في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، كشفت وزارة العدل الأمريكية عن واحدة من أكبر عمليات الاحتيال الرقمي على الشبكة العنكبوتية، والتي انتهت باعتقال 8 أشخاص، معظمهم من روسيا، بسبب اختلاسهم نحو 36 مليون دولار أمريكي من الشركات التي اعتقدت أنها تدفع الأموال مقابل إظهار إعلاناتها على مواقع الإنترنت، ولكن لم يسبق لأي إنسان رؤيتها، فلقد خلق المتهمين عالم رقمي وهمي، من خلال صنع شبكة كاملة مكتظة بالروبوتات لمحاكاة مليارات الزيارات والمشاهدات لصفحات الحقيقية.
في حادثة أخرى تسبقها بعام واحد، تداولت وسائل الإعلام أخبارًا عديدة عن “مزارع النقرات” أو كما تُسمى بالإنجليزية “Clicks Farmes”، وهو المصطلح الذي يطلق على العمال ذوي الأجور المنخفضة الذين يتم الدفع لهم كي يمضوا الوقت ينقرون على روابط إعلانات مدفوعة أو إبداء الإعجاب بمنشورات صفحة معينة، وذلك من أجل تلقي الأموال من الشركة التي ترغب في رفع حركة المرور على موقعها أو صفحتها في مواقع التواصل الاجتماعي.
فتحت هذه الحوادث وغيرها أبواب من الأسئلة حول مقدار المحتوى الوهمي على الإنترنت، فلقد وجدت الدراسات أن أكثر من 40% من الشبكة العملاقة مزيفة، كما أظهرت أن المستخدم البشري مسؤول عن أقل من 60% من حركة المرور التي تجري على صفحات الإنترنت الإلكترونية، فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واسع على الشبكة العملاقة، شاع المحتوى الوهمي والزائف وباتت الروبوتات تشبه في سلوكها الحركات البشرية، ولم يعد يُعرف ما هو الحقيقي على الإنترنت.
ما المزيف في الإنترنت؟
في عام 2013، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن نصف عدد زيارات موقع يوتيوب كان من قبل أشخاص وهميين وأطلقوا على هذه الظاهرة الافتراضية اسم “الانقلاب”، ليس لأن عدد الروبوتات يفوق عدد البشر على الإنترنت، بل لأن نشاطها بات أكثر نشاطًا وتـأثيرًا من المستخدم البشري، فكيف ذلك؟
أولًا: أدوات قياس وهمية
تهتم المواقع والحسابات الرقمية في قياس حركة المرور على صفحاتها، وعلى ذلك يجب أن تكون المقاييس هي الشيء الأكثر واقعية على الإنترنت، فهي قابلة للعد ويمكن تتبعها بسهولة، كما يمكن التحقق منها، ومع ذلك لا تسير الأمور بهذه السهولة والسلاسة حتى بالنسبة لأكبر شركات التكنولوجيا في العالم.
ففي وقت سابق، تم رفع دعوى ضد شركة فيسبوك في كاليفورنيا، بتهمة المبالغة الكبيرة في تقدير متوسط الوقت الذي يقضيه المستخدمون في مشاهدة مقاطع الفيديو الإعلانية على المنصة بنسبة تتراوح بين 60 و80% بحسب ادعاء فيسبوك، بينما يقول المعلنين أنه كان أكثر من 150 إلى 900%. وحينها ردت فيسبوك قائلة بأنها اكتشفت خطأ في الطريقة التي تحسب بها أحد معايير مشاهدة الفيديو لديها ولكنها أبقت الأمر سرًا ولم تفعل أي شيء حيال ذلك إلى أن رُفعت الدعوة.
فلقد كانت تعيش في حالة تحدي مع شركة يوتيوب التي تهيمن على صناعة الفيديو في السوق الرقمي ولذلك أرادت أن توهم وكالات الإعلام والناشرين بأن استثماراتهم سوف تنمو بشكل أكبر على منصتها، ولكن هذه الفضيحة أحبطت زبائنها الذين لم يعودوا يثقوا بتلك المقاييس، فعلى الرغم من أن المشاهدين أناس حقيقيين إلا أن الدقائق كانت وهمية والأرقام كاذبة.
ثانيًا: الناس وهمية
لم يرغب يوتيوب الوقوع في فخ الأوهام، ولذلك قام الموقع بتطهير جميع الحسابات العشوائية منعًا لانتشار الزيارات والمشاهدات الزائفة والمشتركين الوهميين أيضًا. ولكن بعد مضي وقت قليل، وجدت مجلة “نيويورك تايمز” بأنه يمكن شراء نحو 5 آلاف مشاهدة من موقع يوتيوب مقابل ما يصل إلى 15 دولار فقط، وغالبًا ما تستخدم هذه الحيلة على الفيديوهات الإعلانية القصيرة لكي يتم إقناع الشركات التجارية بأن منتجاتهم تصل إلى الناس. وعادةً ما تستخدم “مزارع النقرات” لهذه المهمة أو برامج الروبوتات.
ثالثًأ: المحتوى وهمي
على مدار السنوات الماضية، باتت الأخبار الكاذبة والحسابات الوهمية عثرة أمام شركات التكنولوجية التي راحت تطور آليات وتقنيات جديدة للسيطرة على هذه السموم الرقمية، ولا سيما شركتي فيسبوك وتويتر التي واجهت مطالب متزايدة لمراقبة المحتوى الذي ينشر على منصاتها، وخاصةً أن العديد من هذه المنشورات والمعلومات المضللة أثرت بشكل كبير على اتجاهات التصويت في الانتخابات في أكثر من دولة.
انتهى بنا المطاف وسط اشخاص مزيفين ونقرات مزيقة ومواقع مزيفة، إلا أن الشيء الحقيقي الوحيد هو الإعلانات.
الأسوأ من ذلك، أن التزييف لم يقف عند حد المنشورات أو الأخبار المكتوبة، فلقد طورت عدة شركات تكنولوجية مجموعة من الأدوات الرقمية التي تستطيع من خلالها التلاعب بالصور والفيديوهات عبر دمج وجه وصوت الشخصية التي نرغب في انتحالها أو تشويه سمعتها مثلًا.
بالمحصلة، يرى الخبراء الرقميين بأننا نحن أنفسنا مزيفون، يعني أننا نخدع في الاختبارات القصيرة التي تملأ صفحات الإنترنت ونشارك النتائج مع الآخرين “لإثبات” أننا أذكياء أو طموحين، ونتظاهر بأننا فخورون بأطفالنا وشركائنا حتى عندما لا نكون كذلك حقًا، وبالمقابل، نعجب بصور الأشخاص الآخرين حتى وإن لم نكن نحبهم أو نعجب بما كتبوا أو نشروا. ما يعني أننا بطريقة ما انتهى بنا المطاف وسط اشخاص مزيفين ونقرات مزيقة ومواقع مزيفة، إلا أن الشيء الحقيقي الوحيد هو الإعلانات التجارية التي تغرق صفحاتنا، محاولة إقناعنا بسلعة أو منتج جديد في كل مرة.