“يا الله، نحن نحمدك ونمجدك، على نعمك؛ على كوش
أرض الوفرة العظيمة
أيدّنا متحدين في سلام وتناغم
يا وطننا الأم
نرفع العلم مع نجمه المرشد
ونغني أغنية الحرية بسعادة”.
مقطع من النشيد الوطني للدولة الوليدة، لجنوب السودان
النوبة
في صحراء شمال أفريقيا وتحت شمسها الحارقة، ازدهرت حضارة قوية امتدت لآلآف السنين. ملوك وملكات شيدوا معابد ضخمة ودفنوا موتاهم في أبنية مهيبة على شكل أهرامات. لم تكن مصر، ولا هم كانوا قدماء المصريين؛ بل هي السودان، حيث حضارة كوش ومملكة النوبة على ضفاف النيل. بدأت النوبة فيما يعرف بالسودان الآن منذ حوالي 2000 عام قبل الميلاد.
أُطلق لفظ السودان على كل ما يقع جنوب الصحراء الكبرى، وبمرور الزمن، وتوالي الحضارات وانحسارها، وتبدل موازين القوى ونشوء الدول والتحالفات
على مدار سنوات طويلة، كان الصراع بين فراعنة مصر وأفارقة النوبة على أشده، حتى فازت الحضارة المصرية بصدارة المشهد لعمر طويل، ساهم فيه فك رموز لغتها باكتشاف حجر رشيد عام 1822، فيم لم يتحقق المثل للغة النوبية بعد. أفارقة وفنانون سابقون لعصرهم، كبرت حضارتهم مستقلة تمامًا عن الحضارة الفرعوينة لآلآف السنوات. في العام 1920 كشف جورج رايزنر الستار عن حضارة النوبة، تجد بالسودان اليوم ما يعادل تقريًبا ثلاثة أضعاف عدد أهرامات مصر، عرف العالم تتابع ملوكهم وملكاتهم وأسمائهم، وظلت القصص محجوبة وراء النصوص المكتوبة بلغة لا تزال غير مفهومة.
أُطلق لفظ السودان على كل ما يقع جنوب الصحراء الكبرى، وبمرور الزمن، وتوالي الحضارات وانحسارها، وتبدل موازين القوى ونشوء الدول والتحالفات، انتهى الأمر بالمنطقة الواقعة بين دائرتي عرض 4 و 22 شمالًا كدولة السودان. تميزت السودان دومًا بتلاقي العديد من الأعراق والديانات، كما كانت أرضًا لحضارات موغلة في القدم، وربما كان هذه التنوع الشديد سببًا في انفصال جنوب السودان في يوليو 2011، بعدما أدى لتناحر ولحروب أهلية خسر فيها الملايين أرواحهم ونزح وهاجر ملايين آخرين.
عرب وأفارقة
في جامعة جوبا في جنوب السودان، ولد النشيد الوطني كلماتًا وألحانًا، شاهدًا عليه عميد كلية الفنون والموسيقى الدكتور محمد علي، مسلمًا عربيًا وشماليًا أيضًا. يقول دكتورعلى: “الحياة هنا فيها تسامح وفيها تداخل والناس كلهم طيبون لأنها طبيعتهم هكذا. هم طيبون. لا أكاد أشعر بأي نوع من أنواع التمييز”. يضيف دكتور على أن المجتمع الجنوبي به الكثير من القبائل وكل منها له ثقافته وعاداته، تجد المسيحي والمسلم واللاديني جميعهم يمثلون له الوطن. تبدو نظرته متفائلة قليلًا وربما غير مقنعة لما يراه الجنوبين. “العرب لا يحترمونا، العرب لا يعطوننا حقوقنا، العرب لا يحترمون كرامتنا، لا يعدوننا كبشر”. أحد مواطني جنوب السودان.
في حي مايو الفقير جدًا جنوب الخرطوم الذي يسكنه أغلب النازحين بعد النزاعات المسلحة في دارفور، يعيش موسى وزوجته مع أسرتهما الممتدة بعدما انتقل للحي في سن المدرسة
استقلت السودان عن الثنائي الاستعماري المصري-البريطاني في يناير 1956، ولكن لم يهنأ البلد بالوضع الجديد، أربعة أشهر فقط قبيل الاستقلال، قامت الحرب الأهلية الأولى في أغسطس 1955 إثر تمرد في جنوب السودان خلّف مئات القتلى من الشماليين والعشرات من الجنوبيين.
