عاش على هذه الأرض حضارات كثيرة، ومرّ عليها ممالك ودول لا تُعد ولا تُحصى، منها ما خلدته صحف التاريخ وأعطتها حقها وأنصفتها، ومنها من لم تأخذ الضوء الكافي لتنال حصتها بين هذه الحضارات والممالك، وها نحن هنا نسلط الضوء على مملكة “القبجاق” والتي تُعرف أيضُا بإسم “القبيلة الذهبية”.
من هم القبجاق؟
يطلق اسم القبجاق (القبشاق) أو (القبيلة الذهبية) على المغول الذين أقاموا في البلاد التي منحها جنكيز خان قبل وفاته لابنه الأكبر جوشي، وتشمل سهول جنوب روسيا وأقصى غرب آسيا وسيبيريا فيما بـين نهر آتش والسواحل الجنوبية لبحر قزوين. يعتبر القبجاق من أكثر الشعوب أهمية بالنسبة للمغول في هذه المنطقة، فهم قبائل كثيرة شهيرة من بين الأقوام التركية القديمة، التي طبعها البداوة والترحال في جهد وشظف العيش، كان استقرارهم في حوض نهر الفولغا الأدنى شمال بلاد ما وراء النهر وخوارزم.
تزايدت أعدادهم في القرن الحادي عشر للميلاد، وانتشروا في منطقة واسعة في صحراء الغز الممتدة من الغرب حتى نهر الفولغا والبحر الأسود وتمتد من الشمال لتصل إلى جنوب روسيا، ولذلك سميت صحراء الغز منذ ذلك الحين بـ “دشت القبجاق” أو برية القبجاق. امتدت المساحات التي تحكمها هذه المملكة الذهبية، فقد امتدت من نهر إريتش شرقًا إلى أرض بلغار الغولغا غربًا، ومن روسيا وبلاد الصقالبة شمالًا إلى مملكة المغول الإيلخانيين في إيران وآسيا الصغرى وبلاد ما وراء النهر والتركستان جنوبًا.
وصف هذه المملكة المؤلف أبو العباس القلقشندي في كتابه “صبح الأعشى“: “أن هذه المملكة متسعة الجوانب طولًا وعرضًا، كبيرة الصحراء، قليلة المدن، ولها عالم كثير لا يدخل تحت حد، إلا أنهم ليس لهم كثير نفع لقلة السلاح ورداءة الخيل، وأرضهم سهلة قليلة الحجر”.
وفيما نقله الرمزي في كتابه “تلفيق الأخبار وتلقيح الآثار في وقائع قزان وبلغار وملوك التتار” عن الرحالة والمؤرخ ابن عربشاه في وصف الدشت: وكانت دشت القبجاق والبركة بلادًا بالثمار خاصة وبأنواع المواشي وقبائل الأتراك عامة محفوظة الأطراف، معمورة الأكناف فسيحة الأرجاء فسيحة الماء والهواء، أفصح الأتراك لهجة، وأكملهم بهجة، نساؤهم شموس ورجالهم بدور، وأما إضافتها إلى بركة فلكونها أول من أسلم منهم، وأما إضافتها إلى أوزبك فلكونها أشهر ملوكها أشدهم سطوة وأكثرهم اختلاطًا بالملوك المصرية”.
كتاب وقائع قازان وبلغار وملوك التتار لـ الرمزي
أما فيما يخص تسمية هذه المجموعة من المغول بـ “القبيلة الذهبية”، فغالبًا نسبة إلى خيامهم ذات اللون الذهبي، كما سميت دولة المغول هناك باسم سلطنة القبجاق ودولة القبجاق، وبحسب الرمزي قد تعددت الأسماء لهذه المملكة. فهي كانت تسمى بـ “جوجي الوسي” أي حصة جوجي، ومملكة باطو، وبرية بركة، ومملكة بركة، ومملكة دشت القبجاق، والمملكة الشمالية، ومملكة أوزبك، لكن المملكة الذهبية التاريخية اشتهرت باسم مملكة القبجاق لكون دار مملكة هؤلاء المغول وكرسي سلطنتهم بلدة سراي في أرض دشت القبجاق.
يُشير الرمزي إلى رواية يتداولها البعض عن ظهور هذا الشعب وأصل تسميتهم، تقول أن أحدًا من رجالهم مات، وكانت زوجته حامل ولما حان وضع حملها لم تجد بيتا تضع ابنها فيه، وكان الهواء باردًا فدخلت جوف شجرة ووضعته فيه، ولما بلغ مسمع ملكهم سمي هذا الولد بـ “قبجق” نسبة إلى الشجرة المجوفة كما يطلقه عليها قدماء الأتراك وضمه إلى نفسه ورباه مع أولاده.
