مطلع شهر فبراير/ شباط الجاري، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض عن مقترحه العنصري للاستيلاء على قطاع غزة، في خطوة تهدف إلى إخلائه من سكانه الفلسطينيين، مع الترويج لمقترح تهجيرهم إلى دول مجاورة كالأردن ومصر. قوبل طرحه الوقح برفض قاطع من المملكتين، لتلتحق بهما دول عربية وغربية وطيف من المنظمات الإقليمية والدولية، حيث أعربت جميعها عن رفضها لمثل هكذا خطة.
لكن “الترانسفير” يمثّل أحد الركائز الأساسية في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، بل المنهجية التي قام عليها كيان الاحتلال، وتتبناها التيارات الصهيونية بكل تفريعاتها، ويعكس استراتيجية إسرائيلية تستند إلى مزيج من العنصرية والجرائم ضد الإنسانية بهدف تفتيت الشعب الفلسطيني ومجتمعاته وتدمير هويته.
أما في غزة تحديدًا، فيمثل مقترح ترامب استكمالًا لنهج متواصل منذ عقود، بدءًا بما عُرف بـ”خطة سيناء” التي أُعلن عنها عام 1953 وهدفت إلى تهجير الغزيين إلى سيناء.
متى كانت أول محاولة لتهجير الغزيين؟
بدأت المحاولات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة عام 1953، حين طرحت حكومة الاحتلال “خطة سيناء”، التي تقضي بترحيل الفلسطينيين من غزة إلى سيناء المصرية. وقد نالت هذه الخطة دعمًا من الإدارة الأمريكية آنذاك، حيث سعت واشنطن إلى التواصل مع السلطات المصرية لتنفيذها، كما شاركت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” في الترويج لها تحت ذرائع مختلفة، منها الادعاء بأن قطاع غزة لا يصلح للسكن على المدى الطويل، وبالتالي فإن نقل السكان إلى سيناء سيضمن أمنهم.
ووجهت هذا الخطة برفض شعبي فلسطيني أفشلها، إذ انطلقت مطلع آذار/مارس 1955 تظاهرة حاشدة من مدرسة “فلسطين الرسمية” في مدينة غزة، شارك فيها معلمو المدرسة وطلابها، إضافة إلى سائقي السيارات والباصات وأصحاب المحلات التجارية، الذين هتفوا بشعار: “لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان”، عُرفت هذه التظاهرة لاحقًا بـ “هبة آذار”، والتي كانت من أبرز مظاهر المقاومة الشعبية ونجحت آنذاك في إفشال الخطة.
![71 عامًا من المحاولات الإسرائيلية.. غزة تثبت أنها عصية على التهجير 2 نون بوست](https://www.noonpost.com/wp-content/uploads/2025/02/noonpost-5793192.jpeg)
في أعقاب احتلال قطاع غزة والضفة الغربية عام 1967، كان عدد الفلسطينيين في تلك المناطق يقدر بحوالي مليون فلسطيني، من بينهم 350 ألفًا في قطاع غزة.
أطلق رئيس الحكومة الإسرائيلية ليفي أشكول في عام 1965 مشروعًا يدعو إلى توجيه جزء من الموارد الضخمة التي تسيطر عليها “إسرائيل” إلى إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين، ودمجهم في الدول العربية.
وكان هذا المشروع يستند إلى فرضية أن الدول العربية ستسهم ماليًا في عملية التوطين، وهو ما تبين لاحقًا أنه لم يكن مقبولًا على مستوى الدول العربية التي رفضت هذه الفكرة، فضلاً عن أن الفلسطينيين كانوا قد بدأوا في تنظيم أنفسهم سياسيًا من خلال تشكيل مؤسسات تعبر عن تطلعاتهم الوطنية، مثل إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964.
ومع اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية عام 1967، طرحت الحكومة الإسرائيلية عدداً من الأفكار التي تتعلق بمستقبل الفلسطينيين في هذه الأراضي. وفي 25 يونيو/حزيران 1967، قال وزير الجيش الإسرائيلي آنذاك، موشيه ديان، في تصريح له: “إذا تمكنا من إخلاء 300 ألف لاجئ من قطاع غزة إلى أماكن أخرى، فيمكننا ضمه من دون مشكلة”.
