مفاجأة كبرى، فجرها موقع ياهو الشهير الذي قد يعود للحياة على مدار الأسابيع المقبلة، بعد تراجع طويل، بعدما كشف ضربة دولية كبرى وُجهت للمشروع النووي الإيراني في مفاعل ناتانز النووي الأكبر في البلاد وأحدثت فيه خرابًا شديدًا، باستخدام فيرس خطير يسمى “ستكوسانت”، تولى دسه مهندس إيراني عميل بجهاز التجسس الهولندي “AIVD” الذي نجحت “إسرائيل” في تجنيده، بدعم كامل من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA“.
القصة المثيرة لياهو، كشفت تفاصيلًا تحكى لأول مرة، في ظل صمت تام من جميع وسائل الإعلام الإيرانية التي لم تعقب عليه حتى الآن، وحددت توقيت الهجوم الرقمي على المشروع النووي الذي بدأ عام 2007 بعملية مخابراتية أطلق عليها “ألعاب أولمبية”، بتعاون تام بين أجهزة التجسس والأمن الأمريكية و”إسرائيل”، وشملت الموساد والوحدة 8200 وCIA وNSA، وحصلت هذه الأجهزة على مساعدات من ثلاث دول أخرى، هي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ومسمى العملية مقصود بعناية، لأنه يشمل الحلقات الخمسة التي تمثل الألعاب الدولية الشهيرة.
طرح التقرير تفاصيل اللعبة الدولية لمعالجة قضايا الشرق الأوسط، فالضربة المزعومة كانت تهدف لتعطيل المشروع النووي الإيراني، وليس تدميره بشكل تام، حتى يتسنى لهم إجبار إيران مكتوفة الأيدي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، في وقت تتعرض فيه لهجوم سيبراني قاتل، وأمامها قوى عالمية عدة، تشهر في وجهها سكاكين من كل اتجاه، عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وسياسية.
كيف دخلت هولندا إلى هذا المسرح؟ وما علاقتها أصلًا بالقضية؟ الإجابة ستتكشف تباعًا، إذا عرفنا أن هولندا كانت تمتلك في هذا التوقيت، مجموعة معلومات استخبارية خطيرة، بشأن نشاطات إيران لشراء عتاد من أوروبا لمشروعها النووي، وبالتبعية توافرت لها معلومات عن دوائر الطرد المركزية في مفاعل ناتانز الإيراني الشهير، حيث كانت التصاميم الخاصة به مملوكة بالأساس لإحدى الشركات الهولندية، واستحوذ عليها بطريقة أو بأخرى، العالم الباكستاني عبد القدير خان، مصمم المشروع النووي الباكستاني، في سبعينيات القرن الماضي، وبدوره باع هذه المعلومات لاحقًا إلى دول أخرى، بينها إيران وليبيا، طبقًا لـ “ياهو”.
المثير في القضية أن الفيروس المذكور، لا تتوافر عنه أي معلومات كافية، لا بالإنجليزية أو الهولندية أو الفارسية، فقط معلومات ضئيلة، تشير إلى أنه فيروس صمم وصنع في مجال برامج التجسس لتخريب المنشآت النووية، واستخدم لأول مرة في تدمير نظام برمجيات منشأة ناتانز النووية الإيرانية التي كانت وما زالت أشبه بالقلعة الحصينة، إذ يتميز المفاعل بدرجة عالية من الرقابة الأمنية، ولم يكن آنذاك متصلًا بشبكة الويب العالمية، وبالتالي كان مستحيلًا الوصول إلى برنامجه خارجيًا، والطريقة الوحيدة الممكنة لضربه هي “اختراقه ميدانيًا”.
وبالفعل، نجحت الاستخبارات الهولندية والأمريكية والبريطانية، من خلال الفيروس في اختراق شبكات التزويد الخاصة لعبد القدير خان في أوروبا، وكانت صاحبة الدور الرئيسي في بناء المشروع النووي في إيران وليبيا، ويمكن تأريخ هذه العملية باعتبارها بداية عصر الاختراق السيبراني الذي أضاف أبعادًا جديدة في عالم التجسس.
المشروع الإيراني، رصد من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بجانب دول غربية أخرى كانت تراقب المفاعل في سرية تامة
لماذا مفاعل ناتانز تحديدًا؟
عام 1996، كانت إيران تسير بخطى متسارعة لتطوير مشروعها النووي، فاشترت معلومات ومركبات لإنتاج دوائر الطرد المركزية من عبد القدير خان الباكستاني، وخلال 4 أعوام فقط بدأت بإقامة مفاعل ناتانز، وخططت لإقامة 50 ألف دائرة طرد مركزية لتخصيب اليورانيوم.
