على خلاف ما يظن عرب كثير من خارج تونس بأن المجتمع التونسي يملك مؤسسات مجتمع مدني فاعلة، حيث يضعون النقابة (الاتحاد العام التونسي للشغل) في مقدمة هذه المؤسسات، وعلى خلاف فخر التونسيين بنقابتهم فإن الدور الحقيقي لهذه النقابة بعد الثورة كان إفساد الديمقراطية وتخريب عملية الانتقال الديمقراطي وتحويل حياة التونسيين إلى جحيم، دون أن تستفيد الشغيلة التونسية من نضالات مزعومة للمنظمة، يتجاهل كثيرون أن المنظمة مسيسة ومنحازة ضد الثورة وينخرها الفساد من الداخل وتتبجح قيادتها بثرواتها فتذبح مئتي خروف في أعراس أبنائها.
منظمة تمارس الابتزاز السياسي
قيادة النقابة الحاليّة حولت المنظمة إلى وثن مقدس لا يجادل بل تقدم له طقوس الولاء والطاعة، ولقد تبين بالتدريج أن القيادة الحاليّة تمارس الابتزاز السياسي لكل مكونات المشهد، وقد تكثف هذا الابتزاز في أيام الحملة الانتخابية، إذ استبق الأمين العام للاتحاد بتصريح يهدد فيه الدولة قائلاً: إن ما بعد الانتخابات وتشكيل الحكومة القادمة سيكون مرحلة كسر عظم، ثم زاد بأن الاتحاد يضع مقاييس سياسية للرئيس القادم فلا يقبل بغيرها وهذه التهديدات جعلت كل الأحزاب تهرول مرعوبة إلى مكتب الأمين العام لتقدم له طقوس الخضوع وتزعم أنها تفاوض من أجل السلم الاجتماعي دون أن يسأل أحدهم نفسه بأي حق تخول النقابة لنفسها موقفًا مماثلاً وخطابًا بتلك الحدة ضد الدولة ومكوناتها.
خضوع السياسيين للنقابة هو ما سمح لها بمد رجليها في المشهد متخلية عن كل عمل نقابي ومركزة جهدها الإرهابي (واختار اللفظ عمدًا) على المشهد السياسي فتفسده.
كلما حاول سياسي أو محلل أن يكتب في نقد المنظمة ودور قيادتها صادر النقابيون حقه في النقد بتذكيره بتاريخ المنظمة ووضعوا أمامه دورها التاريخي في معركة التحرر الوطني
السياسيون يخافون المنظمة وينافقونها وهي تعرف خوفهم وارتعاشهم بحضرة قيادتها فتفرط في الابتزاز خصوصًا أنها متغلغلة في وسط الإدارة بحيث يمكنها تعطيل أي مرفق عمومي بإضرابات وحشية مثلما جرى في النصف الثاني من شهر أغسطس، حيث أغلقت مكاتب البريد في أيام موسم قبض المرتبات والمرتبات التقاعدية، بمطالب من قبيل توفير خروف العيد لأعوان البريد وتمكينهم من قروض بلا فائدة من مدخرات البريد.
الإدارة التونسية بكل قطاعاتها في قبضة النقابة وتحت رحمتها ويعجز أي سياسي أن يواجه نفسه بهذه الحقيقة ويعلن ضرورة تحرير الإدارة من النقابة، وهذه معركة مؤجلة وكل تأجيل يزيد من قوة النقابة على الإدارة وعلى الدولة وعلى شعب مجبر على الاعتزاز بتاريخ حشّاد.
منظمة فوق النقد والمحاسبة
كلما حاول سياسي أو محلل أن يكتب في نقد المنظمة ودور قيادتها صادر النقابيون حقه في النقد بتذكيره بتاريخ المنظمة ووضعوا أمامه دورها التاريخي في معركة التحرر الوطني، ثم دمغوه بصورة فرحات حشاد المؤسس يخطب في الناس تحت شعار أحبك يا شعب، فيلجم كل نقد وكل إعادة نظر في الدور والمهام وخاصة بعد الثورة.
هذه الصورة وهذا الخطاب حول النقابة إلى وثن مقدس لا يمكن الاقتراب منه لذلك لم تخضع النقابة يومًا إلى محاسبة عمومية على أموالها وممتلكاتها وعلى علامات الإثراء الفاحش الذي يعيشه قياديوها.
مؤخرًا ارتفع صوتان يتيمان في وجه النقابة: صوت النائب بالبرلمان عماد الدائمي عن حزب الرئيس المرزوقي الذي تجرأ على النقابة فرفع دعاوى فساد لدى القطب القضائي وتبين أن ملفاته متينة، حيث وصلت الإجراءات إلى تحجير السفر على إداريين تحميهم النقابة في انتظار المحاكمة العلنية.
