بعد أسابيع من مماطلة الاحتلال في الالتزام ببنود المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وسلوك التلكؤ المستمر في المحطات المفصلية، خاصةً ما يتعلق بالالتزام بخرائط إعادة الانتشار وجدولها الزمني، والتنصل الكامل من البروتوكول الإنساني، أعلنت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، أنها قررت “تأجيل تسليم الأسرى الذين كان من المقرر الإفراج عنهم”، ما يعني تجميد الخطوات القادمة من الصفقة.
قرارُ القسام، الذي من الواضح أنه جاء بعد أن استنفدت المقاومة كل السبل لضمان التزام الاحتلال بتطبيق ما ورد في الاتفاق، استبق انطلاقَ مفاوضات “المرحلة الثانية” التي يماطل فيها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، كما حسم الرهانَ الإسرائيليَّ على إمكانية أن يتحول الواقع الحالي إلى وضع يُحصِّل الاحتلال من خلاله حريةَ الأسرى دون تقديم التزامات نوعية على الأرض.
يَفتح قرارُ المقاومةِ الباب مشرعًا أمام ما يمكن أن تَحمله الأيام القادمة من ضغوط ميدانية محتملة، وحراك سياسي، في مشهد إقليمي ودولي بات أكثر حساسية بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتكررة بشأن تهجير الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على أرضه، واستيعاب أهله وتوطينهم ضمن دول المنطقة.
اختراقات وتلكؤ ومماطلة
أكد أبو عبيدة، الناطق باسم الكتائب، أن قرار المقاومة قد حلَّ بعد أن “راقبت قيادة المقاومة خلال الأسابيع الثلاث الماضية انتهاكات الاحتلال وعدم التزامه ببنود الاتفاق؛ من تأخير عودة النازحين إلى شمال غزة، واستهدافهم بالقصف، وإطلاق النار في مختلف مناطق القطاع، وعدم إدخال مواد الإغاثة بكافة أشكالها بحسب ما اتفق عليه، في حين نفذت المقاومة كل ما عليها من التزامات”.
وعطفًا على كلام الناطق باسم القسام، شهدت الأسابيع المنصرمة من عمر التهدئة مناشدات شبه يومية من الجهات الحكومية، والمجتمع المدني في قطاع غزة، والمتحدثين السياسيين باسم القوى والفصائل الفلسطينية، تدعو إلى إلزام الاحتلال بتطبيق البروتوكول الإنساني على نحو الخصوص، تخفيفًا للكارثة الإنسانية الكبرى في القطاع الذي صُنفت كل مناطقه منكوبة.
ووفقًا لنص الاتفاق، تنص المرحلة الأولى من التهدئة على تنفيذ خطوات إنسانية عاجلة تهدف إلى تخفيف الأوضاع الكارثية في قطاع غزة، تشمل إعادة تأهيل البنية التحتية المتضررة، مثل الكهرباء والماء والصرف الصحي والاتصالات والطرق، وإدخال المعدات اللازمة للدفاع المدني وإزالة الركام. وكذلك توفير مستلزمات الإيواء للنازحين داخليًّا، بما في ذلك 60 ألف وحدة متنقلة “كرفانات” و200 ألف خيمة، والشروع في إعداد خطط إعادة الإعمار الشاملة للبيوت والمنشآت التي دُمرت في الحرب.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 20 يومًا على بدء التهدئة في 19 يناير/كانون الثاني المنصرم، أكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة تعمُّد الاحتلال الاسرائيلي المماطلة في تنفيذ بنود الاتفاق، ما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية في القطاع.