أعقب ذلك عدة طروحات قدمها وزراء إسرائيليون في ذلك الوقت لتحقيق هذه الرؤية، حيث اقترح وزير الداخلية، حاييم موشيه شابيرا، نقل 200 ألف لاجئ فلسطيني من قطاع غزة إلى العريش أو توطين جزء منهم في الضفة الغربية. بينما اقترح وزير الشرطة، إلياهو ساسون، نقل سكان غزة إلى الأردن. أما الوزير يغال ألون، فقد اقترح تشجيع هجرة الفلسطينيين من غزة إلى سيناء كلها، وليس العريش فقط، وفي اقتراح آخر، دعا ألون إلى تهجير بعض الفلسطينيين إلى دول بعيدة مثل كندا وأستراليا.
خطط تهجير الغزيين في عهد مائير
على الرغم من أن غولدا مائير، رئيسة وزراء “إسرائيل” بين 1969 و1974، كانت معروفة بمواقفها التي تدعو إلى الحفاظ على الأراضي التي احتلتها “إسرائيل” في حرب 1967 دون زيادة أو نقصان، إلا أن تلك الصورة التي حاولت مائير رسمها لنفسها كرئيسة حكومة ملتزمة بالمحافظة على الوضع القائم، تتناقض مع المداولات السرية التي كانت تجري خلف الأبواب حول تهجير الغزيين. ففي فترة حكمها، كانت النقاشات المتعلقة بتهجير الفلسطينيين من غزة تأخذ منحى جديًا داخل الحكومة الإسرائيلية، حيث صرّحت في إحدى لقاءاتها قائلة إن: “الأمر يجب أن يتعلق بتقليص عدد المخيمات الفلسطينية في غزة، ولا جدال حول المبدأ”.
الفرق حينها أن دولة الاحتلال كانت حريصة على البحث عن حلول “هادئة” لتهجير الفلسطينيين دون لفت الأنظار الدولية، حيث حذر وزير الجيش موشيه ديان من التصرف علنًا لتشجيع هجرة سكان غزة، قائلاً إن الخطة يجب أن تكون “تدريجية وطبيعية”، دون إجبار الفلسطينيين على الرحيل. رغم هذا، كانت الأفكار التي طرحت داخل الحكومة تؤكد على أن تهجير الفلسطينيين هو خيار معتمد لضمان الهيمنة الإسرائيلية على غزة.
أحد المقترحات التي طرحت، تعود لوزير التنمية حاييم لاندو، الذي كان يرى أن توفير التعليم المهني للفلسطينيين في غزة قد يساعد في تحفيزهم على الهجرة، إذ سيكون لديهم فرصة أكبر للاندماج في بلدان أخرى. مضيفًا أن يُمنح الفلسطينيون الذين يُتهمون بـ”الإرهاب” خيار الانتقال الطوعي إلى العريش أو أماكن أخرى، على أن يتم نقلهم بواسطة السلطات الإسرائيلية مع أمتعتهم.
كما بحثوا الكيفية التي سيتم بها تنفيذ هذا الترحيل، فكان واضحًا أن الحكومة الإسرائيلية كانت تبحث عن “التهجير الطوعي” كخيار أول، خوفًا من التعرض للانتقادات الدولية أو من المواقف الإقليمية، وخاصة الموقف العربي والمصري الذي كان يرفض بشكل قاطع أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من غزة. هذا التوجه كان أيضًا مرتبطًا بحسابات إسرائيلية حول إمكانية استعادة مصر لسيناء في ظل التوترات التي تلت حرب 1973.
زئيفي عرّاب سياسة الترانسفير
استمرت هذه المقترحات لتهجير الفلسطينيين من غزة في الأوساط الإسرائيلية طوال فترة الثمانينيات، وعام 1987، مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أطلق رحبعام زئيفي، الذي اغتالته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 2001، مجموعة من المقترحات التي تهدف إلى تضغط على الفلسطينيين لمغادرة بلدهم، عبر أساليب تروج لـ”الهجرة الطوعية”، كان من أبرز هذه المقترحات:
- وقف عمل الفلسطينيين في “إسرائيل”: بهدف خلق ضغوط اقتصادية تحفزهم على مغادرة البلاد.
- إغلاق الجامعات الفلسطينية: للحد من التعليم والتثقيف الفلسطيني، بما يسهم في دفع الشباب الفلسطينيين إلى الرحيل.
- توقيف كافة الأنشطة الصناعية مع الفلسطينيين: بهدف إضعاف الاقتصاد الفلسطيني في الأراضي المحتلة، مما يفرض ضغوطًا إضافية على السكان.
- منح مبالغ مالية لمن يقبل الهجرة: كحافز لمن يرغب في مغادرة غزة إلى دول عربية أخرى.
