تُمثل كينيا ثالث أكبر اقتصاد في القارة الإفريقية جنوب الصحراء بعد كلٍ من نيجيريا وجنوب إفريقيا بناتج محلي إجمالي يقارب 100 مليار دولار أمريكي، في العام الحاليّ، وناتج محلي للفرد يبلغ قرابة ألف دولار، مما يجعلها ضمن أكبر 65 اقتصاد في العالم.
بشكلٍ عامٍ، الاقتصاد الكيني واحد من بين أكثر اقتصادات القارة الإفريقية أداءً وتطورًا، لما يتمتع به من تنوع وإمكانات نمو مختلفة، كما يتميز بسمةٍ فريدةٍ من نوعها، حيث تسهم المؤسسات والشركات جنبًا إلى جنب مع المشروعات الصغيرة لرواد الأعمال والشركات الناشئة في دفع عجلة النمو الاقتصادي في البلاد، فضلًا عن أن الاقتصاد الكيني هو اقتصادٌ قائمٌ على السوق يحافظ على نظام تجارة خارجية متحررة، بينما تدير بعض المؤسسات الحكومية أنشطة اقتصادية تشمل صناعات رئيسية: الزراعة والغابات وصيد الأسماك والتعدين والتصنيع والطاقة والسياحة والخدمات المالية.
والزراعة تمثل رأس الرمح للاقتصاد الكيني، إذ تشكل نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي، مع العلم بأن تصدير الشاي الأسود يمثل 40% من جملة الصادرات الكينية، فكينيا هي أكبر مُصدّر له في العالم. ورغم انخفاض معدل النمو الإجمالي لعدة عوامل سنأتي لها بالتفصيل، فإن تدفق الاستثمارات الأجنبية في البنية التحتية والنمو السكاني المرتفع، إلى جانب تنشيط قطاع السياحة والفندقة يمكن أن يؤدي ذلك كله إلى ازدهار متوقع للاقتصاد الكيني في المستقبل القريب إذا نجحت الحكومة في الحفاظ على الأمن والاستقرار وقامت بتسوية المشكلات السياسية الداخلية والخارجية مع دول الجوار.
بداية تصدير النفط.. نقطة تحول
الأيام القليلة الماضية شهدت حدثًا كينيًا يمكن أن يشكل تحولًا حقيقيًا في مسيرة اقتصاد الدولة، إذ شارك الرئيس أوهورو كينياتا في احتفالٍ كبيرٍ بمناسبة تصدير أول شحنة من النفط الكيني من ميناء مومباسا، وتزامنًا مع مغادرة شحنة النفط الخام التي تبلغ 200 ألف برميل الميناء، ذكرت وزارة البترول والتعدين الكينية، في تغريدة على موقع “تويتر” للتواصل الاجتماعي، “يعد هذا الحدث علامة فارقة حيث ننضم اليوم إلى رابطة الدول المصدرة للنفط”.
الرئيس الكيني أوهورو كينياتا يدشن تصدير النفط الكيني
نلفت هنا إلى أن حكومة كينيا نجحت في تسريع خطة إنتاج وتصدير النفط، إذ كان من المقرر أن يبدأ التصدير في العام 2020 وفقًا للخطط المرسومة مسبقًا، ولكن يبدو أن الصعوبات الاقتصادية التي مرّت بالبلاد دفعت وزارة البترول والتعدين إلى تسريع العمل من أجل إيجاد بدائل عاجلة وتقليل الفجوة في معدل النمو الذي انخفض هذا العام إلى 5.6% على أساس سنوي مقارنة مع 6.5% في الربع الأول من العام الماضي.
إصلاحات نهضت بالاقتصاد الكيني
في منتصف التسعينيات، أصدرت الحكومة الكينية سلسلة من التدابير الإصلاحية الاقتصادية لتحقيق الاستقرار واستعادة النمو المستدام، بما في ذلك رفع الضوابط الإدارية على أسعار المنتج والتجزئة والواردات والعملات الأجنبية وتسويق الحبوب، ومع ذلك، لم يَتعدّ النمو السنوي 1.5% فقط بين عامي 1997 و2002، الذي كان أقل من نسبة نمو عدد السكان المقدر بـ2.5% سنويًا، مما أدى إلى انخفاض في دخل نصيب الفرد.
