ترجمة وتحرير: نون بوست
في حين أن خطة الاتحاد الأوروبي لإنشاء “وسيلة خاصة” لحماية التجارة الإيرانية من العقوبات الأمريكية لا تزال تحبط الزعماء الإيرانيين، اتّخذت الحكومة الروسية خطوة حاسمة لمساعدة إيران على تخطّي العقوبات من خلال السماح لطهران بنقل النفط الخام عبر موانئها في شبه جزيرة القرم. هذه ليست المرة الأولى أو الأخيرة التي تتصرف فيها روسيا كدرع ضد العزلة السياسية والاقتصادية المسلّطة على إيران، فقد سبق لها تسليح طهران بأنظمة أسلحة وتكنولوجيا عسكرية متطوّرة، مثلا.
لطالما رفضت روسيا الإجراءات العقابية المفروضة ضد إيران من خلال الاعتراض على قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لأنها تعتبرها غير منصفة (بصرف النظر عن الفترة القصيرة خلال رئاسة ديمتري ميدفيديف، عندما حاول رفقة الرئيس باراك أوباما “إعادة ضبط” العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا).
الجهود الروسية، التي ساعدت إيران على تجنب العقوبات والتوسّع غير المسبوق الذي يشهده التعاون العسكري بين البلدين، منحت دفعة قوية لزواج المصلحة الروسي الإيراني حتى لو كان مجرّد أمر رمزي
في سياق حديثه عن التوسع الأخير الذي شهده التعاون الروسي الإيراني، أعلن نائب رئيس وزراء شبه جزيرة القرم جورجي مرادوف أن إيران تستطيع استخدام موانئ الأراضي الروسية المتنازع عليها لنقل النفط. وردت هذه الأخبار بعد شهرين من إعلان موسكو وطهران أنهما ستجريان تدريبات بحرية مشتركة في منطقة التفتيش الهامّة في الخليج العربي أي مضيق هرمز، الذي يمثّل الشريان النفطي الاستراتيجي الأكثر أهمية في العالم والموقع الذي تمكّنت فيه إيران من الاستيلاء على ثلاث ناقلات نفط حتى الآن خلال هذه السنة.
إن الجهود الروسية، التي ساعدت إيران على تجنب العقوبات والتوسّع غير المسبوق الذي يشهده التعاون العسكري بين البلدين، منحت دفعة قوية لزواج المصلحة الروسي الإيراني حتى لو كان مجرّد أمر رمزي. وقد ظهرت أول علامة تدلّ على تزايد التنسيق العسكري بين موسكو وطهران سنة 2016 عندما أطلقت روسيا أسطولًا من القاذفات المتجهة إلى سوريا من قاعدة جوية إيرانية، حيث كانت تلك أوّل مرّة يعمل فيها جيش أجنبي في الأراضي الإيرانية منذ حوالي 100 سنة، علما بأن المادة 146 من الدستور الإيراني تحظر بشكل صارم تمركز القوات الأجنبية على الأراضي الإيرانية، حتى لغايات سلميّة.
في الواقع، كانت هذه المناورات ذات بعد رمزي كشف عن التقارب المتزايد بين المصالح الروسية والإيرانية. ولكن لا يمكن اعتبار المعاملات بين هاتين الدولتين بالضرورة “تحالفًا” لأنه غير واضح. فعلى سبيل المثال، إلى أي مدى ستوسع روسيا من نفوذها العسكري في حال تعرضت إيران لهجوم أو العكس؟ ربما يكون أفضل وصف للشراكة الروسية الإيرانية هو “التوافق”.
تجلت مناورات موسكو مع إيران بين فترات الذروة والحضيض، وتذبذبت بين التعاون والصراع
مع أخذ الروايات التاريخية والخلفيات الأيديولوجية المتباينة بعين الاعتبار، تعدّ موسكو وطهران في الواقع رفيقين غريبين. وإلى جانب وصف الشراكة الروسية الإيرانية بأنّها “شراكة عشوائية” و”تحالف ظرفي”، فإنها محاطة بالغموض أيضا. وقد تجلت مناورات موسكو مع إيران بين فترات الذروة والحضيض، وتذبذبت بين التعاون والصراع. وهناك تكهنات بأن الكرملين يتّبع ببساطة مقتضيات السياسة الواقعية القاسية وأنه “سيبيع” إيران بسبب عقود دفاعية وعسكرية مربحة مع “منافسي إيران اللدودين” الإقليميين، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
فضلا عن ذلك، يُزعم أن موسكو منحت إسرائيل “الموافقة” من أجل ضرب الأهداف الإيرانية في سوريا، وترفض إلحاق بطارية صواريخ الدفاع الجوي الإيرانية بنظام إس-400 الأكثر تطورًا. وعلى ما يبدو، أهملت روسيا عضوية منظمة شنغهاي للتعاون الخاصّة بإيران (على الرغم من أن اللوم يجب أن يقع على عاتق الصين) ويُزعم أنها خَدعت إيران وسرقت منها تريليونات الدولارات من خلال “معاهدة الوضع القانوني لبحر قزوين” غير المنصفة التي تم توقيعها في آب/ أغسطس 2018.
