جدل كبير أحدثته التصريحات الصادرة عن العاهل الأردني، عبدالله الثاني، خلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في البيت الأبيض، عقب اللقاء الذي جمعهما، الثلاثاء 11 شباط/ فبراير 2025، والذي ناقش مقترح التهجير المزعوم ومخطط توطين الغزيين خارج فلسطين.
ورغم أن المُعلن إعلاميًا عدم انعقاد مؤتمر صحفي عقب لقاء الزعيمين، والذي وُصف بـ”الاجتماع المغلق”، إلا أن العاهل الأردني فوجئ بوسائل الإعلام والصحفيين وسيْل جارِف من الأسئلة الحرجة والمفاجئة، والتي أبدته في صورة المهزوز غير القادر على التعبير صراحة عن موقف بلاده من قضية تهجير الغزيين، خشية إغضاب ترامب وإدارته.
جاءت إجابات الملك الأردني صادمة للجميع، لغة وجسدًا، تمييعٌ للموقف ودبلوماسية فضفاضة، تعكس حالة قلق فاضحة من التجرؤ على حسم هذا الملف بالإعلان نهائيًا، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، وأمام الرئيس صاحب المقترح ذاته، بالرفض المطلق وغلق تلك الصفحة والتأكيد على ضرورة بحث حلول أخرى أكثر عدالة وواقعية، وتعبّر عن الموقف العربي الثابت إزاء القضية الفلسطينية، التي تعتبر القضية العروبية الأولى والأهم حاليًا.
لغة هشة تخدم مقترح ترامب
العاهل الأردني خلال المؤتمر المفاجئ أكد في بداية الأمر دعْمَ ترامب لما أسماه “إحلال السلام” في المنطقة، وردًا على مقترح تهجير سكان القطاع إلى البلدان المجاورة، تجنّب الرفض صراحة، قائلًا: “علينا أن نضع في الاعتبار كيفية تنفيذ هذا الأمر بما يخدم مصلحة الجميع”.
غير أن اللافت هنا هو إبداء الملك استعداد بلاده استقبال 2000 طفل مريض من غزة، وهي الرسالة التي قرأها البعض بلغة يبدو عليها القلق، كونها خطوة أولى نحو فتح الباب أمام المزيد من عمليات الاستقبال اللاحقة تحت أي مسمى، تارة للعلاج، وأخرى للمِّ الشمل، وثالثة للبحث عن فرص عمل، وهكذا يتم تمرير المخطط بشكل تدريجي وبغطاء إنساني.
هذا الخطاب المائع الصادر عن عبدالله الثاني، والذي يعكس حجم الضغط الذي مُورس عليه خلال لقاء ترامب المغلق، شجّع الرئيس الأمريكي على تجديد الحديث عن مقترح التهجير مرة أخرى أمام وسائل الإعلام العالمية في وجود أحد الأطراف المعنيين، قائلًا: “الفلسطينيون سيعيشون بأمان في مكان آخر غير غزة، وأدرك أننا قادرون على التوصل إلى حل”.
وتابع: “أعتقد أنه ستكون هناك قطع من الأرض في الأردن ومصر يمكن أن يعيش فيها الفلسطينيون. أعتقد بنسبة 99% أننا سنتمكن من إنجاز شيء مع مصر أيضًا”.
وأعاد الرئيس الأمريكي ما كان قد ألمح إليه سابقًا بشأن السيطرة على الضفة الغربية، وبسؤاله عن السلطة التي تخوّله السيطرة على القطاع، أجاب: “بموجب السلطة الأمريكية”، دون الدخول في تفاصيل حول حقيقة وقانونية صلاحيات السلطة الأمريكية التي تسمح لها بالسيطرة على منطقة في بلد آخر. وردًا على سؤال عن ضم إسرائيل للضفة الغربية، قال ترامب: “الأمر سينجح”، وإن كان هذا ليس وقته الآن.
الملاحظ هنا تراجع ترامب عن بعض المسائل التي كان قد أعلن عنها في تصريحات سابقة، على رأسها شراء غزة على حد قوله، حيث عدّل هذا التصريح في المؤتمر الصحفي قائلًا: “سندير غزة بشكل صحيح للغاية ولن نشتريها”.
كذلك، تراجع عن تهديده بوقف المساعدات الأمريكية المقدمة لمصر والأردن ورهنها بالموافقة على استقبال عدد من فلسطيني القطاع، مضيفًا: “نقدم أموالًا كثيرة للأردن ومصر، لكننا لن نصدر تهديدات بشأنها”.