يزور كينيا أكثر من مليون سائح سنويًا، للاستمتاع بالمناظر الطبيعية الجميلة، وأدركت حكومة كينياتا أهمية السياحة فأنفقت نحو 500 مليون دولار لتطوير البنية التحتية من مطارات وشواطئ ودور إيواء
لكن، بفعل الإجراءات الاقتصادية الشجاعة التي اتخذتها حكومة الرئيس كينياتا في الأعوام الأخيرة، عرف أداء الاقتصاد الكيني شيئًا من الانتعاش والقوة، في وقتٍ كان الاقتصاد العالمي يواجه عقباتٍ عديدةٍ حيث كان تباطؤ النمو في أوروبا وغيرها مقترنًا بتأثير الأزمة المالية العالمية، ومن أهم السياسات التي اتبعها الطاقم الاقتصادي في الحكومة الكينية التي أدت إلى تحقيق نموٍ جيّدٍ للاقتصاد الكيني:
ـ تخفيف الضوابط القانونية وسن قوانين صارمة لمكافحة الفساد.
ـ إجراء إصلاح شامل للميزانية العمومية.
ـ ارتفاع الاستثمارات الخاصة والعامة بشكل كبير، بما في ذلك المستثمرين الأجانب (ارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 21 مليون دولار أمريكي عام 2005 إلى 514 مليون دولار عام 2013).
ـ تنشيط السياحة، فالسياحة في كينيا ثاني أكبر مصادر العملة الأجنبية في البلاد بعد الزراعة مباشرةً، حيث تسهم السياحة في الاقتصاد الكيني بأكثر مما يسهم به أي نشاط اقتصادي آخر ما عدا إنتاج وتصدير الشاي والبن. ويزور كينيا أكثر من مليون سائح سنويًا، للاستمتاع بالمناظر الطبيعية الجميلة، وأدركت حكومة كينياتا أهمية السياحة فأنفقت نحو 500 مليون دولار لتطوير البنية التحتية من مطارات وشواطئ ودور إيواء.
أسباب التدهور
كما ذكرنا، شهد العام الحاليّ انخفاضًا ملحوظًا في معدل نمو الاقتصاد الكيني، والحقيقة أن الانخفاض المتتالي في نمو اقتصاد الدولة الواقعة في شرق إفريقيا جاء لعدة أسباب، أبرزها الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد قبل عامين بالضبط، إذ شهدت نيروبي انعقاد الانتخابات الرئاسية في سبتمبر/أيلول 2017، وأُثير جدل كبير آنذاك عندما أعلنت المحكمة العليا عن بطلان فوز الرئيس أوهورو كينياتا في الانتخابات التي أجريت في أغسطس/آب، وعزت المحكمة قرارها بإلغاء النتيجة إلى ما اعتبرتها “تجاوزات ومخالفات” ارتكبتها لجنة الانتخابات الكينية.
استمرّ تباطؤ النمو الاقتصادي في كينيا مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي بسبب طقس جاف كبَحَ إنتاج القطاع الزراعي
لاحقًا، أُعيدت الانتخابات وفاز كينياتا بولايته الثانية، لكن الثمن كان باهظًا على الاقتصاد الكيني، فقد قدّر تحالف القطاع الخاص الكيني أن فترة الانتخابات وجولة إعادتها، التي استغرقت أربعة أشهر، كلفت البلاد خسائر بلغت 7 مليارات دولار، وجاء معظم هذه الخسائر نتيجة للاضطرابات المتكررة في قطاع النقل والأعمال الصناعية خلال الحملات الانتخابية قبل 8 من أغسطس/آب، بالإضافة إلى الاحتجاجات المستمرة بعد إلغاء النتائج في سبتمبر/أيلول ثم الإعادة في وقتٍ لاحقٍ نهاية العام.
وفي شهر سبتمبر/أيلول من 2017، خسر المستثمرون في بورصة نيروبي 2.27 مليار دولار، كما شهدت البورصة انخفاضًا في حجم التداول الشهري بلغ 50% تقريبًا ليصل إلى 490 مليون سهم من بين 740 مليون سهم كأعلى مستوى للتداول الشهري، في حين بلغ متوسط التداول الشهري قبل انتخابات أغسطس 640 مليون سهم، حسبما ذكر موقع “أوول أفريكا”.
في العام الحاليّ، استمرّ تباطؤ النمو الاقتصادي في كينيا مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي بسبب طقس جاف كبَحَ إنتاج القطاع الزراعي، وقال المكتب الوطني للإحصاءات الكينية، إن الاقتصاد نما بنسبة 5.6% على أساس سنوي مقارنة مع 6.5% في الربع الأول من العام الماضي، وأضاف أن قطاع الزراعة والغابات والصيد البحري، الذي يساهم بنحو ثلث الناتج المحلي، نما بنسبة 5.3% مقارنة مع 7.5% في الربع الأول من 2018، كما تباطأ نمو قطاع الصناعات التحويلية إلى 3.2% من 3.8%.