وأوضح رئيس المكتب، سلامة معروف، في مؤتمر صحفي، أن سلطات الاحتلال تتعمد تأخير إدخال المساعدات الإنسانية الضرورية، مشيرًا إلى أن حجم الشاحنات التي دخلت القطاع منذ بدء التهدئة بلغ 8,500 شاحنة فقط، بينما كان يُفترض إدخال 12 ألف شاحنة في هذه الفترة، وأن نسبة الخيام التي دخلت لم تتجاوز 10% من الاحتياجات المطلوبة، ولم تدخل أية وحدة متنقلة للإيواء حتى الآن، في تأخير يزيد معاناة آلاف الأسر الفلسطينية التي فقدت منازلها بسبب الحرب.
كذلك، ثمة عجز كبير في إمدادات الوقود الضرورية لتشغيل المستشفيات والمرافق العامة، إذ يدخل يوميًّا نحو 15 شاحنة فقط بدلًا من 50 ينص الاتفاق على إدخالها، ما يؤثر مباشرةً على القطاعات الحيوية والخدمات الأساسية، ويعمِّق أزمة الكهرباء ويهدد استمرارية الخدمات الصحية.
كما تواصل سلطات الاحتلال منع إدخال المعدات الضرورية، مثل مولدات الكهرباء، وألواح الطاقة الشمسية، وخزانات المياه، وقطع الغيار اللازمة لتشغيل البنية التحتية. وأشار معروف إلى أن مؤسسات دولية أبلغت الحكومة بغزة بأن “إسرائيل” تمنع التنسيق لإدخال المستلزمات الضرورية لإعادة ترميم شبكات المياه والصرف الصحي، خاصةً في شمالي القطاع.
كذلك، تتلكأ سلطات الاحتلال في إدخال الأجهزة الطبية والمعدات اللازمة لتشغيل المستشفيات الميدانية، ما يؤدي إلى وفاة المرضى والجرحى الذين لا يمكن علاجهم في ظل هذه الظروف.
معادلات النقاط
تمتعت المقاومة بضبط كبير للنفس طوال الأسابيع الثلاث التي التزمت فيها التزامًا كاملًا بتنفيذ الشق الخاص بها من الاتفاق، على الرغم من رصدها المستمر لخروقات الاحتلال التي حملت في أوقات كثيرة إشاراتٍ من الاحتلال إلى كونه صاحب الكلمة العليا، خصوصًا حين تعمَّد تأخير عودة النازحين وترك عشرات الآلاف منهم يفترشون الشوارع بانتظار الانسحاب من الشق الغربي بمحور “نيتساريم”.
حرصت المقاومة على تمرير الأسابيع الأولى، والدفعات الخمس من الأسرى المُطلَق سراحهم لعدة اعتبارات، تُمثِل في مجموعها نقاطًا من الربح الصافي في إطار مراكمة النجاحات وتعزيز الفشل الذريع لأهداف الاحتلال، وفقًا للأولويات التالية:
ضمان عودة النازحين: تُمثِّل الأسابيع الثلاثة الأولى الفترة التي ينص وفقها الاتفاق على عودة النازحين من جنوبي قطاع غزة إلى شماليه، وهو المطلب الذي تمترست المقاومة طويلًا أمام ضرورة تحقيقه في جولات المفاوضات، والذي يُفشِل في جوهره خطةَ الاحتلالِ الرئيسيةَ القاضيةَ بإفراغ الشمال من أهله، وتحويله إلى مساحة فاصلة يُمكن أن تكون عرضة لكل مخططات المناطق العازلة والاستيطان.
الانسحاب وتفكيك محور نيتساريم: يُشكِّل تفكيك الاحتلال أصوله ومنشأته في “نيتساريم”، والانسحاب إلى المناطق الشرقية، محطةً رئيسيةً تُعيد الوحدةَ الجغرافيةَ لأراضي القطاع، ما يُمثِّل مكسبًا عملياتيًّا، ومعنويًّا، وحسمًا للعديد من الطموحات الإسرائيلية باستمرار السيطرة الأمنية على القطاع.
