يجد محمد عبد الرحمن (50 عامًا) صعوبة في توفير مياه الشرب والاستخدامات الشخصية لعائلته المكونة من 7 أشخاص نتيجة توقف خدمة المياه النظيفة المعقمة التي كانت تصل إلى موقع خيمته ضمن تجمع مخيمات قاح في ريف محافظة إدلب شمال غربي سوريا.
كانت عائلة محمد تحصل على حاجتها من المياه بشكل مجاني، حيث ينقل مزودون محليون المياه عبر صهاريج خاضعة لتقنيات نظافة وصلاحية الاستخدام، يملئ منها الخزان الخاص به مرتين أسبوعيًا، بدعم من منظمات إنسانية.
تسبب توقف دعم المياه والإصحاح الذي تقدمه منظمات إنسانية تحت مسمى مشاريع “الواش”، عن مخيم قاح في اضطرار النازحين إلى شراء مياه الشرب من الصهاريج، بكلفة مالية عالية، “يصل سعر الخزان (5 براميل) نحو 100 ليرة تركية، (تعادل 3.10 دولارًا أمريكيًا)، أدفعها مرتين أسبوعيًا، وتزيد الكلفة كلما بعدت المسافة بسبب ارتفاع أسعار المحروقات”، يقول محمد عبد الرحمن.
ويضيف أنه يعمل في المهن الحرة “المياومة”، حيث تتراوح أجورها بين 100 و150 ليرة تركية في حال حصل على عمل، لأنها غير دائمة، وهذا المبلغ لا يسد كامل احتياجات عائلته المعيشية، لتشكل مسألة الحصول على المياه عبئًا إضافيًا، فضلًا عن الضرر الصحي الناتج عن تلوث المياه أثناء نقلها، ومخاطر قرب آبار المياه الزراعية من قنوات وحفر الصرف الصحي.
محمد وآلاف العائلات النازحة من معرة النعمان وتسكن في مخيمات على الحدود السورية – التركية لم تستطيع العودة إلى منازلهم في قرى وبلدات ريف حلب وإدلب، بعد سقوط النظام السابق، نتيجة تعرضها للدمار، وضيق أحوالهم المادية التي لا تساعدهم على تحمل نفقات المعيشة لذلك فضلوا البقاء في المخيمات، إلا أن المعاناة تضاعفت بسبب توقف مشاريع المياه والإصحاح.
وفي 31 يناير/كانون الثاني الماضي أوقفت منظمة أكتد خدمات الواش والفود خلال كتاب موجه إلى الإدارة العامة للشؤون الإنسانية في معبر باب الهوى، بسبب تجميد المساعدات التنموية الأمريكية، وتشمل خدمات (تزويد المياه للمخيمات وترحيل القمامة وشفط الجور الفنية).
خدمات الواش هي مشاريع متعلقة البنية التحتية تتضمن المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية، بما في ذلك إعادة تأهيل محطات الضخ وأنظمة المياه ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي ودعم أساليب الوقاية من الأمراض المنقولة عبر المياه.
وتقدر الأمم المتحدة أحقية الفرد في الحصول على كفايته من المياه للاستخدام الشخصي والمنزلي من 50 إلى 100 لتر من الماء يوميًا، على أن تكون مأمونة وبأثمان معقولة ولا تزيد تكلفة المياه عن 3 % من مجمل الدخل الأسري، وأن تكون متاحة مكاناً وزماناً ولا تبعد أكثر من (1000) متر من المنزل، ولا يستغرق الحصول عليها أكثر من (30) دقيقة.
تجميد المساعدات الأمريكية
تسبب تجميد المساعدات التنموية عن المنظمات الإنسانية في حرمان آلاف العائلات النازحة والمهجرة في مناطق الشمال السوري من الحصول على الخدمات الأساسية في مجالات متعددة كالمأوى والمياه والإصحاح، والتعافي المبكر، والتعليم والصحة.