كل تحرك نقابي هو في جوهره تحرك يساري وقد انكشف هذا للناس بعد الثورة، فاليسار الذي لم يدخل البرلمان إلا بحجم ضئيل قام بأكبر تحركات احتجاجية وأشرسها في الإدارة وعطل وابتز الطبقة السياسية ونال مبتغاه باستعمال النقابة
وتكلم المرشح لمنصب الرئيس المحامي الشاب سيف الدين مخلوف فدعا إلى محاسبة النقابة وإخضاعها للمساءلة المالية على ممتلكاتها، وهو يقيم برنامجه الانتخابي على مقاومتها باعتبارها بؤرة فساد مالي وسياسي خربت كل المسار الثوري والانتقال الديمقراطي، وكانت ردود النقابة جاهزة فكل معترض على النقابة إرهابي يعمل مع داعش.
“حشاد ضد داعش” تحاول النقابة أن تسوق كل التونسيين إلى هذه الزاوية الضيقة فتصوغ الاعتراض عليها ضمن عمل الإرهاب الداعشي، وهي تهمة مخيفة وإن لم تقم عليها حجة أو دليل.
النقابة حزب سياسي
لعل البعض يسأل عن سر هذا الموقف وخاصة لمن لا يعرف الوضع السياسي التونسي من الداخل، فسر قوة النقابة هو تمترس التيارات اليسارية داخلها، فاليسار التونسي تيار غير شعبي ولا يملك أن ينجح في أي انتخابات جماهيرية لذلك ملكت النقابة منذ ما قبل الثورة ومنعت غيرها من الدخول عبر تزييف الانتخابات في المؤتمرات الفرعية ثم تصعيد وجوه متحزبة ومسيسة تدير المنظمة لصالح اليسار السياسي.
فكل تحرك نقابي هو في جوهره تحرك يساري وقد انكشف هذا للناس بعد الثورة، فاليسار الذي لم يدخل البرلمان إلا بحجم ضئيل قام بأكبر تحركات احتجاجية وأشرسها في الإدارة وعطل وابتز الطبقة السياسية ونال مبتغاه باستعمال النقابة، حتى إن بعض التفاوض بين الإدارة والنقابة يمر بقيادات اليسار قبل النقابة مثل إضرابات التعليم الثانوي والعالي.
من التواضع أن نعدل الصورة الزاهية عن المجتمع المدني التونسي الذي يراه آخرون خارج البلد تحت تأثير دعاية النقابة نفسها فيعتقدون أن الديمقراطية التونسية تتقدم بسلاسة في وضع خال من الصراعات
هذا الوضع التاريخي المشوه يعود إلى أول الثمانينيات حيث مكنت الدولة لليسار من النقابة لتستقوي به على مجابهة التيار الديني الناشئ المسيطر على الشارع وصار من التقاليد التونسية، لذلك عندما ندفع التحليل إلى أقصاه سنجد أن جوهر معركة تخريب الديمقراطية هي مواصلة لمعركة اليسار ضد الإسلاميين الذين فازوا بالسلطة في 2011 وبقوا فيها بعد ذلك كشركاء فاعلين.
لم تكن إضرابات ما بعد 2011 إضرابات مطلبية في جوهرها ولكن المطالب كانت ذرائع لمواجهة الإدارة التي يوشك الإسلاميون دخولها والاستقرار بها، ولم نر في كل هذه الفترة تحركات نقابية في القطاع الخاص حيث لا ينشغل اليسار بمطلبية الطبقة العاملة الحقيقية بل يستعمل فقط الإدارة العمومية للضغط على عمل الحكومات، وقد نجح في تعطيل كل المسار وحول الثورة إلى مطلبية استفاد منها الموظفون العموميون فقط، بينما اتسع فارق المداخيل مع القطاع الخاص بشكل منذر بشرخ اجتماعي لا يرتق.
لذلك فإنه من التواضع أن نعدل الصورة الزاهية عن المجتمع المدني التونسي الذي يراه آخرون خارج البلد تحت تأثير دعاية النقابة نفسها، فيعتقدون أن الديمقراطية التونسية تتقدم بسلاسة في وضع خال من الصراعات.
وجب أن نكتبها ونتحمل كلفتها، المجتمع المدني التونسي كذبة نقابية كبيرة وخديعة سياسية تروج للخارج بينما يعرف الداخل أن النقابات مثل روابط حقوق الإنسان هي مؤسسات سياسية مملوكة لتيارات معروفة تمارس من خلالها عملية ابتزاز متواصلة للدولة، وقد بدأ الوعي بهذه المغالطة يتسع وسيكون له أفق جديد، فضح الكذبة التونسية الكبيرة عن مجتمع مدني متطور يبني الديمقراطية المثالية.