“أفضل الموت في حفرة بدلاً من مطالبة بروكسل بتأجيل موعد خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي”، بهذه الكلمات الواضحة جدد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، تأكيده على المضي قدمًا في مسار البريكست، سواء كان ذلك باتفاق أم دون اتفاق.
تأكيد قوبل بصفعة قوية من مجلس اللوردات الذي وافق، أمس الجمعة، على مشروع قانون يهدف لمنع مغادرة البلاد الاتحاد الأوروبي الشهر المقبل من دون اتفاق، فيما صوّتت الغرفة العليا غير المنتخبة من البرلمان، بالموافقة على مشروع القانون الذي مرّره بالفعل مجلس العموم المنتخب، وسيصبح المشروع قانونًا خلال أيام، بمجرد حصوله على تصديق ملكي.
تأتي هذه الخطوة قبل يومين فقط من تصويت البرلمان البريطاني، بمنع جونسون من الخروج من الاتحاد من دون اتفاق، بواقع 329 صوتًا مقابل 300 صوت، وعليه وفي حال إقرار هذا المشروع بات رئيس الوزراء الجديد مجبرًا على أن يطلب من بروكسل تأجيل “بريكست” إذا لم يكن ثمة اتفاق انفصال بحلول 19 من أكتوبر/تشرين الأول.
موقف حرج وجد فيه جونسون نفسه بعد ستة أسابيع فقط من توليه المنصب، الأمر الذي دفعه للبحث عن مخرج يحفظ له ماء وجهه، داعيًا إلى إجراء انتخابات مبكرة، تكفل له مطلق الحرية في اتخاذ أي إجراءات بعيدًا عن القيود التشريعية، إلا أن هذا المقترح تم رفضه هو الآخر.
معلوم أن ورقة الخروج من الاتحاد الأوروبي باتفاق أو دون اتفاق كانت ورقة الضغط الأبرز بيد جونسون لتخويف أوروبا، وهي ذاتها التي مهدت الطريق له ولحزبه بالفوز في الانتخابات الأخيرة، لكن بعد أن أسقط البرلمان البريطاني هذه الورقة برفض فكرة الخروج دون اتفاق يبقى السؤال: هل تطيح دراما البريكست بجونسون كما أطاحت بتيريزا ماي؟
تكبيل يد جونسون
بعد شهر ونصف فقط من تنصيبه رئيسًا للوزراء بات من الواضح أن هناك اتجاهًا داخل البرلمان لتكبيل يد جونسون، وهو ما اتضح بصورة جلية خلال الأيام القليلة الماضية، ففي الوقت الذي سعى فيه رئيس الحكومة الجديد لتهميش البرلمان عبر بوابة تعليق العمل لعدة أيام، مستندًا في ذلك إلى حالات مشابهة سابقة، جاء رد المجلس قاسيًا.
في أقل من أسبوع واحد وجه البرلمان ضربتين موجعتين، الأولى حين رفض البريكست إلا باتفاق وذلك عبر تشريع جديد يلزم الحكومة بذلك، الخطوة التي ستنسف الوعود التي قطعها الرجل على نفسه خلال حملته الانتخابية من الأساس، وتمحورت حول الخروج بأي طريقة، حتى ولو كانت دون اتفاق.
والثانية حين أراد التحايل على موقف المجلس بالتلويح بإجراء انتخابات مبكرة في الـ15 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، إذ صوت مجلس العموم البريطاني ضد ذلك أيضًا، حيث لم يؤيّد المذكرة الحكومية لتعجيل الانتخابات إلا 298 نائبًا، في حين أن إقرارها كان يتطلب موافقة ثلثي أعضاء المجلس، وامتنع نواب المعارضة العمّالية عن التصويت.
وفي أول رد فعل له وصف رئيس الحكومة الخطوة التشريعية في مجلس العموم بأنها محاولة استسلام للاتحاد الأوروبي، مؤكدًا تقديم مذكرة أخرى لإجراء انتخابات عامة مبكرة، الإثنين المقبل، بعدما رفضت المذكرة الأولى، غير أن الأجواء لا تبشر بالخروج بنتائج مغايرة للجلسة الأولى.