في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، أصدر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قرارًا تنفيذيًا، يقضي بإغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية “يو إس آيد” (USAID) ووقف نشاطها في الداخل والخارج، وتسريح ما يصل إلى مليوني موظف فدرالي، وهو ما يعني وقف جميع المساعدات الأمريكية الإنمائية في مختلف أنحاء دول العالم، بشكل مؤقت، لمدة 90 يومًا، بذريعة “مراجعة الكفاءة والاتساق مع سياسة الخارجية الأمريكية”، واستثني من هذا القرار مصر والاحتلال الإسرائيلي.
تعتبر سوريا واحدة من أبرز البلدان المتضررة جراء قرار الرئيس الأمريكي في وقف المساعدات الذي أدى إلى توقف المشاريع الإغاثية التي تمولها الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID) عبر برنامج مكتب تنسيق المساعدات (BHA)، بالشراكة مع منظمات سورية غير حكومية، تقدم مساعدات إنسانية للفئات الاجتماعية الضعيفة في مناطق شمال غربي سوريا وشمال شرقي سوريا.
ومنها منظمة الدفاع المدني السوري، والمؤسسة السورية للأطراف الصناعية وإعادة التأهيل، وهيئة الإغاثة الإنسانية، ومنظمة شفق، ومنظمة أكتد، وريليف إنترناشيونال، ومنظمة تكافل الشام، سكيورتي، وورد فيجن، الجمعية الطبية السورية الأمريكية (SAMS)، أطباء حول العالم (DDD)، بلومنت الدولية، و(Mercy Corps) و(CARE) و(save the children).
كما تدعم واشنطن مشاريع متعددة المجالات إلى جانب دعم المنظمات الإنسانية الفاعلة في تقديم الإغاثة، وتمتد إلى منظمات تعنى في بناء القدرات ودعم المجتمعات المدنية، وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتعزيز العدالة والمساءلة، فضلًا عن دعم الإعلام المستقل.
ومن المنظمات الحقوقية “منظمة النساء الآن من أجل التنمية”، التي تقدم الدعم النفسي والاجتماعي للناجين من الاعتقال، كما توجه الدعم أيضًا ضمن ست مجموعات، رابطة عائلات قيصر، ورابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا، وعائلات من أجل الحرية، ومسار، فضلًا عن دعم وسائل إعلام، حلب اليوم، راديو الكل، راديو إذاعة وطن، راديو بيسان إف أم، ومنصة تأكد.
توقف مشاريع حيوية
اضطرت المنظمات الإنسانية والإغاثية العاملة في الشمال السوري إلى تعليق مشاريع التنمية، وتقليصه دعمها لمشاريع الاستجابة الطارئة جراء قرار واشنطن في تجميد المساعدات الأمريكية، فضلًا عن تخفيض أعداد الموظفين والكوادر البشرية، بسبب حالة عدم اليقين من عودة الدعم بعد انقضاء فترة التجميد التي تمتد إلى ثلاثة أشهر أو الحصول على استئناف للعمل.
وتضررت منظمة الدفاع المدني السوري جراء قرار تجميد المساعدات الأمريكية، التي كانت تساهم في جهود إنقاذ الأرواح، من خلال الاستجابة للطوارئ وعمليات البحث والإنقاذ، والإسعاف والخدمات الطبية، وإزالة مخلفات الحرب، فضلًا عن دعم برنامج العدالة والمساءلة لتوثيق الفظائع، حسب مدير البرامج الرئيسي في الدفاع المدني السوري، أحمد قزيز.
بينما علقت المؤسسة السورية للأطراف الصناعية وإعادة التأهيل (NSPPL) العمل في مراكزها المنتشرة ضمن مناطق عفرين والباب وجرابلس في ريف حلب الشمالي، بعدما تبلغت في 29 يناير/كانون الثاني، إيقاف المنحة نتيجة تجميد المساعدات الأمريكية.
ويستفيد من مراكز مؤسسة (NSPPL) ذوي البتر من خلال تقديم الأطراف والجبائر، والعلاج الفيزيائي والدعم النفسي والدعم المجتمعي ضمن مشاريع سبل العيش لذوي شلل الأطراف، والشلل النصفي، والشلل الشقي.
