شكل تعيين شخصيات عسكرية وقضائية في مؤسسات الدولة تزامنًا مع ظهور قادة ميليشيات وعودتهم إلى مناطقهم بعد إجراء تسوية، على الرغم من مشاركتهم في ارتكاب جرائم حرب، حالة من السخط بين الأوساط الشعبية السورية.
خلال الأيام الماضية، أعرب سوريون عن استنكارهم لهذه التعيينات والسماح بعودة شخصيات تلطخت أيديها بدماء السوريين دون اعتقال أو خضوعها للمحاسبة القضائية والقانونية، وهو ما يُعتبر أحد مطالب ذوي الضحايا الذين فقدوا حياتهم طوال سنوات الثورة السورية لتحقيق العدالة.
واعتبر سوريون أن هذا الإجراء يشكل تهديدًا للسلم الأهلي والدولة على حد سواء، إذ قد يستغل هؤلاء مناصبهم لبناء تحالفات تهدف إلى تحقيق منافع شخصية على حساب المواطنين.
أشخاص متهمون
ظهر العميد طلال العيسمي في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، خلال مشهد مصور أثناء إشرافه على عمليات تسوية قوى الأمن الداخلي في محافظة السويداء على الرغم من مشاركته في مجزرة اقتحام الجامع العمري بمحافظة درعا 23 مارس/آذار 2011، وراح ضحيتها عشرات المدنيين، إضافةً إلى المشاركة في مجزرة في مدينة الحراك بريف درعا التي راح ضحيتها 200 شخص.
وحسب موسوعة “الذاكرة السورية” فإن العيسمي كان في عام 2011 يشغل رئيس المهام الخاصة في وزارة الداخلية، وفي عام 2013 شغل معاون قائد الشرطة في وزارة الداخلية التابعة لحكومة النظام السابق، قبل أن يكلف بعد 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي في تسيير أعمال شرطة السويداء.
وردًا على الجدل الذي أثاره ظهور العيسمي، نفى موفد وزارة الداخلية في السويداء خلال حديثه لـ”شبكة السويداء 24″ تعيينه كقائد للشرطة والعميد سهيل حيدر كرئيس لفرع المرور، مؤكدًا أن مهمتهما الأساسية تتمثل في التنسيق مع الوزارة لتفعيل الوحدات الشرطية في محافظة السويداء.
من السويداء إلى وزارة العدل فقد تكرر المشهد مع انتشار وثيقة رسمية تؤكد تعيين القاضي نزار صدقني معاونًا لوزير العدل في الشؤون القضائية.
وشغل صدقني معاونًا لوزارة العدل في حكومة النظام السابق منذ 2020، كما كان ضمن منظمة أمنية وقضائية تعمل على طمس الأدلة الجنائية وتحريف الصور المتعلقة بالضحايا التي توثق الانتهاكات التي ارتكبها النظام بحق المعتقلين التي أثبتتها تسريبات “قيصر” منذ عام 2014، بهدف تضليل المجتمع الدولي.
كما أنهت وزارة العدل إعداد قائمة من القضاة المعاد تعيينهم من خارج الوزارة للعمل في “النيابة العامة التمييزية”. وشملت القائمة كلًا من عبود عيسى الشواخ، المعروف بتورطه في الفساد القضائي والمشهور بلقب “سمسار المعتقلين” نتيجة ابتزازه ذوي المعتقلين للإفراج عنهم، ولبليب عليا، الذي شغل سابقًا منصب رئيس المحكمة العسكرية الدائمة الثالثة في دمشق والتي لعبت دورًا أساسيًا في إصدار أحكام الإعدام والسجن التعسفي.
عودة قادة ميليشيات
بالتوازي مع التعيينات ظهر قادة عسكريون سابقون ولهم تاريخ بارتكاب جرائم ضد السوريين، منهم خالد الفارس الذي عاد إلى حمص وافتتح معرض السيارات الخاصة به.
وحسب زمان الوصل فإن الفارس كان يدير شبكة من المخبرين التي تتبع تحركات الصحفيين الأجانب، قبل أن يشغل قائدًا لمجموعة “فرقة الموت” التابعة لميليشيا “الدفاع الوطني”، التي شاركت في انتهاكات واسعة تضمنت عمليات قتل وتعذيب واغتصاب بحق المعارضين.