يُشير بعض المؤرخين أن علاقة جوجي مع والده جنكيز خان ساءت في فترته الأخيرة نتيجة أنه اتخذ سياسة عدم الرضى والتأييد لما كان قام به أبيه من وحشية وتدمير وتقتيل وتنكيل تجاه المسلمين
يكمل الرمزي بأنه لما كان هؤلاء الأقوام يجاورون الروس، كثرت بينهما المناوشات والحروب طويلة الأمد، وكان قد كبر هذا الولد الذي قام الملك بإرساله مع جيش من العسكر لمحاربة الروس فردهم، إلى طاعته وتسلطن عليهم مدة، وقبائل قبجق كلهم من نسله.
قصة تأسيس القبجاق
كان لجنكيز خان أربعة أولاد، جوجي وجغاتي وأوكتاي وتولوي، قدمهم على أبنائه الآخرين، وأراد أن يُقسم إمبراطوريته الضخمة بينهم وهو على قيد الحياة، وبحسب قانون المغول في ذلك الوقت، يعطي الأب كل قسم لابن من أبنائه حسب سنه ومكانته ويبقى الجزء الأهم منها لأصغرهم.
حاز جوجي ابن جنكيز خان الأكبر على ممالك البلاد الغربية، ممالك البلغار والروس وخوارزم والقبجاق وما حولها، وكان بينه وبين إخوته ضغينة وبرودة، فبعد غزوه لخوارزم سنة 617هــ، توجه بجيشه نحو دشت القبجاق ليفتح بعض البلاد المجاورة، فأظهر له والده عنايات كثيرة، ثم أرسله إلى مملكته المخصوصة به، ولما عاد إليها لم يلبث إلا قليلًا حتى توفي سنة624هــ/1227م وكان ذلك قبل موت أبيه بستة أشهر.
كان بركة مسلمًا تولى أمر الخانية بعد باطو، وقد قدم له جده جنكيز خان كافة أنواع الدعم لإكمال خطة جوجي في غزو بلاد الروس، وأكمل للمجر وبولندا، وكان يُلقب بـ “خان القبيلة الذهبية”
يُشير بعض المؤرخين أن علاقة جوجي مع والده جنكيز خان ساءت في فترته الأخيرة نتيجة أنه اتخذ سياسة عدم الرضى والتأييد لما كان قام به والده من وحشية وتدمير وتقتيل وتنكيل تجاه المسلمين، علاوة على ذلك نيته المبيتة في استقلاله بما تحت يده من ممالك وأراضي عن مركز الإمبراطورية المنغولية، وبحسب الرمزي فيبدو أن جوجي كان ينوي قتل أبيه ليوقف الدمار الذي أحدثه والده ببلاد المسلمين، ووالده سبقه بتسميمه لهذه النية.
خان القبيلة الذهبية
ترك جوجي ولدين ورثاه بعده على رأس المملكة، وهما باطو وبركة، أما باطو فقد أسس القبيلة الذهبية بعد وفاة والده وكان بركة مسلمًا تولى أمر الخانية بعد باطو، وقد قدم له جده جنكيز خان كافة أنواع الدعم لإكمال خطة جوجي في غزو بلاد الروس، وأكمل للمجر وبولندا، وكان يُلقب بـ “خان القبيلة الذهبية”.
وبعد أن انتهى من حربه مع الروس وغيرهم والاستيلاء على بلادهم التي خضعت له، وأقروا له بأداء الجزية، رجع إلى مقر سلطنته وبدأ ببناء مدينته وعاصمة مملكته سراي بالجانب الشرقي من نهر إتل، ثم شرع في تنظيم الملك وتعمير البلاد وتأمين الطرق.
بعد وفاة القاآن أوكتاي ابن جنكيز خان سنة639هــ/1241م بقيت القاآنية فارغة مدة خمسة سنوات حتى خلفه ابنه كيوك الذي كانت تقوم مناوشات بينه وبين باطو، كان لها صدى كبير بين أبناء جنكيز خان وأحفاده وجميع طوائف المغول في جميع أنحاء مملكتهم.