وأكد مسؤول المشاريع، الدكتور جمال التلاوي، أن توقف المنحة بسبب تجميد المساعدات الأمريكية، تسبب في إيقاف العمل في صناعة الأطراف الصناعية لـ 130 مستفيدًا ضمن مراكز عفرين، الباب، جرابلس، رغم توفر المواد اللازمة، إلا أنها تمر بجلسات إعادة تأهيل، وتصنيع وتركيب أطراف تصل إلى 6 أشهر، وتحتاج إلى كلفة تشغيلية للكوادر.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: “تبلغنا بإيقاف المنحة دون الحصول على الكلفة التشغيلية للشهر الأول من عام 2025 ما تسبب في كسر مالي نتيجة الفواتير والمصاريف التشغيلية السابقة”، وأضاف، إن مراكز (NSPPL) هي الوحيدة في الشمال السوري وتوفر الخبرات اللازمة من فنين وكوادر يعملون في صناعة الأطراف، وتقدم خدمات لذوي الإعاقة، لكن عدم وجود تغطية للكلفة التشغيلية تسبب في إغلاقها.
وعن البدائل، أوضح، أنهم يجرون اتصالات مع مانحين آخرين لاستئناف أو الحصول على الكلفة التشغيلية لمدة ستة أشهر بهدف حصول المستفيدين المسجلين بالمراكز على الأطراف الصناعية، لكن إلى الآن لم يحصلوا على أية وعود من مانحين جدد.
ووفرت مراكز (NSPPL) خلال عام 2024، نحو 727 جهاز تقويم (للرأس، AFO، KAFO)، و202 طرف سفلي، و6 أطراف علوية، إضافة إلى صيانة 196 طرف صناعي، بينما بلغ عدد المستفيدين من الأجهزة الحركية 504 أطفال، و133 أنثى، و543 ذكر، بينما وفرت 19224جلسة إعادة تأهيل فيزيائي ونفسي، استفادة منها 1640 مستفيد ذوي إعاقة حركية.
بينما تبلغت إدارة مشفى باب الهوى على الحدود السورية – التركية، توقف الدعم المقدم من الجمعية الطبية السورية الأمريكية (سامز)، ما تسبب في إيقاف كامل الخدمات الطبية والصحية التخصصية الباردة، في حين، استثنى العمل في الأقسام الإسعافية للحالات الطارئة فقط.
يعد مشفى باب الهوى من أكبر المستشفيات العاملة في مناطق شمال غربي سوريا، ويحتوي على أقسام نوعية تتخصص في علاج أمراض الأورام، وغسيل الكلى، والعنايات المشددة، ويخدم آلاف المراجعين شهريًا في منطقة مكتظة بالنازحين والمهجرين حيث تصل العمليات الجراحية إلى 1200 عملية شهريًا بين باردة وإسعافية.
كما علقت منظمة بلومنت الدولية التي تخدم مخيمي الهول وروج محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا عملها، حيث كانت تقدم المساعدات الغذائية والطبية واللباس والفرش والتدفئة وغيرها من الخدمات الأساسية لقاطني المخيمات ومراكز الإيواء المؤقتة.
استثناءات محدودة
بينما أكد مدير موقع إدلب في منظمة تكافل الشام، منظمة سورية غير حكومية، عبد الخالق الحلي، أن معظم مشاريع برنامج BHA)) المدعومة من قبل وكالة التنمية الأمريكية توقفت عن العمل لدى المنظمات الإنسانية العاملة في الشمال السوري.
وأوضح خلال حديثه لـ “نون بوست”، أن المشاريع كانت تشمل قطاع التعافي المبكر، التي تتضمن منح توسعة المشاريع الصغيرة، دعم مشاريع الصغيرة، إضاءة شوارع، تعبيد شوارع، ترميم أسواق، إضافة إلى مشاريع الواش، التي تتعلق في المياه والصرف الصحي، والنظافة، ومشاريع الفود التي تتعلق في دعم السلل الغذائية والقسائم والسلل الطبية والنظافة.
ويضيف، أن بعد إيقاف الدعم سمح برنامج (BHA) للمنظمات الإنسانية رفع استثناءات في المشاريع التي تهدد الحياة فقط، مثل مشاريع الووش والفود والحماية التي تندرج ضمن المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، وبذلك ألغيت مشاريع التعافي المبكر، مشيرًا، إلى أن البرنامج لم يوافق على طلبات الاستثناء التي رفعتها جميع المنظمات.