وحصل الفارس على مكافأة من قبل ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع، لدوره المحوري عبر شبكة من المخبرين في عملية استهدفت المركز الإعلامي في حي باب عمرو في حمص، حيث قتلت خلاله الصحفية الأمريكية، ماري كولفين عام 2012.
وفي حي التضامن الدمشقي شهد عودة أحد أبرز قادة ميليشيا “الدفاع الوطني” التابعة للنظام السابق والمعروف باسم فادي صقر، برفقة عناصر الأمن العام التابع لوزارة الداخلية.
اسمه الحقيق فادي مالك أحمد قبل أن غير اسمه لاحقًا إلى فادي صقر، من مواليد جبلة في اللاذقية 1974، وكان قائد الشبيحة في حي التضامن بدمشق، وأحد المشاركين في “مجزرة التضامن” الشهيرة التي نفذها الضابط في نظام الأسد البائد، أمجد يوسف، قبل أن يصبح قائد ميليشيا الدفاع الوطني في دمشق، ليصبح لاحقًا عضو اللجنة المركزية لحزب البعث لأول مرة خلال انتخابات أجراها النظام البائد العام الماضي.
أدى ظهور صقر وعودته إلى مخيم التضامن عقب الجرائم التي ارتكبها إلى خروج الأهالي بمظاهرة غاضبة، مطالبين بالقبض عليه وإخضاعه للمحاسبة القضائية والجزائية، معتبرين زيارته استفزازًا صارخًا لأهالي الشهداء والضحايا.
وتفاعل السوريون على منصات التواصل الاجتماعي حول إجراءات الحكومة في السماح لمرتكبي الجرائم في العودة إلى سوريا، بعد التسوية، وإشراك بعضهم في مؤسسات الدولة، دون اتخاذ إجراءات حقيقية للمحاسبة من قبل حكومة تصريف الأعمال بهدف تحقيق العدالة للضحايا.
لا تستفزوا مشاعر الناس من أجل شخص مجرم.. يتصاعد الغضب الشعبي في حي التضامن بعد رؤيتهم المدعو فادي صقر أحد قادة النظام المخلوع في الحي برفقة عناصر من الميليشيا التي كان يتزعمها
هؤلاء لا يجب إعادة تدويرهم بل محاكمتهم pic.twitter.com/vw6bdzLHkY
— قتيبة ياسين (@k7ybnd99) February 7, 2025
كيف يهددون السلم الأهلي؟
ارتكب نظام الأسد سلسلة من الجرائم الممنهجة بحق الشعب السوري، شملت القتل والقصف واستخدام الأسلحة الكيماوية والاغتصاب والخطف والنهب والاعتقال والتشهير، وقد نفذت هذه الأعمال من خلال منظومة متكاملة تضم ضباطاً وعناصر أمنية ومخبرين ومحققين وقضاة ورجال أعمال وقادة ميليشيات، مما يجعل قبولهم واستيعابهم داخل المجتمع السوري أمرًا شبه مستحيل نظرًا لإفلاتهم من المحاسبة.
ويرى الحقوقي، منهل العلو، أن عودة مرتكبي الجرائم تولد رغبة في الانتقام لدى ذوي الضحايا، وهم غير قادرين على ضبط مشاعرهم عند رؤيتهم يمارسون حياتهم، وكأن شيئًا لم يحدث، لذلك لزامًا على الدولة عبر أجهزتها القضائية والأمنية والإدارية أن تراعي مشاعر ذوي الضحايا عبر ملاحقة هؤلاء المجرمين وإيداعهم في السجون على ذمة التحقيق ريثما يصار إلى محاكمتهم ضمن آليات وبرامج عدالة انتقالية تحت مظلة محاكم وطنية يشرف عليها قضاة سوريون.
واعتبر العلو في حديث لـ”نون بوست” أن “المحاسبة تقطع الطريق أمام الانفلات الأمني والانتقام الجماعي والثارات الفردية التي تحول المجتمع إلى غابة تصبح فيها الضحية جلادًا جديدًا وهكذا تستمر سلسلة الضحايا إلى ما لا نهاية الأمر، مما يهدد السلم الأهلي والمجتمعي وينذر بعواقب وخيمة تهدد الأمن والاستقرار لسنوات طويلة”.