دان كيوك بالنصرانية، ووفد إلى بلاد المغول عدد كبير من القسيسين والرهبان في عهده بحسب الرمزي، محاولين كسر قوة المسلمين، الذين كان يميل لهم ولدينهم باطو، الأمر الذي خلق أزمة بين القاآن كيوك والخان باطو، الذي وقف بصف المسلمين.
يعتبر الخان المغولي بركة الذي كان قائدًا للقبيلة الذهبية عام 1256-1267م، خان فريدًا من نوعه في تاريخ أسرة جنكيز خان بتشرفه، وذلك بأنه وبإجماع المؤرخين أول قائد مغولي يعتنق الإسلام من الأسرة، إلا أنه اختلف في تاريخ اسلامه.
بعد ذلك استقل باطو بالأراضي التي يسيطر عليها بعد أن استكمل غزواته لبلاد الروس، وعودته إلى قاعدته ببلاد القبجاق على الرغم من أنه كان تابعا شكليا للقاآن أوكتاي منذ توليه عرش القاآنية، وظل باطو وفيًا حتى وفاة كيوك.
وهنا يقول الرمزي يبدو أن الظهور والتأسيس الحقيقي للقبيلة الذهبية كان بعد وفاة الخان الأعظم كيوك، إذ وبعد سنة 639هـ/1241م بسنة، أي في 640هـ/1242م وبعد عودة باطو من بلاد الروس شرع في تنظيم دولته وتشكيل اتجاهاتها وإنشاء العاصمة سراي، ليشرع فيما بعد في تنظيم المملكة ووضع نظامها الداخلي والخارجي.
يقول المؤرخون أن باطو سعى إلى تعمير البلاد وتأمين الطرق، ورسم الحدود الممتدة من نهر إريتش حتى الفولغا ومن خوارزم إلى بلاد الصقالبة، والتي تضم بداخلها شعوبًا وأجناسًا مختلفة من الأتراك والتركمان والروس والبلغار وغيرهم، لتقوم على ذلك مملكة “مغول القبجاق” انطلاقًا من سنة 640هـ/1242م.
إسلام القبجاق
يعتبر الخان المغولي بركة الذي كان قائدًا للقبيلة الذهبية عام 1256-1267م، خان فريدًا من نوعه في تاريخ أسرة جنكيز خان بتشرفه، وذلك بأنه وبإجماع المؤرخين أول قائد مغولي يعتنق الإسلام من الأسرة، إلا أنه اختلف في تاريخ إسلامه.
يشير الرمزي إلى إسلامه ويشبهه بأنه منقذ الإسلام في تلك البلاد وغيرها في عهده بقوله: “وقد أسلم بركة خان هذا وقد حسن إسلامه وجعله الله سببا لبقاء، رمق الإسلام وانتعاشه بعد أن شارف على الانعدام”.
اختلاف المؤرخين يتمثل في كيفية إسلامه وسببه وتاريخه، فيرى البعض أنه أسلم قبل توليه العرش، وبضعهم يرى أن إسلام بركة كان قبل ذلك بسنوات وذلك عند ذكره لأحداث سنة 644هـ أثناء قدوم رسولان من التتار إلى بغداد كان أحدهما بركة، أسلم زمن سلطنة أخيه باطو.
بدأ بركة فور قيادته للسلطة، يحول معالم دولة القبجاق كدولة إسلامية، وبدأ في الدفاع عن الإسلام وبذل في ذلك جهدًا كبيرًا وأعلن نفسه حاميًا للقرآن والشريعة والدين
يقول الرمزي إنه بعد إتمام عملية إجلاس منكو على كرسي القاآنية، وفي طريق العودة من قراقورم إلى سراي، مر بركة بمدينة بخارى واجتمع بالشيخ سيف الدين الباخرزي من أصحاب شيخ الطريقة نجم الدين الكبرى، وحسن كلام الباخرزي عنده فأسلم على يديه، يضيف الرمزي أن الشيخ الباخرزي أشار إلى أن بركة قد قام بمكاتبة الخليفة المستعصم وموالاته ومبايعته ومهادنته، عام 644هـ.
كان لعملية التحول المبكر للإسلام من طرف حكام مغول القبيلة الذهبية أهمية بالغة تكمن في سلامة هذه الخانية الصراعات الدينية، وبقائها آمنة بعد إقرار الدين الإسلامي في أراضيها، وبروزها فيما بعد كدولة إسلامية تابعة للخلافة منذ تولي بركة حكم الخانية سنة 654هـ/1256م.