تحرير أسرى المؤبدات: تضمنت الأسابيع الماضية من المرحلة الأولى إطلاقَ سراح الأسيرات المجندات في جيش الاحتلال، واللواتي يتضمن الاتفاق مقابل كل منهن إطلاق سراح 30 أسيرًا من أسرى المؤبدات، و20 من الأحكام العالية، ما يفسر إصرار القسام على أن تشمل الدفعات الأولى المجندات، لا بقية فئات المرحلة الأولى، كأولوية.
تسريح الاحتياط: على إثر خطط إعادة الانتشار، والانسحاب من “نيتساريم”، قرر جيش الاحتلال تقليص قوات الاحتياط في قطاع غزة، وأعلن تسريح فرقة الاحتياط 99 ولواء الاحتياط “هرئيل”، ما أوصل عديد الجيش إلى العدد الأقل من الفرق في القطاع وغلافه منذ بداية الحرب.
في مجموع المكاسب التي حققتها في الأسابيع الماضية، كسرت المقاومة العديد من خطوط الإنجاز التي راكمها الاحتلال على مدار أشهر الحرب الخمسة عشر، وأعادت ضبط المعادلات بما يحقق مراكمة نقاط التفوق، ما بات بحاجة لاستكمالٍ بضرورة تثبيت صمود الأهالي الذين عادوا إلى مناطق سكنهم المدمرة التي ليست فيها أية مقومات حياة، ما يستوجب التزام الاحتلال بالبرتوكول الإنساني، وخصوصًا إدخال الخيم والمنازل المؤقتة، وتأهيل البنية التحتية وإزالة الركام باستخدام المعدات والآليات، التي يمنع الاحتلال دخولها حتى الآن.
استباق المرحلة الثانية
وفقًا لنص الاتفاق، تبدأ الأطراف محادثات المرحلة الثانية عقب 16 يومًا على بدء المرحلة الأولى، التي تستمر 42 يومًا. وعلى الرغم من أن تفاصيل المرحلتين الثانية والثالثة ما تزال غير واضحة تمامًا، فالانتقال إلى المرحلة الثانية مرتبط بنجاح الأولى.
يُفترض أن تتضمن هذه المرحلة إطلاق سراح جميع الأسرى الأحياء لدى المقاومة، بمن فيهم الرجال دون الخمسين والجنود، مقابل انسحاب الاحتلال الكامل من غزة. وتشمل الإفراج الجماعي عن الأسرى الفلسطينيين، وتحقيق “هدوء مستدام” بين الأطراف.
في السياق ذاته، نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي عن مصادر مطلعة أن نتنياهو أبلغ مسؤولين أمريكيين أن الحرب في غزة قد تنتهي إذا جرى نفي قادة حماس. ووفقًا لمصادر إسرائيلية وأميركية، فقد طرح في لقاءاته في واشنطن خطة تتضمن إنهاء الحرب مقابل تنازل حماس عن السلطة ومغادرة قادتها إلى المنفى.
وأشار نتنياهو إلى أنه لا يرى مسارًا مستقبليًّا لغزة بعد الحرب طالما أن حماس تسيطر على القطاع. واقترح أن هذا السيناريو قد يفتح المجال لـ”خطة ما بعد الحرب”، التي قد تشمل دورًا أمريكيًّا مباشرًا، تحت إدارة ترامب.
ونقلت صحيفة “هآرتس” عن مصدر إسرائيلي أن نتنياهو لن يمضي قدمًا في المرحلة الثانية من اتفاق غزة طالما أن حماس ما تزال في القطاع، وأن “إسرائيل” لن تسحب قواتها من محور فيلادلفيا ولن تستمر في إجراءات التهدئة في ظل بقاء الحركة، وألمح إلى أن نتنياهو قد يلجأ إلى العودة إلى الحرب أو تمديد المرحلة الأولى من صفقة وقف إطلاق النار.
بادرت المقاومة إلى اتخاذ خطوتها بتجميد عمليات إطلاق سراح الأسرى، في إطار الحسم المسبق لرهانات الاحتلال على المماطلة في مفاوضات المرحلة الثانية، خصوصًا مع مضي الموعد المفترض لانطلاق المفاوضات رسميًّا، والإشارات الواضحة حول الاشتراطات الجديدة التي لا يمكن أن تقبلها حماس، والتي ليست واردة ضمن نصوص الاتفاق.
