هل أثارتك يومًا قضية في إحدى الصحف وقررت البحث عنها في مواقع وصحف أخرى والاستمتاع بتجميع معلومة من هنا وأخرى من هناك؟
لا بد أن البحث بهذا الأسلوب مرهق ولكن لا يخلو من متعة البحث الذاتي، وهناك أعمال روائية كاملة اعتمدت على هذا الأسلوب، حيث السرد لا ينبع من البطل أو من راوٍ خفي عليم، ولكن من مصادر مختلفة مثل الجرائد والسجلات والتنقل بينها، ربما كتبت بعض الأعمال البوليسية بهذا الشكل ولكن أفضل الأعمال هي تلك التي تكمن متعتها في مشوار البحث والتنقل الذي يتخذه البطل أو الباحث وليس عما يبحث عنه حقًا، وإلى هنا لنعرض بعض الأعمال الروائية التي اتسمت بهذه الطريقة الفريدة.
عاشق مولع بالتفاصيل.. ألبرتو مانغويل
ألبرتو مانغويل هو كاتب من أصل أرجنتيني لكن كندي الجنسية، معروف بالكتابة عن الكتب وتجميع الكتب النادرة، ومن كتبه المعروفة كتاب تاريخ القراءة.
في روايته القصيرة “عاشق مولع بالتفاصيل” يحكي قصة عامل يدعى أناتول فازانبيان يعيش في المدينة الفرنسية بواتتيه في مطلع القرن العشرين ويعمل في حمام عمومي، قد تبدو القصة غير مثيرة بالنسبة لعامل حمام عام ولكن المثير ليس القصة بل طريقة البحث عنها.
في الرواية يروي لنا أحدهم سيرة أناتول فازانبيان وكيف ينتهي به الأمر نهاية مأساوية بسبب التفاصيل التي يحبها، تظل حياة العامل رتيبة ومملة إلى أن يتعرف على مصور ياباني يهديه ميزة لم يكن يدري شيئًا عن امتلاكها، فقد لفت نظره إلى تصوير التفاصيل بدلًا من كتابتها كما كان يفعل دائمًا، وبمجرد أن يتسلم أناتول الكاميرا لا يستطيع تركها ويعيد ترتيب حياته لتلائم تعلقه بالتفاصيل مثل الأيادي الممتدة له يوميًا وجمال الأجساد وسط البخار وكل لقطة مميزة يستطيع تصويرها.
السرد في رواية “عاشق مولع بالتفاصيل” يعتمد على الراوي الذي بدوره يعتمد على السجلات بجانب مذكرات أناتول فازنبيان نفسه منذ صغره وحتى ولعه بالكاميرا، فتصور مرحلة الصغر السجلات المدرسية ومذكرات المعلمين عن الطالب ومواقف تساعد في تكوين قصته من البداية ثم نبدأ في قراءة مذكراته ووضوح حبه للتفاصيل حتى في مذكراته.
دورا برودويه.. باتريك موديانو
باتريك موديانو هو كاتب فرنسي شهير حاصل على جائزة نوبل للأدب عام 2014 وعدة جوائز فرنسية رفيعة أخرى في مجال الأدب، وتعد رواية “دورا بروديه” من أشهر أعماله.
في هذا العمل نحن نتتبع قصة اختفاء طفلة تدعى دورا بروديه في أربعينيات القرن العشرين وكل الدليل على وجودها هو الإعلان الموجود في جريدة قديمة الذي يجذب أنظار أحد المهتمين للبحث عن قصة حياة هذه الطفلة.
قد تتعجب حقًا من إمكانية بناء قصة من قصاصات الجرائد والأوراق المندثرة، ولكن هذا ما حدث حقًا، حيث بحث الرجل المجهول أولًا عن شهادة ميلاد بهذا الاسم وكشف والدها ووالدتها مما أوصلنا لقصة كبيرة لاضطهاد اليهود وتتبع اعتقال والدي الطفلة ثم كشف سجلات المدرسة وسجلات التحقيق في الاختفاء، ومع تلك الوثائق لا يتوقف الخيال بل يعتمد على تخيل عدة سيناريوهات عن أسباب اختفاء دورا، هل هي قسرية أم بإرادتها!
“دورا برودويه” ليست رواية طويلة أو ضخمة ولكنها بالتأكيد مليئة بالأفكار عن الطرق التي ترسمها لنا الحياة وتحكماتها بنا وهل يمكن أن نختفي حقًا باختفائنا من الأوراق الحكومية أم أننا موجودون رغمًا عنها.
طائفة الأنانيين.. إيريك إيمانويل شميت
إيريك إيمانويل شميت هو كاتب فرنسي شهير من أصل بلجيكي، لفت الأنظار برواية “مسيو إبراهيم وزهور القرآن” وأيضًا الرواية الرائعة الموجهة إلى الأطفال “أوسكار والسيدة الوردية”.
تدور الرواية حول أمين مكتبة يبحث عن كلمة الأنانية ويجد ذكر لطائفة يترأسها شاب هولندي ثري يدعى غسبار لانغونهيرت في بداية القرن الثامن عشر تدعى “طائفة الأنانيين”، حيث يؤمن أفرادها أنهم الوحيدون في العالم والبقية صنيع مخيلتهم لخدمتهم لذا يعتبرون أنفسهم كالآلهة.
حبكة الرواية المبهرة اعتمدت على فكرة غريبة واختلاق طائفة وبطل لها بل وسرد حجج هذا البطل التي قد يجدها البعض هراءً والبعض الآخر منطقية بعض الشيء.
إن البحث عن حادثة على الإنترنت مختلف عن البحث عن قصة حدثت من 50 عامًا ويختلف عن البحث عن شخصية عاشت منذ عدة قرون، لذا فقد اعتمد البطل في الرواية على مراسلة كبرى المكتبات في العالم لتتبع أي أثر لطائفة حاولت إسباغ الطابع الفلسفي على معتقداتها، ولكن من الواضح أنها فشلت لاعتبار كل واحد من أفرادها مالك العالم وما الباقي إلا انعكاسات لأفكاره ورغباته.
لذا يبحث أمين المكتبة عن القصة بين الكتب التي تحكي عن رواد الصالونات الثقافية وأيضًا مذكرات المعاصرين لهذه الحقبة حتى يصل لجزء من مذكرات الهولندي المتهور وسرد مشاعره الشخصية والطريقة التي يحاول تفسير كل ما يحدث حوله ليثبت صحة أفكاره.
هناك أعمال أخرى اعتمدت على سرد الحكاية من عدة أبطال أو تخصيص فصل لكل وجهه نظر، ولكن لم تكن تتسم بالتشويق الذي تتسم به هذه الأعمال رغم عدم تصنيفها بوليسية من الأساس ولكنها متعة الاكتشاف وخوف من وجود جزء مفقود قد يودي بالقصة إلى نهايتها، وأيضًا متعة سماع أفكار الشخصية بوضوح، فقد تقرأ أعمالًا كثيرة حيث يكون السرد من لسان البطل ولكن لن تشعر بأن الأفكار حقيقية إلا عندما تنتقل من قراءة وثيقية عادية إلى قراءة مذكرات البطل بلسانه مثل “عاشق مولع بالتفاصيل” أو “طائفة الأنانيين”.