على نحو غير مسبوق استفحلت ظاهرة الاتجار بالبشر في العراق، بعد عام 2003 نتيجة للانفتاح الخارجي وعدم سيطرة الدولة وغياب سلطتها، وتنوعت أشكاله بين بيع الأعضاء البشرية والمتاجرة بالأطفال والنساء واستغلالهما جنسيًا، فضلًا عن استغلال خدم المنازل.
الآفة الجديدة، تعيد إلى الواجهة تجارة العبيد والرق، التي اندثرت منذ زمن بعيد، عوامل محلية عدة ساهمت بارتفاع ضحايا الاتجار، أبرزها الفقر والعوز، بالإضافة إلى غياب الإجراءات الرادعة لدى السلطات حتى باتت تعرف محليًا بالبضاعة الناعمة.
الأمم المتحدة تعزو أسباب زيادة عمليات الاتجار بالبشر في العراق إلى الصراع والحروب التي شهدها، لتشمل بذلك الاستغلال الجنسي والعمل القسري وعبودية النساء والفتيات على أيدي أفراد الجماعات المسلحة وتجنيد الأطفال وإجبارهم على التسول في الشوارع.
جرائم الاتجار بالبشر “مركبة”، فهناك جرائم وانتهاكات يقوم بها أفراد، وأخرى منظمة تقوم بها عصابات وشبكات
بينها “الجنس”.. 64 جريمة في أقل من سنة
المرصد العراقي لضحايا الاتجار بالبشر وثق منذ تأسسيه في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، نحو 64 جريمة اتجار، تنوعت ما بين توظيف النساء في سوق الجنس وتجارة الأعضاء البشرية واستغلال الأطفال في التسول وانتهاكات تتعلق بالعمالة الأجنبية.
ويؤكد المرصد في سلسلة تقارير أن نحو 50% من هذه الجرائم وقعت في العاصمة بغداد، وغالبية الضحايا من الأطفال والنساء، ومنفذوها عصابات وشبكات مرتبطة فيما بينها.
يقول ممثل المرصد أحمد هادي في حديثه لـ”نون بوست”: “جرائم الاتجار بالبشر مركبة، فهناك جرائم وانتهاكات يقوم بها أفراد، وأخرى منظمة تقوم بها عصابات وشبكات”، وكشف هادي توثيق المرصد العراقي “لشبكتين تقف خلفهما جهات نافذة بالدولة العراقية، تستغل سلطتها للإفلات من العقاب”.
أموال طائلة ونفوذ واسع
يؤكد المرصد العراقي أن “بعض العصابات جنت أموالاً طائلة، وأصبح لديها إمبراطوريات من النفوذ داخل المجتمع والسلطة، وباتت تستطيع اليوم إسكات معارضيها وملاحقيها بالمال في أحيان كثيرة”.
ويحذر المرصد من استفحال هذه الظاهرة ويؤكد أن علاجها هو الانتباه للمشكلة الأم (الفقر والبطالة)، فيما يشير إلى أهمية الدور التوعوي، إذ إن الكثير من الضحايا يقعون في فخ العصابات دون أن يعرفوا نتيجة الجهل وغياب التوعية.
تؤكد لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي أن “تردي الأوضاع الأمنية، وعدم وجود خطط واضحة لدى الأجهزة التنفيذية، منح الفرصة للعصابات بالانتشار في البلاد”
جهود خجولة مقابل تغول عصابات الاتجار
رغم تشريع البرلمان العراقي قانون مكافحة ضحايا الاتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2012، إلا أنه لم يحدّ من الظاهرة التي باتت تفتك بالمجتمع، لا سيما بعد ارتفاع معدلاتها بشكل لافت، إذ لم يعد حيٌّ أو شارعٌ في بغداد إلا وتحصل فيه جريمة بشكل شبه يومي، في مقابل جهود حكومية خجولة لا تتلاءم مع حجم الجرائم وأعدادها، وباتت الحاجة ملحة لتفعيل القانون، وتفعيل قانون تنظيم عمليات استئصال الأعضاء البشرية أيضًا الذي شرعه البرلمان في 2016 هكذا يقول متخصّصون.