بدأ بركة فور قيادته للسلطة، يحول معالم دولة القبجاق كدولة إسلامية، وبدأ في الدفاع عن الإسلام وبذل في ذلك جهدًا كبيرًا وأعلن نفسه حاميًا للقرآن والشريعة والدين، وكانت سياسته تعتمد على ربط أواصر الصداقة مع المسلمين سواءً في مملكته أو مع القوى المجاورة، وعلى رأسهم المماليك والخلافة في مصر.
عقد بركة خان حلفًا مع سلطان المماليك الظاهر بيبرس، وكانت بداية هذا الاتفاق أن أصدر أمره إلى جنوده المقاتلة في صفوف جيوش هولاكو بأن تتخلى عن مؤازرة الإيلخان- كما يروي المستشرق المؤرخ بيرتولد- وأمرها بأن تتوجه إلى سلطان مصر.
يقول ابن بطوطة في كتابه “تحفة الأمطار في غرائب الأمصار”: “لقد بلغ بهم أن كان المؤذنون في بعض المدن يطوف كل واحد منهم على المنازل وعبر الطرقات يخبرون المصلين بضرورة حضور صلاة الجماعة
كما عادى السلطان بركة خان ابن عمه هولاكو إيلخان إيران الذي كاد أن يقضي على الإسلام كدين في إيلخانيته، كما سعى في العمل على نشر الإسلام بين قومه من المغول في بلاد القبجاق و بين الشعوب الأخرى الخاضعة لحكمه.
عمل المغول وعلى رأسهم الخانات والأمراء والملوك على ترسيخ مظاهر الحضارة الإسلامية في المملكة الذهبية كغيرها من البلاد الإسلامية، فقد حرصوا على توثيق كل ما هو إسلامي ذو طابع حضاري في تصرفاتهم وحياتهم العامة والخاصة.
قام السلطان بركة خان بتغيير أسماء أبنائه التركية والمغولية إلى أسماء ذات طابع إسلامي بحت، فقد سمى أبنائه بحسام الدين وصلاح الدين وبدرالدين محمد، وناصر الدين محمد وكان أن سبق وأسمى نفسه نار الدين من قبل.
يقول ابن بطوطة في كتابه “تحفة الأمطار في غرائب الأمصار”: “لقد بلغ بهم أن كان المؤذنون في بعض المدن يطوف كل واحد منهم على المنازل وعبر الطرقات يخبرون المصلين بضرورة حضور صلاة الجماعة، ومن لم يلب النداء كان يعاقب أمام المصلين وكان الإمام يجلده من طرف الإمام، فضلًا عن تغريمه بخمسة دنانير توزع على الفقراء والمساكين”.
التاريخ شهد قبيلة القبجاق التي تحولت لتصبح أشد المناصرين والمدافعين عن الإسلام بأبهى صوره الحضارية في القبيلة الذهبية.
قد أولى الخان بركة ومن بعده اهتمامه بالحياة العلمية والثقافية في مملكة القبجاق، حيث أنشأ المساجد والمدارس والزوايا في جميع أنحاء البلاد وقرب العلماء والفقهاء، من هذه الزوايا ما ذكره ابن بطوطة في مختلف المدن التي زارها زاوية الشيخ زادة الخراساني في القرم، وقربها كانت زاوية تابعة للأمير تلكتمو وزاوية كانت لشيخ يسمى رجب النهر في مدينة أزاق، وفي مدينة سراجوق كانت هناك زاوية لرجل يدعى آطا صالح من الترك.
وفي مدينة الماجر توجد زاوية الشيخ الصالح العابد محمد البطائحي، وبها نحو سبعين من فقراء العرب والفرس والترك الروم، وفي مدينة سراي العاصمة كانت هناك زوايا كثيرة أهمها وأشهرها زاوية الشيخ نعمان الدين الخوارزمي التي اعتاد السلطان أوزبك على زيارتها كل جمعة، وفي مدينة خوارزم زاوية الأمير قطلوتيمر نائب السلطان أوزبك.
ختامًا فإن الصورة التاريخية النمطية المأخوذة عن المغول معممة عند أغلب الناس، بأنها همجية ووحشية تخلو من معالم الإنسانية، شياطين حاربوا الإسلام والمسلمين وقطعوا رؤسهم ونكلوا بهم، ولم تكن لهم حضارة، على أن هذه الصورة لا تمثّل سوى جزءًا من تاريخهم، ولكن التاريخ شهد قبيلة القبجاق التي تحولت لتصبح أشد المناصرين والمدافعين عن الإسلام بأبهى صوره الحضارية في القبيلة الذهبية.