركيب القشرة الدماغية التي يتم فيها التعامل مع التغييرات الطارئة، وفهم الأسلوب الذي يتم به معالجة البيانات والمعلومات للخروج بأفضل الحلول، بغية تقليدها وتطبيقها في روبوتات تفكر بنفس الأسلوب البشري، وقد قطعت أشواطًا طويلة في هذا المجال.
2- واجهة الدماغ – الكومبيوتر
تسعى داربا بالشراكة مع العديد من المراكز البحثية لتصميم “نظام الهندسة العصبية” أو ما يعرف في الأوساط العلمية بـ”واجهة الدماغ – الكومبيوتر”، وهو نظام معالجة إلكتروني قابل للزرع في مخ الإنسان، قادر على توفير اتصال دقيق بين الدماغ والعالم الرقمي.
تتمثل الفكرة وراء هذا المشروع في إيجاد طرق لتحويل الإشارات الكيميائية والكهربائية للمخ إلى بيانات قابلة للقراءة، وتكون النتيجة النهائية إنشاء ارتباط عصبي يتيح للدماغ تسجيل وحفظ المعلومات من الإنترنت والحواسيب، وكذلك تمكين الحواسيب من فهم ومعرفة الأفكار داخل الدماغ.
تطور داربا شريحة إلكترونية صغيرة توضع داخل دماغ الجندي وتبدأ بتسجيل الذكريات
3- التحكم بالطائرات من خلال الدماغ
نجح فريق بحثي أسترالي من أطباء الأعصاب والمهندسين في جامعة ملبورن الأسترالية، بتمويل وإشراف مباشر من داربا، من تطوير واجهة دماغ جديدة، تتيح للطيارين في قمرة القيادة التحكم بالطائرة من خلال الأفكار التي في أدمغتهم.
يتم قياس الأفكار في الدماغ عبر قطب صغير يزرع فيه، يعمل هذا القطب على نقل الأفكار إلى الحاسوب في خوذة الطيار، ومنها يتم تحويل أفكار الطيار إلى أوامر تنفذها الطائرة، وعلى نفس الغرار طورت داربا واجهة دماغ أخرى تتيح للمصابين بالشلل تحريك الأطراف الصناعية المربوطة إلى أجسامهم من خلال الأفكار أيضًا.
4- شريحة لاستعادة الذكريات
تطور داربا شريحة إلكترونية صغيرة توضع داخل دماغ الجندي وتبدأ بتسجيل الذكريات، وإذا تعرض الجندي لإصابة في رأسه قادته لفقدان الذاكرة، فسيكون بالإمكان إجراء استعادة للنظام مثلما يحدث في أجهزة الحواسيب.
بدأت داربا مشروعها هذا بالتعاون مع شركة “مدترونيك”، التي بدأت بزرع الشرائح لعلاج مرضى باركنسون، وتأمل داربا في إمكانية تطبيق شريحتها الجديدة لمساعدة مرضى الزهايمر، ولكي يتعلم الشخص مهارة جديدة يمكنه فقط توصيل الشريحة بقاعدة بيانات وتنزيلها، سيتيح له ذلك تعلم ذكريات جديدة مع اكتساب المعرفة والمهارات.
ابتكارات داربا العسكرية
1- بذلات عسكرية متطورة: صممت “داربا” بالتعاون مع باحثين من جامعة هارفرد بذلات عسكرية جديدة خفيفة الوزن ومدعّمة بهياكل خاصة، تمنح مرتديها مزيدًا من المرونة والقوة، ومجهزة بأجهزة استشعار وحاسوب ومتصلة بالأقمار الصناعية.
2- رصاصة موجهة: نجحت “داربا” بتصنيع رصاصة موجهة يمكن تغيير مسارها بعد إطلاقها، متغلبةً بذلك على نسبة الخطأ التي قد تنجم بسبب الظروف الجوية وسرعة الرياح.
3- سفينة مسّيرة: أنشأت “داربا” غواصة مسيرة يبلغ وزنها 140 طنًا قادرة على رصد غواصات العدو وكشف الألغام البحرية، السفينة التي أطلقت “داربا” عليها اسم “Sea Hunter” نجحت في التجارب الأولى بالتحرك لمدة تصل إلى 90 يومًا دون تدخل بشري.
4- المناطيد العملاقة: طورت “داربا” نوعًا جديدًا من طائرات الشحن وهي عبارة عن مناطيد عملاقة، المنطاد قادر على نقل حمولة تصل إلى 1000 طن، ويسير بسرعة 120 ميلًا، ستحقق هذه المناطيد نقلة كبيرة لمستخدميها في الحروب، إذ توفر هذه الطاقة الكبيرة لها نقل عدد كبير من الجنود مع معداتهم دفعة واحدة.
استخدام الحيوانات والنباتات لأغراض عسكرية
1- استخدام الحشرات لأغراض التجسس
بعد سنوات من الأبحاث على أدمغة بعض الحشرات مثل الخنافس، توصلت داربا لطريقة لتحفيز أدمغة هذه الحشرات والسيطرة عليها في أثناء الطيران، في نهاية المطاف، يمكن استخدام هذه الحشرات للوصول إلى المناطق التي لا يمكن للبشر أو الروبوتات الوصول إليها بسهولة.
2- استخدام الأسماك لمراقبة المحيطات
يريد الجيش الأمريكي تزويد الأسماك والحيوانات البحرية الأخرى بأجهزة استشعار لتتبع حركة مركبات العدو المأهولة وغير المأهولة تحت الماء، ورغم أن الخطة ليست تحويل المخلوقات البحرية الجميلة إلى وحوش شريرة، فإن الوكالة لا تزال ترغب في مراقبة تحركات العدو تحت الماء باستخدام مجسات متصلة بالأسماك والكائنات البحرية الأخرى، نظرًا لأن الأسماك تسبح طوال النهار والليل، ولن يضطر الجيش لمراقبة المنطقة بأكملها على مدار الساعة، بمعنى آخر، يحاول الجيش تكوين جواسيس فعالين تحت الماء.
قد يكون هناك نباتات طورت “لاستنشاق” المتفجرات، يحتمل أن يتغير لونها أو ذبولها في حالة وجود بعض المواد الكيميائية في الهواء
3- استخدام النباتات لكشف الأسلحة
تطور “داربا” برنامجًا يدعى “Advanced Plant” يقوم على استخدام النباتات لمراقبة نشاط الأسلحة في منطقة معينة.
تتوافق النباتات بدرجة كبيرة مع بيئاتها وتتجلى بشكل طبيعي في الاستجابات الفسيولوجية للمحفزات الأساسية مثل الضوء ودرجة الحرارة، ولكن أيضًا في بعض الحالات للمس والمواد الكيميائية والآفات ومسببات الأمراض.
قد يكون هناك نباتات طورت “لاستنشاق” المتفجرات، يحتمل أن يتغير لونها أو ذبولها في حالة وجود بعض المواد الكيميائية في الهواء، ويمكن استخدامها لتنبيه القوات العسكرية في أثناء السير بمناطق الغابات.
أخيرًا، لا حدود لما يمكن لهذه الوكالة أن تصله في تطوير أنظمة ذات طابع عسكري أو مدني، بالخصوص مع تصاعد وتيرة الابتكار في مختلف قطاعات التكنولوجيا، والنمو المتسارع لسرعات شبكات الإنترنت وعتاد الأجهزة الأكثر تطورًا، فضلًا عن تنامي تكنولوجيا الواقعين المعزز والافتراضي.