الرهان على النفط والموانئ
تراهن كينيا على تصدير النفط لتحسين اقتصادها وإقالة عثرته، فقد شدد الرئيس كينياتا “على أن انضمام كينيا إلى مصاف البلدان المصدرة للنفط، سيعزز من الشراكات الاقتصادية والتجارية الحاليّة، إضافة إلى تعزيز فرص النمو والاستثمارات داخل البلاد”، وأردف بالقول: “ستركز حكومتي على تطوير قطاعي النفط والغاز من أجل تحسين الاقتصاد وحياة الناس”.
وفي هذا الإطار دخلت الحكومة الكينية في شراكات مع عدد من المؤسسات الدولية العملاقة، فقد وقعت شركة قطر للبترول اتفاقية مع كل من شركة إيني الإيطالية وشركة توتال الفرنسية تستحوذ بموجبها الشركة القطرية على 25% من امتياز أعمال الاستكشاف والمشاركة بالإنتاج في ثلاث مناطق بحرية قبالة شواطئ كينيا، بواقع 13.75% من شركة إيني و11.25% من شركة توتال، حيث يغطي الامتياز كلاً من المناطق L11A وL11B وL12 الواقعة في المياه البحرية شرق كينيا، وكانت حكومة أوهورو كينياتنا اعتمدت هذه الاتفاقيات مؤخرًا بشكل رسمي.
ونشير هنا إلى وجود خلاف كيني صومالي في هذا الصدد، إثر طَرْح الحكومتين عطاءات التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة البحرية، الواقعة على الحدود بين مقديشو ونيروبي، وهي منطقة متنازع عليها بين الطرفين، ووصل النزاع بين الدولتين، إلى محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قضائية تابعة لهيئة الأمم المتحدة، للنظر في شأن ترسيم الحدود البحرية في المحيط الهندي، ولكن تردد مؤخرًا أن قطر تقود وساطة هادئة لحللة الموضوع بشكل وُدّي إذ تتمتع الدوحة بعلاقاتٍ متميزة مع كلا الطرفين.
الشيء الآخر الذي تراهن عليه كينيا لتحسين اقتصادها ورفع معدلات النمو هو تطوير البنية التحتية خاصة ميناء مومباسا، فقد أنشأت الحكومة الكينية بتمويل صيني يندرج ضمن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، مشروع قطار يربط العاصمة نيروبي بميناء مومباسا تم افتتاحه في العام 2017.
أسمهت خطوط السكة الحديدية بين مومباسا ونيروبي في تنمية الاقتصاد بنسة 1.5%، ووفقًا لتقديرات الحكومة الكينية، من المفترض أن يقلل الخط تكاليف الترحيل والشحن في منطقة شرقي إفريقيا بنسبة 79% والتكلفة التجارية بنسبة 40%، فيما تجري في الوقت الحاليّ، عملية توسيع ميناء مومباسا، ومن المتوقع أن ترتفع قدرة التفريغ والشحن للميناء من 19 مليون طن إلى أكثر من 30 مليون طن سنويًا، بحلول سنة 2030 بعد انتهاء المرحلة الأخيرة من التوسعة.
ساهمت صناعة السياحة في كينيا بما مجموعه 294.6 مليار شلن (2.9 مليار دولار) في اقتصاد البلاد عام 2017
مستقبل جيّد ينتظر الاقتصاد الكيني إذا أحسنت نيروبي اقتناص فرصة تصدير النفط وقامت بإنشاء مصافٍ عالمية لتكريره ومعالجته، كما ينبغي عليها إيجاد حلول للمشكلات الداخلية والنزاعات مع دول الجوار، والحكومة الكينية تعتبر صديقة للاستثمار بشكل عام، فقد سنّت العديد من الإصلاحات التنظيمية لتبسيط الاستثمار الأجنبي والمحلي، بما في ذلك إنشاء منطقة لمعالجة الصادرات، مما جعل البلاد تحقق طفرة كبرى في مجال سهولة الأعمال، ففي العام الماضي، احتلت كينيا المرتبة 61 في تصنيف البنك الدولي لسهولة القيام بالأعمال التجارية، ارتفاعًا من المرتبة 80 عام 2017 (من 190 دولة).
ويمكن أن تشهد البلاد مزيدًا من التدفقات المالية الأجنبية في ظل التنافس المحموم على القارة السمراء بين القوى الاقتصادية الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان، كما تمتلك كينيا بنية تحتية اجتماعية ومادية متطورة مقارنة بجيرانها، ويمكن أن يساعد ذلك في تنشيط السياحة بصورة أفضل مما هي عليه الآن، حيث ساهمت صناعة السياحة في كينيا بما مجموعه 294.6 مليار شلن (2.9 مليار دولار) في اقتصاد البلاد عام 2017، وهو ما يمثل نحو قرابة 4% من إجمالي الناتج المحلي.