يمسك بيديه إحدى الوثائق، يبحث بلهفة عن اسم ابنه، لكنه لا يجده، فيلقيها على الأرض دون مبالاة ويأخذ واحدة أخرى، هكذا كانت حال آلاف الوثائق من أرشيف يوثق عقودًا من الظلم وسياسات نظام الأسد تجاه شعبه.
بين الأرجل وعلى حوافي الطرقات، تهاوت الوثائق وتعرضت العديد من السجلات للنهب والسرقة والحرق في خضم الفوضى التي شهدتها الساعات الأولى من سيطرة إدارة العمليات العسكرية على دمشق وفتح السجون والأفرع الأمنية، فقد كشفت لقطات الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي والتي بثتها وسائل الإعلام عن مشهد تناثر آلاف الأوراق على الأرض، مما جعلها هدفًا للتلف.
في حمص، أفادت شهادات الأهالي بأن رؤساء وعناصر الأفرع الأمنية حرقوا العديد من الوثائق قبل هروبهم، بينما أفاد أحد المصادر لـ”نون بوست” أن عناصر من بعض الفصائل التي دخلت دمشق في الساعات الأولى استحوذوا على العديد من الوثائق والسيرفرات وأجهزة الكمبيوتر من سجن صيدنايا والأفرع الأمنية، وأخذوها معهم ولا يُعرف مصيرها.
ثم جاء تهافت الأهالي إلى السجون والأفرع بحثًا عن أولادهم دون تنبههم لأهمية كل وثيقة، والتي قد تحمل بين طياتها شهادة على مصير معتقل وتكون أداة لمحاسبة من اعتقل وعذب وقتل ودفن في مقابر جماعية.
كما أصبحت الأفرع الأمنية مسرحًا لناشطين وصانعي محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين استغلوا تلك اللحظات لنشر فيديوهات من داخلها، وعلى الرغم من أن هذا الاستكشاف حق مكفول للسوريين بعد عقود من القمع، إلا أن هذه القضية ليست عادية يمكن تناولها بـ”الشو” والاستعراض، فأهميتها لا تقتصر على كونها وثائق قانونية فحسب، بل سجل مفعم بالمعاناة والدماء، لا يجوز أن تعامل كأي مادة إعلامية أخرى.
هذه الفوضى والعبثية دفعت حقوقيين ومنظمات إلى دق ناقوس الخطر، مطالبين بحماية هذا الأرشيف الثمين، فكل ورقة وكل خط من هذا الأرشيف يحمل قصة معاناة وحكاية عائلة فقدت أحد أفرادها تحت وطأة النظام البائد.
وفي حين صرح المدير التنفيذي للجنة العدالة والمساءلة الدولية ويليام وايلي بأن “محققي اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة عملوا على نقل الوثائق بهدوء إلى مواقع آمنة داخل سوريا وسيبدأون قريبًا المهمة الضخمة، وهي رقمنة الملفات”، يبقى السؤال المطروح ما مصير هذا الأرشيف الثمين؟ هل سيتم حفظه وتأمينه لما يحمله من أدلة تاريخية حاسمة لتحقيق العدالة، أم أنه سيواجه مصير السرقة والنهب كما حدث في ليبيا والعراق؟
ما أهمية الأرشيف؟
الإرث الضخم من الوثائق الأمنية والاستخباراتية والسياسية التي تركها نظام الأسد ليست مجرد أوراق أو بيانات عفى عنها الزمن، بل تمثل مفتاحًا لفهم حقبة طويلة من القمع والسيطرة استمرت لخمسة عقود، وأدلة مهمة لعمليات التقاضي والعدالة التي لا بد منها للخروج إلى حالة التعافي والسلم.
وتكمن أهمية هذه الوثائق في الأسرار التي تحملها في طياتها وشهاداتها على معاناة لا يمكن التغاضي عنها، وفرصة نادرة لتحقيق العدالة والانصاف للضحايا وللشعب السوري بأكمله، حيث تعد أداة فعالة يمكن أن يستفيد منها عدة أطراف منها:
أهالي الضحايا: تحمل الوثائق لعائلات الضحايا والمفقودين أملًا في كشف مصير أبنائهم والتوصل إلى معلومات بشأن تفاصيل احتجازهم، ومواقع السجون التي زجوا بها، وكذلك على هويات الضباط المسؤولين عن تعذيبهم أو حتى قتلهم ودفنهم في مقابر جماعية، فأي معلومة تتضمنها هذه الأوراق تنقل أبنائهم من مجرد أرقام في متاهات السجون إلى أسماء يعرفها العالم.