وهو التقدير الذي اتفق معه رئيسُ شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق، تامير هايمان، باعتباره أن “إعلان حماس نتيجة تقديرها بأن إسرائيل غير معنية بالمرحلة الثانية للصفقة”.
سيناريوهات
يفتح قرار المقاومة الباب أمام سيناريوهات متعددة تحملها الأيام القادمة، ففي الوقت الذي أعطت فيه المقاومةُ الوسطاءَ المساحة اللازمة من الوقت للتحرك والضغط على الاحتلال قبل الموعد المفترَض لإطلاق سراح الأسرى –يوم السبت-، فإنها تؤكد أيضًا أنها قد وصلت كفايتها من تغليب الصبر على تجاوزات الاحتلال ومماطلته، خصوصًا بعد أن غادر الوفد الإسرائيلي الفني العاصمة القطرية الدوحة عائدًا إلى “تل أبيب” حاملًا معه الملاحظات الواضحة والصريحة التي قدمها الوسطاء حول بنود المرحلة الأولى.
السيناريو الأول: نجاح الوسطاء في احتواء التوتر: وفقًا لهذا السيناريو سينجح الوسطاء في احتواء مشهد التوتر الحالي، على غرار نجاحهم سابقًا في احتواء التوتر الذي نتج عن إصرار الاحتلال على إطلاق سراح الأسيرة أربيل يهود والتوصل إلى صيغة لإطلاق سراحها والتزام الاحتلال بعودة النازحين إلى شمالي قطاع غزة. يرتبط نجاح هذا السيناريو بأوراق الضغط الموجودة على رئيس وزراء الاحتلال بأبعادها المختلفة، الداخلية والإقليمية والدولية.
السيناريو الثاني: جولة اشتباك سريعة: يمكن أن يؤدي الوصول إلى موعد إطلاق سراح الدفعة الجديدة من الأسرى دون التوصل إلى صيغة اتفاق إلى نشوب جولة اشتباك محدودة وسريعة، يمكن أن يعود الاحتلال وفقها إلى فرض سيطرته بالنيران على محور “نيتساريم” ويمنع الحركة من جنوبي القطاع إلى شماليه عبر غارات تستهدف النازحين، إضافةً إلى مجموعة عمليات استهداف جوي. وفي هذه الحالة سيكون جوهرُ هذا الاشتباكِ الأساسيُّ “تحريكيًّا،” لا عودةً لزخم الحرب.
السيناريو الثالث: عودة الحرب بزخمها العدواني الكبير، وفي هذا السيناريو قد يجد الاحتلال في قرار المقاومة مبررًا للتنصل من اتفاق التهدئة، والعودة إلى الحرب بكل قوتها، تحت الضغوط الكبيرة التي يمارسها قادة اليمين، خاصةً وزير المالية بتسلئيل سموتريتش. ويبدو هذا السيناريو ضعيفًا لأنه سيَحمل بين طياته الحُكمَ بالمصير المجهول على ما تبقَّى من أسرى الاحتلال، ويتعارض مع الرغبة الأمريكية الجادة باستكمال اتفاق التهدئة وتبادل الأسرى.
تتراوح الترجيحات ما بين السيناريو الأول والثاني، مع ميل أكبر إلى الأول ونجاح الوسطاء في احتواء الأزمة الحالية، خصوصًا أن الجزء الإنساني من الاتفاق وحق الشعب الفلسطيني في الحصول على المساعدة اللازمة لإعادة مقومات حياتهم يُمثِّل عنوانَ إجماع دولي، ومطلبًا فلسطينيًّا أخلاقيًّا، ما سيُساهم في زيادة الضغوط على الاحتلال للالتزام بتطبيقه.