تخفيف صدمة التصريحات
رد الفعل الصادم إزاء تصريحات العاهل الأردني خلال المؤتمر الصحفي مع ترامب دفعه، بعد انتهاء اللقاء، للهرولة نحو منصات التواصل الاجتماعي للتخفيف من حدة الانتقادات التي وُجّهت إليه، حيث كتب على منصة “إكس” قائلًا: “أنهيتُ للتو مباحثات بناءة مع الرئيس ترامب في البيت الأبيض، ممتنون لحسن الضيافة. بحثنا الشراكة الراسخة بين الأردن والولايات المتحدة، وأهميتها في تحقيق الاستقرار والسلام والأمن المشترك”، وتابع: “مصلحة الأردن واستقراره، وحماية الأردن والأردنيين بالنسبة لي فوق كل اعتبار”.
وأكد الملك مجددًا على “موقف الأردن الثابت ضد التهجير للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. وهذا هو الموقف العربي الموحد، يجب أن تكون أولوية الجميع إعادة إعمار غزة دون تهجير أهلها، والتعامل مع الوضع الإنساني الصعب في القطاع”، وأردف: “السلام العادل على أساس حل الدولتين هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار في المنطقة”.
لم تكتفِ المملكة بتغريدة عاهلها لتجميل المشهد، إذ يبدو أنها لم تُقنع أحدًا ممن تابع المؤتمر الصحفي على الهواء مباشرة بالصوت والصورة ولغة الجسد، ليدخل نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية وشؤون المغتربين الأردني، أيمن الصفدي، على خط التبرير، مشددًا على أن الملك عبد الله الثاني أكد الموقف الأردني الثابت بأن حل القضية الفلسطينية يتم من خلال تجسيد الدولة الفلسطينية على التراب الفلسطيني وتثبيت وقف إطلاق النار في غزة.
أنهيت للتو مباحثات بناءة مع الرئيس ترمب في البيت الأبيض. ممتنون لحسن الضيافة. بحثنا الشراكة الراسخة بين الأردن والولايات المتحدة، وأهميتها في تحقيق الاستقرار والسلام والأمن المشترك.
— عبدالله بن الحسين (@KingAbdullahII) February 11, 2025
وأضاف الصفدي، في مقابلة مع قناة “المملكة”، أن “عبد الله الثاني أكد للإدارة الأمريكية أهمية تثبيت سكان غزة في قطاع غزة، وأن الأردن مستمر في حل القضية الفلسطينية على التراب الوطني الفلسطيني وفق حل الدولتين، وأن الأردن سيعمل وفق مصالحه، وهي أن الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين”، وأن التهجير ليس في مصلحة الأردن، الذي لن يسمح بتهجير الفلسطينيين إلى أراضيه.
هذا التضارب في التصريحات يعكس حجم الضغوط التي تعرض لها العاهل الأردني خلال لقائه مع ترامب، الذي ليس من المستبعد أن يُشهِر العديد من الأوراق والأسلحة التي يمكن من خلالها إجبار عبدالله الثاني على الرضوخ، خاصة في ظل ما تعانيه المملكة من وضعية اقتصادية وسياسية وأمنية هشة.
وتتلقى المملكة الأردنية معظم ميزانياتها من الموارد الأمريكية، وتعتمد في كثير من تسليحها وقدراتها العسكرية على الدعم الأمريكي، هذا بخلاف الهاجس الذي يخيم على الأسرة الهاشمية المالكة بشأن الانقلاب على نظام الحكم في المملكة في ظل الاضطراب السياسي الداخلي، الذي تحول مع مرور الوقت إلى خنجر في ظهر السلطة.
إلقاء الكرة في الملعب المصري
“يجب أن ننتظر لنرى خطة من مصر” .. بهذه العبارة فجّر العاهل الأردني مفاجأة من العيار الثقيل خلال المؤتمر الصحفي مع ترامب، حيث ألقى الكرة بكامل استدارتها في الملعب المصري، محمّلًا إياه المسؤولية شبه الكاملة، وهو ما لم يكن في الحسبان حتى لدى القيادة المصرية، التي من المؤكد فوجئت بمثل هذا التصريح.
حاول عبدالله الثاني الهروب من الفخ الذي حاول الإعلاميون اصطياده من خلال إحراجه وحثه على الحديث علانية وبشكل واضح عن مقترح التهجير الذي طرحه ترامب، عبر توجيه الدفة نحو القاهرة، التي تحجج بها وبخطتها المزمع تقديمها لحسم الموقف بشكل نهائي.