وحسب إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن أكثر من 136 ألف معتقل اختفوا قسرًا في سجون الأسد، خرج منهم بعد سقوط النظام نحو 24 ألفًا و200 شخص فقط.
وقال رئيس الشبكة فضل عبد الغني في تصريحات إعلامية إن عدد المعتقلين المختفين قسرًا في سوريا بعد إفراغ السجون تجاوز 112 ألفًا، مشيرًا إلى أنه “غالب الظن أنهم قتلوا” ودفنهم في مقابر جماعية.
وأضاف عبد الغني أن “المهمة الأولى حاليًا هي البحث عن تلك المقابر والحفاظ عليها إلى حين مجيء لجان دولية مختصة لاستخراج الجثث، وفحصها وأخذ عينات منها ومطابقتها مع عينات المختفين قسريًا”.
الحكومة الجديدة: تُعد الوثائق الأمنية والاستخباراتية أداة لا غنى عنها للحكومة السورية الجديدة لتحقيق العدالة والمساءلة، حيث تستطيع عبرها كشف الحقائق المتعلقة بالانتهاكات الماضية وملاحقة المسؤولين عن جرائمهم، وضمان محاسبتهم قانونيًا، ما يعد ركنا أساسيًا لبناء السلم الأهلي وعودة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة عبر التأكيد على أنه لا أحد فوق القانون.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع تعهد في لقاءاته الإعلامية عن “محاسبة المجرمين والقتلة وضباط الأمن والجيش المتورطين في تعذيب الشعب السوري”، مؤكدًا ملاحقة مجرمي الحرب وطلبهم من الدول التي فرّوا إليها حتى ينالوا جزاءهم العادل.
كما تعهد الشرع بتقديم “مكافآت لمن يدلي بمعلومات عن كبار ضباط الجيش والأمن المتورطين في جرائم حرب”.
وفي تجارب تاريخية، لعبت الوثائق دورًا رئيسيًا في محاكمة المسؤولين عن جرائم وانتهاكات جسيمة، وكانت أشهر هذه التجارب محاكمات “نورنبيرغ” بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استند المدعون إلى مئات الآلاف من الشهادات والآلاف من الأدلة الأرشيفية لإثبات التخطيط والتنفيذ المنهجي لجرائم النازيين، حيث جمع القضاة 300 ألف شهادة ونحو 6600 قرينة مدعومة بـ42 ملفًا من الأرشيف.
وعقب الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، استخدمت محكمة الجنايات الدولية لرواندا (ICTR) وثائق الحكومة الرواندية ومراسلات المسؤولين المحليين لتحديد المسؤولين عن التحريض على الإبادة وتنفيذها، حيث لعبت الوثائق الرسمية والخطابات والتحريضات المسجلة دورًا أساسيًا في إدانة القادة السياسيين والعسكريين الذين كانوا وراء قتل أكثر من 800 ألف شخص.
أما في يوغوسلافيا السابقة، فقد استخدمت محكمة الجنايات الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY)، كميات هائلة من الوثائق والتقارير الحكومية والمراسلات العسكرية لإثبات الجرائم التي ارتُكبت خلال الحروب البلقانية في التسعينيات.
وساعدت الوثائق في الكشف عن الخطط المسبقة للإبادة الجماعية، مثل مذبحة سربرنيتسا، وأثبتت تورط القيادات العليا، بمن فيهم الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش، الذي حوكم بناء على هذه الأدلة قبل وفاته.
عموم الشعب السوري: لا تقتصر قيمة الوثائق على ملف المعتقلين والمفقودين، بل تمتد إلى كشف الطريقة التي أدار بها النظام السوري علاقاته السياسية والاقتصادية، داخليًا وخارجيًا، وكيف كانت تصنع القرارات وتدار المؤسسات، فمن خلال هذه الوثائق يمكن للسوريين فهم كيفية بناء النظام لشبكة علاقاته مع الدول الأخرى.
وعلى مدى العقود الماضية تبنى النظام السوري خطابًا معاديًا لـ”إسرائيل”، واستثمر في هذا الخطاب لترسيخ صورته كـ”قلعة المقاومة” في المنطقة، لكن أظهرت الوثائق التي نشرتها وسائل إعلام إلى وجود تواصل بين النظام السوري وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كان مرسلها يدعى “موسى”.
تجارب سرقة سابقة
تعد حماية أرشيف المخابرات السورية من أبرز التحديات وأخطرها نظرًا لأهميتها البالغة، وحتى الآن لا يزال مصيرها يكتنفه الغموض، فلم تُصدر الجهات الحكومية المؤقتة أي تصريحات واضحة حول الخطط التي تم وضعتها لضمان أمن هذه الوثائق وحفظه، ما يثير الشكوك حول وجود خطة أصلًا.
