ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب: برونو تيرتريه وميشيل إلتشانينوف
في مقال رأي مشترك، شرح كل من الخبير في الشؤون السياسية برونو تيرتريه، والفيلسوف ميشيل إلتشانينوف، دبلوماسية فلاديمير بوتين وحذّرا من خطورة ما أطلقا عليه اسم “وهم بنية أمنية جديدة” في أوروبا.
راهن إيمانويل ماكرون خلال اللقاء الذي جمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم 19 آب/ أغسطس في قلعة بريغانسون، على عودة التقارب الروسي الأوروبي. وقد أكد ماكرون على أهمية هذا الرهان عقب الخطاب الرئاسي الذي ألقاه في مؤتمر السفراء بعد أسبوع من لقائه ببوتين.
بحلول سنة 2020، سيكون قد مضى على توقيع ميثاق باريس، الذي أعاد سنة 1990 تعريف القواعد الأمنية في القارة الأوروبية، ثلاثون عاما، لذلك سيكون من غير المشروع إعادة النظر في هذه القضية
لا يمكن أن نعاتب الرئيس الفرنسي على تغيير موقفه تجاه روسيا، فخلال سنة 2018، أعلن عن نيته إحراز تقدم بشأن العلاقات الأوروبية الروسية مستنكرا ما أسماه “بالأخطاء وسوء التفاهم” التي شابت هذه العلاقات الروسية الغربية منذ نهاية الحرب الباردة، مشيرا إلى الحاجة الملحة “للتفكير من جديد في هندسة أمن القارة”، هذا بالإضافة إلى الإعراب عن نيته عرض “شراكة استراتيجية” مع روسيا.
بحلول سنة 2020، سيكون قد مضى على توقيع ميثاق باريس، الذي أعاد سنة 1990 تعريف القواعد الأمنية في القارة الأوروبية، ثلاثون عاما، لذلك سيكون من غير المشروع إعادة النظر في هذه القضية. ولكن الرئيس الفرنسي استخدم مصطلحا دبلوماسيا فرنسيا تكرر خلال الحرب الباردة، ألا وهو تجاوز “منطق الكتل”.
لقد ترددت هذه الفكرة أيضا خلال الطلب السوفيتي القديم المتمثل في اقتراح مؤتمر حول الأمن الأوروبي خلال الخمسينيات، على غرار إعلان بوخارست عام 1966، ودعوة بودابست عام 1969، التي سبق أن أشار إليها الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف سنة 2008. وقد كانت المقترحات الروسية غامضة من قبيل “عدم تأمين نفسه على حساب الآخرين” و”عدم السماح للتحالفات بتقويض وحدة الفضاء الأوروبي” أو “عدم تطوير تحالفات عسكرية تهدد الدول الأخرى”. ولكن من الواضح أن الأمر كان يتعلق بمنح موسكو حق مراقبة القرارات الغربية.
كان إيغون بار أحد أهم الملهمين الرئيسيين لفكرة إنشاء سياسة تقارب مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية والاتحاد السوفيتي. وهو يعتبر ضليعا في عقد محادثات سرية مع المسؤولين السوفييت
خلافا لنظيره الفرنسي، لم يتحدث فلاديمير بوتين في بريغانسون عن دوستويفسكي، وإنما اتخذ مرجعا أقل شهرة من مؤلف كتاب “الإخوة كارامازوف”، ويبدو أنه كان حاسما في فهم نوايا نظيره. استشهد بوتين “بعجوز ألماني ذكي” سبق أن تحدث عنه خلال حوار أجراه مع الصحيفة الألمانية “بيلد”. وقصد في حديثه إيغون بار، الذي يعد من بين رموز الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني والمستشار المقرب من المستشار الألماني السابق، فيلي براندت (1969-1974).
كان إيغون بار أحد أهم الملهمين الرئيسيين لفكرة إنشاء سياسة تقارب مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية والاتحاد السوفيتي. وهو يعتبر ضليعا في عقد محادثات سرية مع المسؤولين السوفييت، ناهيك عن أنه كان يَعتبِر توحيد أوروبا أمرا ثانويا مقارنة بتوحيد الألمانيتين الغربية والشرقية. وقد طوّر إيغون بار مفهوم “نظام الأمن الأوروبي”، كما شارك في صياغة وتوقيع معاهدة موسكو 1970، وهو عبارة عن اتفاق ثنائي يقضي بالتخلي عن منطق القوة في التعاملات الثنائية.
إنقاذ نظامه
يؤكد ذلك مدى تأثر بوتين بإيغون بار، لاسيما أنه سبق للرئيس الروسي أن التقى ببار في درسدن عندما كان ضابطا في الاستخبارات السوفيتية “كي جي بي” بين سنتي 1985 و1990. وخلال لقائه بصحيفة “بيلد” الألمانية، عرض بوتين وثيقة مؤكدا أنها سرية توثق دقائق من اجتماع عُقد سنة 1990 خلال فترة توحيد ألمانيا.