وبينما كان يُتوقع أن يتحدث العاهل الأردني عن موقف بلاده إزاء هذا المقترح العنصري بشكل واضح لا لبس فيه، خاصة وأن القضية وصلت لمستوى غير قابل لأي مواءمات أو مقاربات أو ضبابية في المواقف، إذ به يتهرب من المواجهة، ويضع مصر وحدها في مواجهة ترامب وإدارته، في مشهد أثار الكثير من التساؤلات والجدل.
بين المناورة والانبطاح
انقسم المتابعون للمشهد الفلسطيني والعربي بصفة عامة إزاء تصريحات عاهل الأردن إلى قسمين:
الأول: قسم يبرر تلك التصريحات التي وصفها بأنها تأتي في سياق “المناورة”، حيث حرص عبدالله الثاني، الذي فوجئ بالمؤتمر الصحفي عكس المتفق عليه، على تجنب الصدام مع ترامب، بالإعلان صراحة عن رفض مقترح التهجير بشكل قاطع، منتهجًا دبلوماسية المراوغة للخروج من هذا الفخ.
أنصار هذا الرأي يرون أن العاهل الأردني لم يوافق على التهجير، صراحة أو ضمنيًا، لكنه أبقى الباب مفتوحًا أمام مناقشة هذا الملف، متحججًا بانتظار الخطة المصرية، المتوقع أن تقدم البديل المحتمل (العرض المضاد)، في محاولة لكسب المزيد من الوقت والهروب من هذا الفخ المنصوب لإحراجه.
الثاني: قسم يرى في هذا الموقف استمرارًا لسياسة الخذلان التي تتبعها المملكة منذ بداية حرب غزة، والمتمثلة في التزام الصمت العملي إزاء الانتهاكات التي يتعرض لها القطاع على مدار أكثر من 15 شهرًا، هذا بخلاف دور عمّان في دعم الكيان المحتل اقتصاديًا منذ اليوم الأول للمعركة، حيث كانت أحد أهم الجسور التي تمد إسرائيل بالسلع والبضائع في محاولة لإنهاء العزلة المفروضة عليها من قبل الحوثيين في البحر الأحمر.
ظهر ملك #الأردن ضعيفاً مهزوزاً أمام ترامب، حركات عيونه المتسارعة كانت تُظهر حالة من الارتباك والضعف، وبذهابه لأمريكا أضعف عموم الموقف العربي..
ملك الأردن أعلن صراحةً موافقته على خطة ترامب للتطهير العرقي، حين صمت على كلامه باقتطاع قطعة أرض من الأردن لصالح أهل #غزة، وتارةً آخرى… pic.twitter.com/Pw7T1ERuv1
— أدهـم ابراهيم أبـو سلميـة (@pal00970) February 11, 2025
الداعمون لتلك الرؤية يميلون إلى أن العاهل الأردني حريص على الحفاظ على نظامه وكرسيه وعرشه بما يضمن توريثه لأبنائه وأحفاده، بصرف النظر عن أي اعتبارات أو حسابات أخرى، مستشهدين بالعلاقات القوية التي تجمعه بالعواصم الأوروبية والأمريكية الداعمة للكيان المحتل، هذا بخلاف موقف بلاده من المناصرين للمقاومة، حيث كان اعتقالهم والزج بهم في السجون السمة الأبرز طيلة الأشهر الماضية.
ويستشهد هذا الفريق لتبرير رؤيته بتجنب ملك الأردن التعليق على حديث ترامب عن الضفة الغربية وضمها لإسرائيل، وذلك حين سأله أحد الصحفيين خلال المؤتمر المشترك عما إذا كان مخطط الضم سينجح أم لا، حيث أجاب الرئيس الأمريكي بأنه سينجح بشكل تلقائي، دون أن يتدخل العاهل الأردني بأي كلمة ردًا على تلك التصريحات الاستفزازية.
السيسي يرجئ زيارته لواشنطن
لا شك أن ما حدث مع العاهل الأردني في البيت الأبيض، والضغوط التي تعرض لها خلال لقائه مع ترامب، ومن بعدها التصريحات الحرجة التي أجبر على الإدلاء بها خلال المؤتمر الصحفي، ستلقي بظلالها على الزيارة المحتملة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ورغم أنه لا توجد تأكيدات بشأن تلك الزيارة ولا توقيتها، إلا أن الرئيس الأمريكي كان قد صرح سابقًا بأنه سيتحدث مع الرئيس المصري بشأن خطته لغزة وعن استقبال القاهرة لسكان القطاع، وهو التصريح الذي أكدت عليه بعض المؤشرات التي فرضت نفسها على الساحة مؤخرًا.