الإسراع لإجراء انتخابات مبكرة في هذا التوقيت ربما يكون الحل الأمثل لرئيس الوزراء الجديد للخروج من مأزقه الحاليّ، خاصة أن استطلاعات الرأي تشير إلى فوزه حال إجراء انتخابات
حزب “العمال” كان قد أعلن، أمس الجمعة، على لسان وزيرة الظل للشؤون الخارجية، إيميلي ثورنبيري، أنه سيصوت، للمرة الثانية على التوالي، ضدّ قانون الانتخابات العامة المبكرة الذي سيتقدم به جونسون بعد يومين، مرجعًا السبب في ذلك إلى أنه “وفقًا لقانون الانتخابات البرلمانية، إذا صوتنا لصالح الانتخابات العامة، فحينها لن تكون هناك أي أهمية لوعود جونسون، فستكون له وحده سلطة إشارة الملكة إلى موعد الانتخابات”.
وأضاف “وبما أنه تجلى ككاذب أمام الجميع، وقوله إنه يفضل أن يكون ميتًا في حفرة في الأرض بدلاً من وقف “بريكست” من دون اتفاق، ومستشاره (دومينيك) كامينغز يصرخ في وجه النواب مصرًا على أننا سنخرج يوم 31 من أكتوبر/تشرين الأول مهما كان الثمن، فإن أولويتنا يجب أن تكون منع عدم الاتفاق وضمان أنه لن يحدث”.
يذكر أن “العمال” خاض نقاشات داخلية مطولة في اليومين الماضيين، بشأن الانتخابات المبكرة وموعدها، بانتظار الاستشارات القانونية الخاصة بأي تحرك في مجلس العموم، حيث إن الأولوية تكمن في منع عدم الاتفاق، كما يتشاور العمال أيضًا مع الأحزاب المعارضة الأخرى مثل “الديمقراطيين الليبراليين” و”القومي الإسكتلندي” لتنسيق خطواتهم معًا الأسبوع المقبل.
لم يكن العماليون وحدهم من رفضوا فكرة إجراء انتخابات مبكرة، إذ سلكت العديد من الأحزاب الأخرى المسلك ذاته على رأسها أحزاب الديمقراطيين الأحرار والحزب القومي الإسكتلندي وحزب بليد سيمرو في ويلز، التي رأت أن الانتخابات التي يطالب بها جونسون ليست إلا وسيلة لإتمام الخروج دون اتفاق، مشددة على أن أي انتخابات لا بد أن تتم بعد ضمان عدم الخروج دون اتفاق.
مجلس اللوردات البريطاني يقر قانونًا يلزم الحكومة التوصل لاتفاق قبل البريكست
البريكست على المحك
مسعى البرلمان لتكبيل يدي جونسون يجعل قضية الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي في مهب الريح، مع تنوع النتائج المحتملة ما بين الخروج دون اتفاق أو التخلي عن الفكرة برمتها، وهما نتيجتان لن تقبل بهما قطاعات واسعة من الناخبين البريطانيين، وفق ما ذهبت وسائل إعلام بريطانية.
مستقبل البريكست وحده ليس الضحية الأولى لهذه الدراما المشتعلة في الشارع البريطاني، إذ ان المستقبل السياسي لجونسون نفسه كرئيس للوزراء بات هو الآخر محل نقاش، إذ تصاعدت العديد من الأصوات التي ربما ترجح سيناريو مقارب لرئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي.
إيان بلاكفورد زعيم الكتلة البرلمانية للحزب الوطني الإسكتلندي المعارض في تعليقه على موقف حزبه من الانتخابات العامة، قال لهيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي): “سنحدد موعدًا للانتخابات، أريد إزاحة بوريس جونسون عن منصب رئيس الوزراء لكن يتعين أن نتأكد من أننا لن نغادر الاتحاد الأوروبي دونما اتفاق، هذا أهم أولوياتنا”.
لم يعد أمام جونسون إلا خيار واحد فقط، يتمحور حول السعي للتوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يرضي البرلمان الذي سعى لتجاهله قبل ذلك، وهو الخيار الذي سيؤثر بلا شك على شعبية الرجل وقاعدته الجماهيرية
الموقف يزداد تأزمًا على جونسون، إذ استقال شقيقه جو – الذي أيد بقاء المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي خلال استفتاء 2016 – من الحكومة، مؤكدًا عبر تويتر أنه يقدم “الولاء الوطني” على “الولاء العائلي”، وبذلك يعد النائب الـ23 الذي ينسحب من الحزب المحافظ خلال ثلاثة أيام، في ضربة سياسية مؤلمة بحسب مراقبين.