تتطابق مقولات هذا المهندس الألماني لفكرة التقارب مع نية السوفييت في غزو أوروبا عاطفيا، الأمر الذي كان يثير مخاوف أوروبا من انقسامها.
قرأ بوتين مقاطع من اللقاءات التي جمعت في ذلك الوقت بين وزير الشؤون الخارجية الألماني السابق هانز ديتريش غينشر، وميخائيل غورباتشوف، ومسؤول الشؤون الخارجية في الهيئة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي فالنتين فالين. وحسب ما أفاد به بوتين، فإنه في ذلك الوقت “شدد بار على ضرورة إنشاء اتحاد جديد في وسط أوروبا بعيدا عن حلف الشمال الأطلسي… كما اعتبر بار أن حلف شمال الأطلسي، باعتباره منظمة وهيئة عسكرية، لا يحق له التدخل في أوروبا الوسطى، داعيا إلى تأسيس كيان جديد يوحد كل أوروبا”.
في سياق متصل، ذكر بوتين أيضا أن بار أشار إلى أنه “بعد سقوط جدار برلين لا يحق لحلف شمال الأطلسي أن يوسع قاعدته في شرق أوروبا… لقد فهمتموني الآن لماذا اخترت بار، لأنه رجل ذكي جدا، لقد آمن كثيرا بالتقارب، كما كان مقتنعا بضرورة تغيير الهيكلة والابتعاد عن موروث فترة الحرب الباردة، ولكننا لم نفعل شيئا من هذا إلى حد الآن”.
إلى جانب ذلك، كان هناك أفكار أخرى لإيغون بار، الذي توفي سنة 2015، كما هو الأمر بالنسبة للاتحاد السوفييتي وربما لروسيا بوتين أيضا. وتتطابق مقولات هذا المهندس الألماني لفكرة التقارب مع نية السوفييت في غزو أوروبا عاطفيا، الأمر الذي كان يثير مخاوف أوروبا من انقسامها.
وعد الرئيس الروسي، الذي يقضي فترة ولايته الرابعة، “بأن تعمل روسيا من أجل شعبها” عبر إطلاق برنامج ضخم يشمل كل القطاعات، على غرار الصحة والتعليم والبنى التحتية. ولكن لا يبدو أن برنامجه سيحقق النجاح
من هذا المنطلق، أطلق آخر أمين عام للحزب الشيوعي السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، معركته الأخيرة التي تمثلت في مشروع تقارب أطلق عليه اسم “المنزل الأوروبي المشترك”، حيث اقترح على الزعماء الأوروبيين هيكلة مشتركة مستقلة عن الولايات المتحدة تجمع بين الشق الاشتراكي الذي في طريقه نحو التحرير وبين بلدان أوروبا الغربية. وقد حظي هذا المشروع باستحسان بعض الزعماء الأوروبيين، على غرار فرانسوا ميتران، إلا أن هذه الفكرة تزامنت مع انهيار الاتحاد السوفيتي. وليس من محض الصدفة أن يستشهد بوتين بكلمات بار عوضا عن فيودور دوستويفسكي، وأن يعرض من جديد هذه الخطة الاستراتيجية السوفيتية ويقترحها كما هي على أوروبا التي لم تؤمن بهذا التغيير بعد.
وعد الرئيس الروسي، الذي يقضي فترة ولايته الرابعة، “بأن تعمل روسيا من أجل شعبها” عبر إطلاق برنامج ضخم يشمل كل القطاعات، على غرار الصحة والتعليم والبنى التحتية. ولكن لا يبدو أن برنامجه سيحقق النجاح، خصوصا في ظل وجود نخبة فاسدة ومجتمع روسي بدأ صبره ينفذ. ويظهر ذلك مع تراجع استطلاعات الرأي، التي في العادة تصب لصالحه بوتين إلى جانب تسجيل مظاهرات هامة. ويكشف ذلك عن نية بوتين، على غرار غورباتشوف سنة 1990، إنقاذ نظامه من خلال مغازلة أوروبا.
رؤية روسية
مهما كانت هذه الرؤية الروسية، فإنها تتعارض مع المصالح الفرنسية والأوروبية لعدة أسباب. أولها، من يريد تبني المنهج الجيوسياسي الذي يعود إلى القرن التاسع عشر والقرن العشرين وتحديد مجالات النفوذ في أوروبا؟ من المؤكد أنه لا أحد يريد ذلك إلا موسكو بالطبع، التي تحن إلى أيام عقد الاتفاق الألماني السوفيتي لآب/ أغسطس 1939، عندما تسبب هذا الاتفاق السري في انقسام أوروبا. في المقابل، تبقى هذه الخيارات التي عفا عليها الزمن مطروحة لتجنب الوقوع في أخطاء الماضي والدخول في حرب باردة جديدة.