وبحسب عصام الدين ميرغني طه العميد السابق بالجيش السوداني، فإن ما وراء التمرد هو تاريخ طويل من الأحقاد وعدم الثقة بين الجنوبين والشماليين، ويراه خاتمة متوقعة لتخبط سياسة الحكومة البريطانية تجاه الوضع الإداري الجنوبي. ظل الأمر ما بين نظام ديموقراطي وانقلاب، حتى الانقلاب الثالث والأخير في العام 1989 بقيادة عمر البشير المدعوم من الإسلاميين، مع إهمال تام لمشكلات الجنوب، وزيادة التضييق الديني على المسيحيين. في حي مايو الفقير جدًا جنوب الخرطوم الذي يسكنه أغلب النازحين بعد النزاعات المسلحة في دارفور، يعيش موسى وزوجته مع أسرتهما الممتدة بعدما انتقل للحي في سن المدرسة. “مجرد ما ودوني في المدرسة قالوا لأبويا ولدك بيقرا دين بتاع كفار وبيقرا إنجليزي، نحن هنا ما عندنا إنجليزي. ولدك لازم يقرا تربية إسلامية” وقد كان، ولم ينجح موسى في التربية الإسلامية ودخل الصف الثالث الابتدائي مرة ثانية بسببها. عاد موسى للوطن في 2011 بعد الانفصال.
اشتدت شوكة حركات التمرد لينتهي الأمر بحرب أهلية مستمرة لنصف قرن، انتهت بمنح الجنوبيين حق تقرير المصير بموجب اتفاقية نايفاشا، وصوتوا بنسبة فاقت 98% على الانفصال في يناير 2011.
الخرطوم الاستعمارية
الخرطوم هي المدينة النابضة الحداثية التي قامت ناظرة تجاه الحضارة الغربية كتكوين ليبرالي. يرى الدكتور إدريس سالم الحسن أستاذ الاجتماع وعميد كلية الآداب بجامعة إفريقيا العالمية، أنه وبالنظر للخرطوم، تستطيع أن تميز في مبانيها الرسمية كالقصر الجمهوري والجامعة، مقاربة مع البندقية من حيث الشكل والتصميم، حيث أنها مدينة قد بنيت على أعين الاستعمار.
كانت المظاهرات احتجاجا على ارتفاع الأسعار والبطالة والتضخم في سعر العملة كما الحال في معظم دولنا العربية، ولكن اللافت في الأمرربما هو المشاركة الكبرى للنساء في الاحتجاجات منذ بدايتها
هذا لا ينفي أن بها مناطق ممتدة من غرب وشرق إفريقيا بالطبع. تفسر هذه الرؤية قدرة الخرطوم بما تمثله من سيطرة سياسية على تفريغ الحركات المتمردة الجنوبية من أفكارها وإقحامها في البرلمان الواقع في المدينة، بدون تقديم حلول حقيقية للأزمة، وتركها تتفاقم حد الانفجار. خارج المركز قليلًا تجد حي مانديلا، مطوقًا المدينة كحزام من الأكواخ العشوائية التي تضم آلاف الجنوبين الذين نزحوا خلال عقود الحروب الأهلية التي لم تفلح الخرطوم في السيطرة عليها. يقول أحد الجنوبيين من سكان مانديلا: “نريد العودة لبلادنا، حتى ولو لم يتوافر عمل هناك، ستظل أراضينا. لا تشعر فيها أنك موجود لوقت مؤقت كما نحيا الآن في الخرطوم “.
شمال غير راض أيضًا
في ديسيمبر 2018 طالت موجة من موجات الربيع المتأزمة السودان. كانت الخرطوم تفيض بالأمل. ثورة ضد البشير والهواء معبق بالموسيقى. “فيه سودان جديد قاعد يحصل” كان هذا إيمان المتظاهرين والمرابطين في الشوارع. أسقطت المظاهرات البشير في أبريل 2019 وتولى مجلس عسكري انتقالي الحكم.
كانت السودان لتكون عملاقًا أفريقيا ذو تجربة إنسانية نادرة، بكل هذا التعدد الثقافي واللغوي والديني والعرقي، لو كان نجح في التعايش
كانت المظاهرات احتجاجًا على ارتفاع الأسعار والبطالة والتضخم في سعر العملة كما الحال في معظم دولنا العربية، ولكن اللافت في الأمر ربما هو المشاركة الكبرى للنساء في الاحتجاجات منذ بدايتها، حتى أن البعض ذهب للقول إن الثورة السودانية أنثى. وفي بلد مثل السودان وما به من تمييز جندري ضد المرأة حيث تتعرض نسبة 90% من النساء للختان، ويستخدم الجلد كعقوبة لاستبعاد النساء من الحياة العامة والنساط السياسي، فإن هذه المشاركة ستظل -ولو لم تصل الثورة لأهدافها- عملًا شجاعًا نبيلًا.
كانت السودان لتكون عملاقًا أفريقيًا ذو تجربة إنسانية نادرة، بكل هذا التعدد الثقافي واللغوي والديني والعرقي، لو كان نجح في التعايش. كان من المفترض أيضًا أن تنجح الثورة في الشمال لولا عادة الجيوش العربية في إجهاض الثورات. يبدو أن السودان في حالتيه، سودان أو سودان وجنوب السودان، لم يستطع إلا أن يكون،-للآن على الأقل-، أرضًا للأحلام الضائعة.