جهات متنفذة تحمي عصابات الاتجار
في هذه السياق تؤكد لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي أن “تردي الأوضاع الأمنية، وعدم وجود خطط واضحة لدى الأجهزة التنفيذية، منح الفرصة للعصابات بالانتشار في البلاد”، لا سيما مع عدم وجود قوة رادعة لها، وفيما “اتهمت أطرافًا متنفذة بالدفاع عنها، دعت السلطات الأمنية إلى كشف هوية هذه الشبكات باعتبارها تهديدًا أمنيًا ووطنيًا”.
وانتقد رئيس اللجنة البرلمانية أرشد الصالحي “الإجراءات الحكومية في قضية عدم توفير ملاذ آمن للضحايا” وأكد في تصريح خاص لـ”نون بوست” أن لجنته سجلت ارتفاعًا كبيرًا في معدلات الاتجار بالبشر في العراق خلال الفترة الأخيرة”.
دعت اللجنة التي تتبع للسلطة التشريعية في العراق إلى تكثيف التنسيق الدولي ومكافحة التهريب وضبط الحدود وتنسيق دخول العمالة الأجنبية وتفعيل دور القضاء العراقي لمكافحة هذه الآفة الخطيرة
قانون الاتجار غير مجدٍ
شدد الصالحي على أهمية “إجراء تغييرات على قانون الاتجار بالبشر، إلا أنه أشار إلى أن الخطوة غير مجدية دون وجود قوة ردع لدى السلطات التنفيذية”.
ودعت اللجنة التي تتبع للسلطة التشريعية في العراق إلى تكثيف التنسيق الدولي ومكافحة التهريب وضبط الحدود وتنسيق دخول العمالة الأجنبية وتفعيل دور القضاء العراقي لمكافحة هذه الآفة الخطيرة التي تهدد المجتمع العراقي.
تنسيق دولي ومحلي لمواجهة الظاهرة
المديرية العامة لمكافحة الاتجار بالبشر التي تتبع وزارة الداخلية العراقية وتزامن تأسيسها مع إقرار قانون مكافحة الاتجار بالبشر عام 2012، أكدت أن القضاء على الظاهرة في العراق يحتاج إلى دعم وتنسيق أكبر مع المنظمات الدولية بالإضافة إلى تنسيق محلي مع الجهات القضائية والسلطات في المحافظات العراقية.
تقول الباحثة في المديرية رند صادق في تصريح لـ”نون بوست”: “وجود ظاهرة الاتجار لا يقتصر على العراق فقط، لكن هي جريمة منتشرة في العالم أجمع، ارتفعت وتيرتها محليًا بسبب الحروب والنزاعات المسلحة والأزمات الاقتصادية وعدم المساواة بين طبقات المجتمع العراقي”.
تؤكد منظمات متخصصة أن العراق أصبح مسرحًا لجميع أشكال الجرائم بدءًا من استغلال الأطفال والنساء في العمل، وانتهاءً ببيع الأعضاء البشرية
وعن طبيعة عملهم أوضحت صادق أن “مديرية مكافحة الاتجار بالبشر منتشرة في جميع المحافظات من ضمنها بغداد في محاولة للحدّ من الظاهرة عبر توفير مراكز ودور إيواء لإعادة تأهيل ضحايا الاتجار بالبشر ودمجهم في المجتمع سواء كانوا عراقيين أم أجانب، بالإضافة إلى دار إيواء خاصة لاستقبال النساء والأطفال تم افتتاحها عام 2017 تتبع إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية مركزها العاصمة العراقية”.
وبشأن العقوبات التي نص عليها قانون 28 الخاص بمكافحة الاتجار بالبشر أكدت الباحثة الاجتماعية أن “بعض مواده تصل إلى الإعدام في حال وفاة الضحية، والحبس بالمؤبد أو غرامة مالية تصل إلى خمسة وعشرين مليون دينار عراقي بحسب حالة الضحية”.
العراق مسرح لجرائم الاتجار.. والفقر رأس مالها
تؤكد منظمات متخصصة أن العراق أصبح مسرحًا لجميع أشكال الجرائم بدءًا من استغلال الأطفال والنساء في العمل، وانتهاءً ببيع الأعضاء البشرية، وأن المناطق الفقيرة والنائية باتت ساحة مواتية للعصابات إذ تعمد إلى اقتناصهم وإغوائهم، وسلاح الجريمة ورأس مالها في كل هذا هو الفقر.