في فيينا، يعمل الممثلون الروس باستمرار على التركيز على صلاحيات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ويتحدون قواعدها
لكن، هل يتطلب ذلك دفع أوكرانيا نحو الحياد؟ ذلك ليس بالأمر المهم، فلا يمكن منح روسيا حق النقض على قرارات الناتو والاتحاد الأوروبي. وما هو رأي بوتين في حق الغرب في استخدام الفيتو ضد قرارات منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم تحالف دول الاتحاد السوفيتي السابق بقيادة موسكو؟ إن فكرة تأسيس مثل هذا التقارب لا تعدو أن تكون سوى مجرد وهم. لقد داست روسيا بقدميها على المعايير المشتركة في أوروبا (اتفاقيات هلسنكي لسنة 1975، وميثاق باريس لسنة 1990) بعد أن هاجمت كلا من جورجيا وأوكرانيا عن طريق ضم شبه جزيرة القرم.
في فيينا، يعمل الممثلون الروس باستمرار على التركيز على صلاحيات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ويتحدون قواعدها. فكيف يمكن لأوروبا أن تمنح ثقتها لروسيا؟ أخيرًا، لا يبدو أن شركاءنا الأوروبيين يوافقوننا هذا الرأي. فماكرون مثلا، يريد إعادة التقارب بين روسيا وأوروبا باعتبارها مرساها الطبيعي، لأن موقف الغرب الرافض للتقارب سيؤدي إلى إلقاء موسكو في أحضان الصين. ولكنها تبقى فرضيات مشكوكا في صحتها.
“الإذلال”
يرى الرئيس الفرنسي أن روسيا تعد بالنسبة لأوروبا ذات تقارب “جغرافي، تاريخي وثقافي”. ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، بالنسبة لروسيا. ففلاديمير بوتين فعل كل شيء من أجل فصل روسيا عن هذا التاريخ، وأعد محله بديلا لبلاده تمثل في جعل روسيا بمثابة المنقذ المحافظ لأوروبا، دافعا إياها نحو الطريق الصحيح الذي يرتكز على العودة إلى اتباع “القيم التقليدية والسياسة المحافظة”، أو التوجه نحو المغامرة عبر التقرب من بلدان أوراسيا والترك وتحقيق حلم ضخم مناهض للغرب عبر التحالف مع الصين.
ربما يكون ماكرون محقا بشأن تعزيز قنوات الحوار مع موسكو. ودون أدنى شك، ستعمل فرنسا على التأكيد لموسكو أنها ستعارض فكرة الولايات المتحدة في الإسراع بإلحاق كل من أوكرانيا وجورجيا في حلف الناتو.
إن الرئيس الروسي الذي رفض منذ خمسة عشر عامًا التقارب مع أوروبا ووصفها بـ “المنحطة”، يدّعي اليوم أن أوروبا هي التي دفعت بروسيا إلى اللجوء إلى الصين. وفي سنة 2001، أسست روسيا بالتعاون مع الصين “منظمة شنغهاي للتعاون” ووقعا على معاهدة صداقة وتعاون، لينمو منذ ذلك الحين تعاونهما الثنائي التجاري والعسكري.
في المقابل، إن هذا الإحساس بالذنب الذي أبداه ماكرون نابعٌ من تاريخ مزعوم قائم “على إذلال” روسيا. ولكن، هل تعرضت روسيا فعلا للإذلال؟ كيف ذلك، وهي التي شاركت في تحضير ميثاق باريس، وتلقت دعوة للانضمام إلى قمة الدول الصناعية السبع وقمة منظمة التجارة العالمية؟
عن أي إهانة يتحدث، فقد تلقت روسيا خلال السنوات العشر الأخيرة دعوة لحضور فعاليات الاحتفال بإنزال النورماندي؟ كما وعد حلف شمال الأطلسي منذ سنة 1997، بأنه لن ينشر قوات مسلحة كبيرة ولا أسلحة نووية على أراضي الأعضاء الجدد في الحلف. وكما قال الراحل بيير هاسنير متوجها بالسؤال لموسكو: “متى ستتوقف روسيا عن إذلال أقمارها الصناعية القديمة؟”.
ربما يكون ماكرون محقا بشأن تعزيز قنوات الحوار مع موسكو. ودون أدنى شك، ستعمل فرنسا على التأكيد لموسكو أنها ستعارض فكرة الولايات المتحدة في الإسراع بإلحاق كل من أوكرانيا وجورجيا في حلف الناتو. لكن، يبقى مشروع تأسيس بنية أمنية أوروبية جديدة اليوم مجرد وهم (مزيج من الهوس السوفيتي والواقعية الغربية)، كما أن أهداف هذا المشروع بعيدة المنال. وبدلا من المواصلة في هذا المشروع، قد يكون هناك مشروع آخر أكثر فائدة، ألا وهو الاستقرار الاستراتيجي في القارة، بالنظر إلى الانتشار الجديد للصواريخ الروسية وردود الفعل الغربية المحتملة من ذلك.
المصدر: لوموند