ترجمة وتحرير: نون بوست
اتخذ كل من ديفيد لويد جورج وديفيد كاميرون قرارات غيّرت مسار التاريخ، رُغم المئة سنة الفاصلة بين فترة تولي كل منهما لمنصب رئاسة الوزراء في بريطانيا. من جهته، أعلن ديفيد كاميرون سنة 2015 عن اتخاذ قرار تنظيم استفتاء بغية كسب تأييد أعضاء حزب استقلال المملكة المتحدة، وهو حزب سياسي قومي هش. أما ديفيد لويد جورج، فقد قدم فلسطين سنة 1917 لتصبح “وطنا قوميا للشعب اليهودي” بهدف الفوز بتأييد الحركة الصهيونية، وهي حركة سياسية وطنية تمثل أقلية هشة. اتسم كل من لويد جورج وكاميرون بالنظرة الضيقة والإهمال، بالإضافة إلى الحنكة التي لم توظف بالطريقة الصحيحة.
في البداية، أيد لويد جورج الصهيونية من خلال إعلان بلفور الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، كتدبير حربي يهدف إلى إقناع اليهود في روسيا والولايات المتحدة الأمريكية بمضاعفة دعمهم لجهود الحلفاء الحربية، ولكن لم يفض دعم الصهيونية في النهاية إلى إحداث أي فرق بالنسبة إلى قضية الحلفاء. وقد قرر لويد جورج في الفترة التي تلت سنة 1918 عدم الإخلاف بهذا الوعد، ودمج إعلان بلفور ضمن مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين. كان تمرير هذا القرار الذي يهدف إلى الإبقاء على هذا الالتزام في وقت السلم أشد دلالة من إصداره خلال الحرب.
كانت أهم الانتقادات التي تعرض لها التزام لويد جورج في فترة ما بعد الحرب تجاه الصهيونية مواجهته لكافة الحقائق والحجج والتنبؤات التي حذرت من هذه الخطوة قبل سنة 1922، أي في بداية مشروع الانتداب. وفي هذا السياق، توقع إدوين مونتاجو، العضو اليهودي الوحيد في الحكومة، في آب/ أغسطس من سنة 1917 نتيجتين محتملتين: “عندما تخبر اليهود أن فلسطين هي وطنهم القومي… ستبدأ مجموعة من السكان في فلسطين بطرد سكانها الحاليين، مع ضم الأفضل إلى البلاد. في هذه الأثناء، سيعامل اليهود فيما بعد كأجانب في كل بلد ما عدا فلسطين”. وقد أقرّ مونتاجو بأن الصهيونية هي “عقيدة مؤذية”، ولكن جرى إهمال مخاوفه التي عبر عنها ووضعت جانبا.
ديفيد لويد جورج (1863-1945) – رئيس الوزراء البريطاني في الفترة التي امتدت بين سنة 1916 و1922
أجرى اثنان من الأمريكيين البارزين، هنري كينج وتشارلز كرين، تحقيقا في فلسطين لصالح صانعي السلام في باريس. وقد ذكرا أن “السكان غير اليهود في فلسطين، الذين يمثلون ما يقرب تسعة أعشار، يعارضون بشدة البرنامج الصهيوني بأكمله”. كما أن “أي ضابط بريطاني استشاره المفوضون أكد أن البرنامج الصهيوني ليس قابلا للتنفيذ إلا بقوة السلاح. وعوضا عن ذلك، سيزيد من حدة الصهيونية التي ستلاقي مصيرا شبيها بمعاداة اليهود في فلسطين وفي كل أجزاء العالم الأخرى”. لكن هذا التقرير لم يلق أي اهتمام في النهاية.
لكن هذا لم يكن مشروع الخوف. لقد ثار العرب ضد الحكم البريطاني وسط ارتفاع معدلات الهجرة اليهودية سنة 1936. وفي العام التالي، قدّم تقرير لجنة التحقيق التي ترأسها اللورد بيل استنتاجات غامضة، عمد من خلالها إلى التأكيد على مدى مأساوية كل من تنبؤات مونتاجو وتقرير كينج وكرين، وآخرين تنبؤوا بسيناريو مماثل لما حدث في أيرلندا. إن الاعتقاد بأن الالتزامات التي تعهد بها تجاه العرب واليهود على حد سواء ستثبت بمرور الوقت أنها متوافقة فيما بينها… لم يقع تبريره”، وقد نشب صراع تعذر كبحه بين مجتمعين محليين’ ولم يكن هناك “أمل في حل وسط”.