ويتخوف السوريون من تكرار تجربة اختفاء أرشيف أنظمة سابقة، مثل ما حدث مع الأرشيف العراقي الذي جرى نقله إلى الولايات المتحدة بعد الغزو عام 2003.
وكان الأرشيف العراقي أحد أضخم التجمعات الوثائقية التي تركها نظام صدام حسين، حيث يحتوي على ملايين الوثائق التي توثق عمليات النظام البعثي في العراق، حيث شمل سجلات أمنية واستخباراتية وتقارير سرية وأوامر تنفيذية ومراسلات داخلية، إضافة إلى ملفات شخصية للمعارضين السياسيين وأسماء المعتقلين والمفقودين وخطط عسكرية وسياسات اقتصادية واجتماعية.
في السنوات التي تلت الغزو الأمريكي، وُضع الأرشيف العراقي تحت سيطرة مؤسسات بحثية أمريكية، حيث احتفظ الأرشيف في البداية في فيرجينيا الغربية، قبل إرسالها إلى مؤسسة هوفر في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا.
وفي 2020 وافقت الإدارة الأمريكية إعادة الأرشيف إلى الحكومة العراقية وقدر عدد الوثائق المسترجعة لاحقًا بأكثر من ستة ملايين وثيقة، وتضمنت عملية الإعادة نقل 48 حاوية.
ورغم أن هذا الأرشيف أصبح لاحقًا جزءًا من السجل الوطني العراقي، إلا أن هذه التجربة أظهرت مخاطر وقوع الأرشيفات الوطنية تحت سيطرة أطراف خارجية، ما أدى إلى خسارة الشعب العراقي لجزء كبير من تاريخه لفترة طويلة.
وفي ليبيا، وبعد انهيار نظام معمر القذافي عام 2011، عمت الفوضى في كثير من المؤسسات الليبية، مما أتاح المجال لسرقة بعض الوثائق الحساسة التي كانت تشمل أسماء عملاء وخططًا أمنية، وتقارير تجسس ومعلومات حساسة عن علاقات النظام الليبي بدول أخرى.
بعد أشهر، بدأ أرشيف المخابرات الليبية يظهر في وسائل إعلام عربية وأجنبية، كما أكد أحد الصحفيين سرقته لبعض الوثائق أثناء زيارته لمقر وكالة الاستخبارات الليبية في طرابلس في 2011، كما ظهرت تقارير تشير إلى أن بعض هذه الملفات شُحنت إلى الخارج، بينما بيعت أخرى لأطراف دولية كانت تسعى للحصول على معلومات استخباراتية حول الوضع الليبي، أو لمعرفة المزيد عن أسرار النظام السابق.
هذه التجارب عززت المخاوف لدى السوريين من أن يواجهوا سيناريو مشابه، إذا لم يتم وضع خطة واضحة لحماية أرشيفهم الوطني وتأكيد سيادة المؤسسات السورية الجديدة عليه.
وعمل المحامي الكندي والمحقق في جرائم الحرب بيل وايلي، على تأسيس لجنة العدالة والمساءلة الدولية بشأن سوريا، بتمويل الحكومات البريطانية والألمانية والأمريكية، وجمع أكثر من 1.3 مليون وثيقة على مدى السنوات الماضية مع فريق من السوريين مخبأة في 406 صناديق في إحدى الدول الأوروبية.
ويظل مصير هذه الوثائق غير واضح، وهو ما يستوجب من السلطات السورية الجديدة العمل على استعادتها وضمان دمجها ضمن الأرشيف الوطني، والاحتفاظ بهذه الوثائق كخطوة حاسمة لتوفير الأدلة اللازمة لتحقيق العدالة الانتقالية.
ختامًا.. إن إنشاء هيئة وطنية مستقلة من خبراء أرشفة وقانونيين وحقوقيين للإشراف على جمع الوثائق وتصنيفها وتخزينه، وتبني إطار قانوني صارم وشامل، يضمن حماية هذا الأرشيف بشكل فعّال ليكون أداة قوية تمكن الضحايا السوريين من محاسبة المجرمين واستعادة حقوقهم بشكل عادل وشفاف، هو مطلب سوري عام يمكن تلمّسه في كل جلسة تجمع السوريين وعبر شبكات التواصل وفي بيانات الحقوقين وأحاديث أهالي الضحايا على وسائل الإعلام، وهو واجب السلطة الجديدة الذي ينبغي العمل عليه بالتزامن مع خطط إعادة الإعمار، كونه الخطوة الأولى على درب التعافي والسلم الأهلي.