وجاء ذلك بعدما أعلن وزير خارجية الولايات المتحدة، ماركو روبيو، في 29 يناير/كانون الثاني، عن استثناء يشمل المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، لأن التجميد أدى ترك المنظمات العاملة على الأرض في حالة فوضى، ما عطل توفير الغذاء والمياه والرعاية الصحية لملايين الأشخاص، ما يشير إلى أن الاستثناءات لا تشمل ملفي التعليم والصحة.
تأثيرات مباشرة على السوريين
رغم الاستثناءات التي أتاحها برنامج (BHA) لا تزال مخاوف توقف الدعم مستمرة خاصة أن عدد من المنظمات لم تحصل على الموافقة في المشاريع المهمة المرتبطة بحياة الإنسان، كما أن فجوة الاحتياجات تزداد مع مرور الوقت خلال الفترة القادمة ما يترتب عليها أثار مباشرة على حياة السوريين.
واعتبر مدير البرامج الرئيسي في الدفاع المدني السوري، أحمد قزيز، أن قرار تجميد المساعدات جاء في وقت يحتاج فيه السوريون إلى دعم أكثر من أي وقت مضى بسبب التغيرات السياسية على الأرض وما تبعها من بدء عودة لجزء من المهجرين والنازحين إلى منازلهم.
وتابع، أن تجميد التمويل يؤدي إلى تراجع الاستجابة للطوارئ، وتعطيل إزالة الذخائر غير المنفجرة، وتعريض حياة ملايين من الأسر النازحة العائدة إلى ديارها بعد سقوط نظام الأسد للخطر، وتراجع كبير في الخدمات الطبية والأعمال الخدمية والإصحاح، وتقويض جهود العدالة لمحاسبة مجرمي الحرب بشكل خطير.
وتابع، أن السوريون يقفون عند منعطف تاريخي محوري، وأي خطوة خاطئة قد تكون لها عواقب وخيمة على مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحث على ضرورة التحرك بسرعة لاستمرار دعم حماية الأرواح والحفاظ على العدالة والتمسك بالتزامها بقيادة الاستجابة الإنسانية عالميًا، ومساعدة المجتمعات في مواجهة تحديات الحرب والكوارث.
في حين، اعتبرت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، في تقريرها الصادر في 7 فبراير/شباط الجاري، أن تعليق الحكومة الأمريكية مساعداتها للمنظمات في مخيمي الهول وروج شمال شرقي سوريا، فاقم الظروف المهددة للحياة، بسبب التأثير الفوري المحسوس على جميع جوانب الاستجابة، في تسليم المنظمات للسلع الأساسية.
وتعد واشنطن واحدة من أبرز الدول المانحة للمساعدات الإنسانية في سوريا، حيث منحت مساعدات ما يقارب 400 مليون دولارًا أمريكيًا، ما يشكل نحو ربع التمويل الدولي المنفذ خلال عام 2024، الذي بلغ نحو 1.5 مليار دولارًا أمريكيًا فقط، وهو ثلث قيمة خطة تمويل الاستجابة الدولية التي قدرتها الأمم المتحدة بـ 4.1 مليارًا دولارًا أمريكيًا.
وتزامن قرار تجميد المساعدات مع تراجع التمويل الدولي ضمن خطة الاستجابة لعام 2025، والتي بلغت نحو 1.24 مليار دولارًا أمريكيًا والتي تعادل ثلث الاستجابة المخصصة لعام 2024؛ وفي مقارنتها مع التمويل المنفذ فإنها انخفضت إلى ربع مليون دولارًا أمريكيًا عن العام الماضي، الذي شهد تراجع في مستوى المساعدات المقدمة للسوريين.
يهدد تجميد المساعدات الأمريكية مع تراجع التمويل الدولي للمساعدات الإنسانية 90 % من المجتمعات السورية التي تحتاج إلى المساعدات حسب الأمم المتحدة، مع استمرار تدهور الأوضاع المعيشية، وصعوبة عودة النازحين والمهجرين إلى منازلهم بعد سقوط النظام السابق، بسبب دمار المنازل والبنية التحتية، والمرافق العامة الخدمية، ما يتسبب في تفاقم الأزمات الإنسانية في البلاد.