كانت عواقب سياسة لويد جورج غير المدروسة كارثية على مستوى الإمبراطورية البريطانية وعلى الشرق الأوسط على المدى الطويل. لقد نجحت في عزل العرب داخل فلسطين وخارجها في الوقت المناسب، وساعدت الصهاينة الذين ساهمت ميليشياتهم أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها في إجبار البريطانيين على المغادرة.
بحلول أواخر ثلاثينيات القرن الماضي كان مستقبل فلسطين، التي أصبحت الآن دولة يستعصي فرض الحكم فيها، أكثر غموضًا من ذي قبل. وقدم البريطانيون في المقابل استراتيجيتين متناقضتين للخروج من هذا الوضع يتمثلان في مقترح “حل الدولتين” عن طريق التقسيم سنة 1937 و”حل الدولة الواحدة” سنة 1939. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحدوث مجزرة المحرقة، اختارت الأمم المتحدة أن تعتمد الحل الأول، لكن لم يكن أي هذين الحلين قابلا للتطبيق بعد مرور أكثر من 70 سنة على تأسيس دولة إسرائيل في فلسطين التي شهدت انقساما عميقا خلفته الإمبراطورية البريطانية.
الثورة العربية: الانتقام البريطاني في جنين 1938 سنة.
كان لويد جورج محظوظًا بسبب السمعة التي حظي بها بعد وفاته، حيث أقيم على شرفه معرض احتفالي بالمكتبة الوطنية في ويلز سنة 1914 أطلق عليه اسم “لويد جورج: الساحر، الأفضل على الإطلاق، الرجل الذي ربح الحرب”. وعلى نطاق واسع، لم يقرّ أحدٌ بأنه تسبب في اضطرابات دائمة في الشرق الأوسط. أحسن هذا الرجل “ارتجال الكلام والسياسة” وتجاهل الحقائق المزعجة، ويبدو أن ما كان يدفعه هو حبه للعهد القديم، ورؤيته تجاه اليهود التي جمعت بين العاطفة ومعاداة السامية (من خلال تصويره لإدوين مونتاجو بأنه “جبان قذر كما يصنف عادة الرجال من بني جنسه”). لقد كان يبغض الفرنسيين وتنتابه مشاعر تنافسية غير منطقية تجاههم. كان يتمتع أيضا بشخصية جذابة، كما أعجب بشخصيات أخرى لا سيما حاييم وايزمان، الناطق الرسمي باسم للقضية الصهيونية الذي لا يقاوم (وأدولف هتلر فيما بعد).
ساهم تفكير لويد جورج الرغبوي في تعزيز موقفه، وعلى الرغم من أنه كان محقًا في أن رأس المال والمشاريع اليهودية ستساهم في تمويل الإدارة البريطانية، إلا أنه ارتكب خطأ كبيرًا عندما اعتقد أن السكان سوف يرحبون باليهود المهاجرين نظرا للازدهار الذي رافقهم. فشلت توقعات الساحر، سواء تلك التي ارتبطت بالحنكة السياسية أو بالتصور العاطفي، في تقدير ردة فعل الأغلبية العربية الفلسطينية المقيمة تجاه موافقة بريطانيا على استعمار الصهاينة لبلدهم. كان ينبغي على جميع رجال الدولة الذين لحقوه أن يتعلموا من ماضيه ويأخذوا الواقع بعين الاعتبار قبل التدخل في شؤون البلدان والشعوب البعيدة.
إن فشل ديفيد كاميرون ونظرته الضيقة للأمور مشابهة لسلفه لويد جورج. ففي حين أن لويد جورج تسبب في انقسام دائم في أرض بعيدة، نتج عن قرار كاميرون انقسام عميق بالفعل في منطقته على الرغم من أن الوقت مازال مبكرا لنا كي نعرف كيف سينتهي الأمر بسمعة كاميرون.
المصدر: أوبن ديمكراسي