وإن كانت احتمالات زيارة السيسي لواشنطن كبيرة قبل أيام، فإن الوضع تغيّر بشكل لافت بعد زيارة العاهل الأردني، وفق ما ذهبت إليه صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، التي نقلت عن مسؤولين مصريين قولهم إن السيسي قلق بشأن الصورة العامة إذا ما زار واشنطن والتقى الرئيس الأمريكي بعد دعوته مصر والأردن لاستقبال أهالي غزة.
وأضافت الصحيفة، نقلًا عن المسؤولين، أن الرئيس المصري يشعر بالقلق من احتمالية الضغوط التي قد يتعرض لها خلال تلك الزيارة وما قد ينجم عنها من مخاطر في ظل التأكيد المصري المستمر على رفض مقترح ترامب شكلًا ومضمونًا، وهو ما أدى إلى إرجاء الزيارة لأجل غير مسمى، وفق بعض التسريبات الإعلامية، فيما قالت وكالة “رويترز” إن السيسي لن يشارك في محادثات في البيت الأبيض إذا كان تهجير غزة ضمن أجندتها.
الخطة المصرية.. إعمار بلا تهجير
عقب التصريحات الجدلية لملك الأردن وإلقاء الكرة في الملعب المصري، نشرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا على صفحتها على “فيسبوك” كشفت فيه عن تصورها لإعادة إعمار قطاع غزة، قالت فيه إنّ “جمهورية مصر العربية تعرب عن تطلعها للتعاون مع الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب من أجل التوصل إلى سلام شامل وعادل في المنطقة، وذلك من خلال التوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية تراعي حقوق شعوب المنطقة”.
وأضافت الخارجية في بيانها أن التصور المطروح لإعادة إعمار القطاع بشكل كامل يتضمن بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه، وبما يتسق مع الحقوق الشرعية والقانونية لهذا الشعب.
وشددت على “أنّ أي رؤية لحل القضية الفلسطينية ينبغي أن تأخذ في الاعتبار تجنب تعريض مكتسبات السلام في المنطقة للخطر، بالتوازي مع السعي لاحتواء والتعامل مع مسببات وجذور الصراع، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وتنفيذ حل الدولتين باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والتعايش المشترك بين شعوب المنطقة”.
وأجرت القاهرة خلال الأيام الماضية جهودًا دبلوماسية مكثفة لتدشين موقف إقليمي ودولي مناهض لمقترح التهجير المطروح، حيث أشارت الخارجية المصرية في بيانات منفصلة إلى إجراء الوزير بدر عبد العاطي سلسلة من الاتصالات مع عدد من وزراء خارجية الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي، ومن ضمنها السعودية وباكستان وإيران والأردن، وذلك لبحث التطورات على صعيد القضية الفلسطينية.
وتوصلت تلك الاتصالات، من حيث المبدأ، إلى عقد اجتماع وزاري طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي بعد القمة العربية الطارئة المقرر عقدها في القاهرة يوم 27 شباط/ فبراير الحالي، بهدف التأكيد على ثوابت الموقف الفلسطيني والعربي والإسلامي بشأن القضية الفلسطينية، وترسيخ حقوق الشعب الفلسطيني في حق تقرير المصير والعيش في وطنه وعلى أرضه.
بالمحصلة..
نجح العاهل الأردني بتصريحاته المنبطحة (المناورة بحسب وصف آخرين) وتمييع (دبلوماسية وفق تسمية البعض) موقفه إزاء مقترح التهجير، في إبعاد بلاده، مؤقتًا، عن الصدام مع ترامب، ليلقي الكرة في ملعب القاهرة، التي باتت بمفردها في مواجهة الإدارة الأمريكية، التي من المتوقع أن تُمارس ضغوطها المعتادة لإجبار السيسي على الرضوخ.
ويسابق المصريون الزمن عبر حراك دبلوماسي مكثف لتدشين موقف عروبي إقليمي قادر على التصدي لهذا المخطط، من خلال تقديم خطة بديلة جاهزة تضمن بقاء الغزيين داخل القطاع، وتحول دون تكرار سيناريو النكبة مرة أخرى، هذا التصدي الذي يحتاج إلى تضافر كافة الجهود الإقليمية وإشهار مختلف أوراق الضغط المملوكة لدى البلدان العربية، في اختبار وجودي ربما يكون الأصعب منذ عقود طويلة.