المشروع الإيراني، رصد من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بجانب دول غربية أخرى كانت ترقب المفاعل في سرية تامة، واستطاعت الاستخبارات الهولنية بعد أشهر قليلة من العمل على المفاعل، اختراق شبكة الرسائل الإلكترونية لإحدى أكبر المنظمات الأمنية الإيرانية المركزية، وحصلت بالفعل على معلومات خطيرة عن المشروع النووي الإيراني، بعدما استغلت استسلام معمر القذافي، إثر ضغوط شرسة، وتلويح باجتياحه، على تفكيك المشروع النووي لليبيا، مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
التنازل الليبي عن كل مركبات وأجهزة مشروع القذافي النووي، نقلها جميعًا إلى المختبر الدولي “أوك ريدج” في ولاية تينيسي الأمريكية، وإلى منشأة أخرى في “إسرائيل”، ومن خلال هذه المركبات، استطاعت أجهزة الاستخبارات تحديد الوقت الذي ستحتاجه إيران لتخصيب ما يكفي من اليورانيوم لإنتاج قنبلة نووية، وعندئذ ولدت فكرة تخريب دوائر الطرد المركزية، وتم الاتفاق على تكليف العميل الإيراني لوكالة التجسس الهولندية في إيران بالمهمة.
دشن الجاسوس شركات وهمية لأنشطة خدمية على علاقة بمفاعل ناتانز، تمكنه من اختراق السرية والإجراءات الأمنية الشرسة المفروضة على المفاعل
على جانب آخر، مع ظهور مؤشرات على نجاح العميل الإيراني، كانت أجهزة الاستخبارت الدولية تخطط لضرب النظام الإيراني بطريقة أخرى، فأعطت الفرصة لبعض المعارضين الإيرانيين، لتسجيل أهداف بالجملة في مرمى النظام، وعقدت لهم مؤتمرًا صحفيًا في واشنطن، لكشف ما يخطط له النظام الحاكم، بما قد يضع البلاد تحت رحمة العقوبات الدولية، وبالفعل كانت الضربة قوية وحاسمة، واضطرت إيران لوقف نشاطها في مفاعل ناتانز.
استمر التجميد من 2002 حتى نهاية 2005، قبل أن يتم تجديد النشاط مجددًا، وهي اللحظة التي كانت تخطط لها الاستخبارات لإعادة النظام الإيراني للفخ المنصوب واستدراجة لحزمة من العقوبات، بعد أن استطاع العميل الإيراني استهداف منظومات تخصيب اليورانيوم في المفاعل وإدخال الفيروس الأول من نوعه “ستكوسانت” إلى المنظومة بواسطة ” USB“.
البحث في طريقة زرع الفيروس والآلية التي مكنت هذه البلدان من اختراق الطوق الإيراني، تكشف لنا أنه استغرق نحو ثلاث سنوات، إذ دشن الجاسوس شركات وهمية لأنشطة خدمية على علاقة بمفاعل ناتانز، تمكنه من اختراق السرية والإجراءات الأمنية الشرسة المفروضة على المفاعل، فشل أولاً من خلال الشركة الوهمية الأولى، بعد أن أثارت الشبهات حولها، ليستعين بشركته الثانية بخبرة المخابرات الإسرائيلية، وبدورها تعاونت مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ووكالة التجسس الهولندية، وأدخلت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والأخيرة أمدتهم بمعلومات شديدة التقنية، تتصل بمنظومات الرقابة في المفاعل التي أنتجتها شركة سيمينز.
نهاية 2005، أعلنت إيران عودة نشاط المفاعل، وخلال عام واحد فقط، وتحديدًا في فبراير 2006، ومع البدء في تخصيب اليورانيوم بواسطة المجموعة الأولى من دوائر الطرد المركزية، اصطدمت إيران بمشاكل غريبة وغير معروفة، تسبّبت في تعطيل المشروع وتخريب دوائر الطرد المركزي.
ينتج ناتانز يورانيوم منخفض التخصيب، يحتوي على ما يتراوح بين 3 و4% من تركيز U-235
كيف انتهى الحال بالمفاعل الإيراني؟
رغم الأزمة الكبيرة التي سردت تفاصيلها، فإن المفاعل الآن، هو أكبر منشأة طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم في إيران، ويعمل دون اكتراث لقرارات مجلس الأمن الدولي التي تجرم أنشطة إيران لتخصيب اليورانيوم، ويتكون من ثلاثة مبان كبيرة تحت الأرض، قادرة على تشغيل ما يصل إلى 50 ألف جهاز طرد مركزي، ويتم ضخ غاز سداسي فلوريد اليورانيوم في أجهزة الطرد المركزي، وتفصل معظم النظائر الانشطارية لليورانيوم (U-235).
ينتج ناتانز يورانيوم منخفض التخصيب، يحتوي على ما يتراوح بين 3 و4% من تركيز U-235، وهو ما يعني استخدامه لإنتاج وقود لمحطات الطاقة النووية، كما تتوافر به أيضًا إمكانية تخصيب تصل لمستوى الـ90% اللازمة لإنتاج أسلحة نووية، وبالتأكيد إيران لم تعترف قطعًا بهذه النسب، بل أكدت أنها لا تملك إلا 20% من اليورانيوم منخفض التخصيب، وبررت بناء المنشآت تحت الأرض، بالاحتياطات الأمنية المطلوبة، وما زال المفاعل يلعب دورًا كبيرًا في مسرح الأحداث، وإن كانت قصة تدمير أجهزته خلال العقد الماضي وطريقة إدراة الصراع الدولي استخباراتيًا بهذه الدرجة ، تؤكد أن حتى أدق خصوصياتنا الشخصية، ربما ليست آمنة بما يكفي!