وقال العلو أن “غياب العدالة الانتقالية وتعطيل عمل المحاكم الجزائية يحول دون قدرة الأهالي على رفع الدعاوى المباشرة ضد مجرمي الحرب (الفاعلين، المشاركين، المتدخلين، المحرضين).
وأضاف أن السوريين يعيشون في محيط اجتماعي كبير ومتشابه إلى حد ما على امتداد الجغرافية السورية، والمجرمون قد تمترسوا خلف عائلاتهم وقبائلهم، ما يجعل الوصول إليهم دون تدخل وإشراف أجهزة الدولة ومؤسساتها وعلاقاتها أشبه بالمستحيل.
كما يؤكد الحقوقي عبد الناصر حوشان، على ضرورة محاسبة المتورطين بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات الجسيمة في سوريا، بناءً على أساس قاعدة العدالة بوابة السلم الأهلي، مشيرًا، إلى أن بقاء المجرمين خارج إطار المحاسبة بسبب تأخر العدالة سيؤدي إلى ردة فعل مباشرة من ذوي الضحايا، وربما تتطور إلى ردود عنيفة تأخذ شكل الانتقام والثأر وبالتالي تعكر السلم الأهلي وتضرب استقرار الدولة.
ويضيف خلال حديثه لـ “نون بوست”، أن الجرائم لا تسقط بالتقادم ولا بالعفو ولا بالصفح، وبالتالي فإن محاسبة المجرمين لا بد أنها آتية، وهذا الأمر يكفي لأن يكون المجرمون على الأقل قيد الإقامة الجبرية، أو المراقبة القضائية إلى حين بت أمر ملاحقتهم.
تهديد استقرار الدولة؟
إلى جانب تورط قادة الميليشيات في جرائم حرب تستدعي محاسبتهم وملاحقتهم قضائياً، فإنهم يمثلون خطراً جسيماً على استقرار الدولة السورية الجديدة؛ فهم عاجزون عن التخلص من عباءة الفساد التي تُشكّل الأساس لبناء علاقات وتحالفات متينة تُخدم مصالح شخصية على حساب المواطنين.
ويرى الباحث في جماعات ما دون الدولة، عمار فرهود، أن تسليم شخصيات مقربة من النظام السابق مناصب في مؤسسات الدولة، ينعكس بشكل سلبي على المزاج العام والثوري، لأنه قد يؤدي إلى حالة من الانفضاض عن الإدارة الجديدة وربما محاولة لنزع شرعيتها من بعض الشرائح التي تعتقد أنها تصالح على دماء الشهداء، على الرغم من حاجة بعض مفاصل الدولة إلى اختصاصيين وتقنيين يكونون قادرين على إدارة الملفات ليتم تنحيتهم لاحقًا.
يستبعد الباحث قدرة هؤلاء على تهديد الدولة أو الانقلاب عليها، إذ إن السلطة في سوريا انتُزِعت بواسطة أداة عسكرية محضة، مما يعزز يقين الفصائل المسلحة والثورية والمجتمعات الحاضنة بعدم السماح بأي محاولة لإحياء النظام السابق.
ويرى الباحث أن دخولهم عبر نوافذ وثغرات محدودة داخل مؤسسات الدولة يُمكنهم من عرقلة عملها وإعاقة مسيرتها، نظرًا لخبرتهم من داخل المؤسسات التي كان يديرها الأسد؛ فهم يدركون تمامًا آليات بناء تحالفات نفعية تؤدي في النهاية إلى عرقلة شؤون المواطنين. وهذا بدوره يساهم في تشكيل حالة من المزاج الشعبي المناهض للأداء الحكومي، وتحميل رأس السلطة مسؤولية المشكلات التي يسببها هؤلاء.
ختامًا، تُعد محاسبة مرتكبي الجرائم وتحقيق العدالة الانتقالية شرطًا أساسيًا لإرساء استقرار الدولة السورية وإعادة الثقة إلى المجتمع،
ويتعين على الجهات الوطنية والدولية العمل معاً لضمان عدم تكرار آلام الماضي وإرساء مستقبل يعمه الأمن والعدالة.