الإسراع لإجراء انتخابات مبكرة في هذا التوقيت ربما يكون الحل الأمثل لرئيس الوزراء الجديد للخروج من مأزقه الحاليّ، خاصة أن استطلاعات الرأي تشير إلى فوزه حال إجراء انتخابات، ومن ثم بقاءه في الحكم لعدة سنوات، في ظل ما يعاينه خصومه من ضعف في النفوذ وتراجع في الشعبية.
جونسون يعلم جيدًا أن تأخر إجراء انتخابات سيضع مستقبله في دائرة الخطر، فالرجل الذي حصل في الانتخابات الأخيرة على 35% من أصوات الناخبين، ربما يفشل في الحصول على هذا الرقم مرة أخرى، أو حتى الاقتراب منه، خاصة حال حدوث تأجيل جديد لموعد البريكست.
الوقت لم يعد في صالح رئيس الحكومة، فعدم التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي قبيل 31 من أكتوبر المقبل، يعني تأجيل لإجراءات الخروج، وهو ما ينسف الوعد الأبرز الذي قطعه جونسون على نفسه، وبسببه أقصى تيريزا ماي من كرسيها في الانتخابات الأخيرة.
تصاعد موجة المعارضة للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق
حملات إعلامية
الإعلام البريطاني يعي حجم المأزق الذي أوقع فيه رئيس حكومة البلاد نفسه، فها هي صحيفة “الغارديان” تصفه بـ”المحشور في الزاوية ويعاني من هزائم عدة في مجلس العموم”، مضيفة “رئيس الوزراء هزم ثلاث مرات في مجلس العموم: محاولة المعارضة والمتمردين في حزب المحافظين منعه من الخروج دون اتفاقية التي عبدت الطريق أمام القراءتين الثانية والثالثة، وفشل جونسون لاحقًا في محاولته للدعوة إلى انتخابات سريعة”.
الوصف ذاته لجأت إليه صحيفة “فايننشال تايمز” فقد أشارت في صفحتها الأولى إلى إحراج رئيس الوزراء “حشر جونسون في الزاوية بعدما وجه له مجلس العموم لكمة مزدوجة”، واحتوت الصفحة على عنوانين إضافيين هما: “المتمردون ينضمون إلى المعارضة لتمرير قرار عدم الخروج دون اتفاق” و”رفض طلب رئيس الوزراء بالانتخابات”، فيما وصفته بالهزيمة المزدوجة.
فيما اختصرت صحيفة “مترو” أزمته بالعنوان التالي “هو لا يستطيع الفوز”، وأردفته بعناوين فرعية: “أول ثلاث عمليات تصويت في مجلس العموم” و”النواب يدعمون تأخير الخروج من أجل إزالة الخروج دون اتفاق عن الطاولة” و”فشل في محاولته الدعوة إلى انتخابات عامة في 15 من أكتوبر/تشرين الأول”.
وأخيرًا اختارت صحيفة “ديلي ميرور” العنوان التالي: “أسوأ رئيس وزراء (منذ الأسوأ)” في إشارة واضحة بالصورة إلى تيريزا ماي، مشيرة في عناوينها الفرعية إلى أن جونسون هو أول رئيس وزراء يخسر ثلاث عمليات تصويت أولى له في مجلس العموم، حيث صوت النواب ضد إستراتيجيته الخطيرة للخروج دون اتفاق، وأشارت في العناوين الفرعية إلى “تعرضه للهجوم بسبب حملة التطهير التي يقوم بها داخل حزب المحافظين”.
وعلى الأرجح يبدو أنه لم يعد أمام جونسون إلا خيار واحد فقط، يتمحور حول السعي للتوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يرضي البرلمان الذي سعى لتجاهله قبل ذلك، وهو الخيار الذي سيؤثر بلا شك على شعبية الرجل وقاعدته الجماهيرية، وإلا فليس أمامه إلا الاستقالة وانتظار الانتخابات القادمة لتحقيق فوز جديد يمهد له الطريق نحو تنفيذ تعهده السابق.