وكان زئيفي أول من تبنى فكرة “الترانسفير” بشكل علني حينها، بعد أن أسس حزب “موليدت” عام 1988، الذي كان يرى أن العرب في “أرض إسرائيل” يجب عليهم تنفيذ “الواجبات المفروضة على مواطني دولة إسرائيل”، مثل الخدمة الإجبارية في الجيش الإسرائيلي أو مغادرة “الأراضي الإسرائيلية”، مستندًا على ما اعتبره نجاحات في عمليات نقل السكان في أماكن أخرى من العالم، مثل عمليات تبادل السكان بين الهند وباكستان وتركيا واليونان، التي تمت باتفاقات متبادلة.
جرى تحويل جزء من مقترحات زئيفي إلى خطوات عملية سرية، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 1987، خلال فترة الانتفاضة، كشف أريئيل شارون، الذي كان يشغل منصب وزير الصناعة والتجارة آنذاك، عن مشروع لتشجيع التهجير الطوعي للفلسطينيين تعمل عليه منظمة سرية. مشيرًا إلى أن هذه المنظمة كانت تسعى إلى “توفير فرص الهجرة” إلى دول مختلفة، خاصة أمريكا الجنوبية.
واتخذت هذه المنظمة السرية من شارع عمر المختار في مدينة غزة مركزًا لها، فكانت تقدم للمغادرين تذاكر سفر بلا عودة إلى دول مثل باراغواي، عبر وكالة سفر مقرها تل أبيب. فيما تعرض على المرحلين مساعدات مالية ودعمًا للاندماج في البلدان المستقبلة لهم. ورغم أن هذه المنظمة عملت لمدة 3 سنوات على الأقل، إلا أنها لم تتمكن من “ترحيل” سوى 1000 فلسطيني فقط.
محاولات ما بعد السابع من أكتوبر
عادت محاولات الاحتلال الإسرائيلي لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة للواجهة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهو ما أصبح محورًا رئيسيًا في خطاب المسؤولين الإسرائيليين، سواء من وزراء اليمين المتطرف أو من الجهات الأمنية. إذ قدمت الاستخبارات الإسرائيلية في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وثيقة تحتوي على ثلاثة بدائل لتحديد مصير الفلسطينيين في القطاع بعد انتهاء الحرب، من بينها خطة لنقل سكان قطاع غزة إلى شمال سيناء عبر ثلاث مراحل محددة هي:
- إخلاء السكان من المناطق الشمالية في غزة إلى المناطق الجنوبية من القطاع.
- الاجتياح البري لغزة من الشمال إلى الجنوب، مع احتلال كامل للقطاع.
- ترحيل الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية، مع فرض منع شامل لعودتهم إلى غزة.
ومع تصاعد وتيرة الحرب، قدم غيورا آيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مقترحًا عُرف بـ “خطة الجنرالات”، التي كانت تهدف إلى تحويل شمال قطاع غزة إلى منطقة عسكرية مغلقة، تشمل المناطق الشمالية وصولًا إلى “ممر نتساريم”.
خطة الجنرالات.. حرب تجويع إسرائيلية جديدة لفرض الاستسلام في غزة
كما تضمن المقترح إصدار أوامر إخلاء للسكان الفلسطينيين في تلك المنطقة، والبالغ عددهم حوالي 600 ألف، وإجبارهم على الانتقال إلى الجنوب عبر ممرات يحددها الجيش الإسرائيلي، مع تحديد مهلة أسبوع لتنفيذ القرار. بالتوازي مع فرض حصار شامل على المنطقة ومنع وصول أي مساعدات إنسانية أو احتياجات أساسية لمن تبقى من السكان.
وفي حين نجح الاحتلال مرحليًا بقوة الإبادة الجماعية بتهجير أهل الشمال والوسط إلى الجنوب خلال الحرب، إلا أنه مشروعه فشل، كما تجلى في انصياع الاحتلال لشروط المقاومة، وعودة النازحين إلى بيوتهم في مناطق الشمال واستعادة محور نتساريم.
أظهر الفلسطينيون في غزة عبر عقود من الزمن، ذاقوا خلالها كل أنواع التهجير والقتل والممارسات العنصرية والوحشية، أن مقاومتهم للمحاولات الإسرائيلية لا تقتصر فقط على الجهود العسكرية، بل تشمل أيضًا ثباتًا سياسيًا واجتماعيًا يرفض التهجير بكل أشكاله، ويرسخ وجودهم كأهل وأبناء لهذه الأرض، بخلاف المحتلين.