كانت هذه بعض الحجج التي تُتداول بشكل متكرر لإثبات أن موسكو تتهرّب من التزامها تجاه طهران. وفي هذا السياق، عبّر الأميرال علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، عن عدم موافقته على الوضع. وخلال اجتماع مع المسؤولين الروس في طهران في تموز/ يوليو 2019، أكّد شمخاني على المسار الإيجابي للتعاون الروسي الإيراني. كما أعرب شمخاني عن امتنانه لمواقف روسيا “الحاسمة والنزيهة” فيما يتعلق بإلغاء الولايات المتحدة للصفقة النووية لسنة 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، والوجود الإيراني في سوريا، ودخول طائرة تجسس أمريكية دون طيار للمجال الجوي الإيراني، واستيلاء المملكة المتّحدة على ناقلة إيرانية قبالة ساحل جبل طارق.
سيتطلب المحور الجوهري والمستمر تجاه الولايات المتحدة عملية إعادة تشكيل أساسية للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه الكرملين بناءً على تقديم التنازلات وفقًا للأولويات والاهتمامات الروسية التقليدية
في الثاني من أيلول/ سبتمبر، وخلال محادثات جمعته بنظيره الإيراني محمد جواد ظريف في موسكو، أكّد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مجددا موقف الكرملين، حيث اتهم الولايات المتحدة “بالسعي بشكل صريح لاستفزاز إيران بدعم من بعض حلفائها الإقليميين”. وأشاد لافروف بجهود فرنسا الأخيرة للخروج من هذا المأزق وإقناع الولايات المتحدة برفع بعض العقوبات المسلّطة على إيران.
فضلا عن ذلك، هناك حجة أخرى مفادها أن مدى توسع التعاون الروسي الإيراني أو تراجعه يعتمد على طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في تلك الفترة. في الواقع، تعتبر هذه الحجة صحيحة إلى حد ما بالرجوع إلى فترة حكم ديمتري ميدفيديف، حين صوّتت روسيا لفائدة جميع القرارات الستة المتعلقة بإيران التي اتخذها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بين سنتي 2006 و2010. ومع ذلك، لن تتخلى روسيا عن إيران لصالح الولايات المتحدة في ظل الظروف الحالية، وذلك بسبب وجود خلاف أساسي بين التصورات الروسية والأمريكية حول النظام العالمي بعد الحرب الباردة.
سيتطلب المحور الجوهري والمستمر تجاه الولايات المتحدة عملية إعادة تشكيل أساسية للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه الكرملين بناءً على تقديم التنازلات وفقًا للأولويات والاهتمامات الروسية التقليدية. سينطوي ذلك، على الأقل، على تعليق واشنطن الدائم لتوسّع حلف الناتو شرقًا، والتغاضي عن تطلعات روسيا الجيوسياسية في الاتحاد السوفيتي السابق، وهو سيناريو غير محتمل.
روسيا وإيران متفقتان، إن لم تكونا حليفتين، فهما ضد الهيمنة، وتعارضان فكرة وجود دولة واحدة أو مجموعة من الدول (النظام) قادرة على فرض قيم معيارية معينة وهياكل قوى لتكون عالمية، لا سيما عندما يقع استخدام القوة لفرض تلك القيم والأفكار
إن التوافق بين روسيا وإيران قائم على عملية معايرة دقيقة حول الأولويات الجيوسياسية والاستراتيجية، التي تستند إلى تصورات مماثلة حول النظام العالمي. كما أن النظام العالمي لما بعد الحرب الباردة الذي رسخ هيمنة مواقف الولايات المتحدة جعل من التوافق الاستراتيجي بين موسكو وطهران أمرا لا مفر منه.
إن روسيا وإيران متفقتان، إن لم تكونا حليفتين، فهما ضد الهيمنة، وتعارضان فكرة وجود دولة واحدة أو مجموعة من الدول (النظام) قادرة على فرض قيم معيارية معينة وهياكل قوى لتكون عالمية، لا سيما عندما يقع استخدام القوة لفرض تلك القيم والأفكار. وتمنح كلتا الدولتين أولوية لسيادة الدولة، وتدينان التدخل الغربي، وتشعران بانزعاج شديد من الثورات الداعمة للديمقراطية، حيث أنهما تعتبرانها الوسيلة التي يعتمدها النظام الأيديولوجي والقوى في منطقة دول المحيط الأطلسي لخدمة مصالح الدول الغربية.
على غرار نظرائهم في الكرملين، فإن النخبة الثورية في إيران تؤمن إيمانًا راسخًا بأن المعايير الدولية السائدة تستند إلى معايير مزدوجة، تهدف إلى ترسيخ هيمنة القوى الغربية. وتعتبر روسيا إيران طرفا رئيسيا في سعيها لتعزيز تحالفها ضد الهيمنة العالمية، وتأمل أن يؤدي ذلك إلى ظهور بنية بديلة للشؤون العالمية، ويتجلى ذلك في الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وبريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، وتعميق التعاون مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).
على الرغم من المصالح المتضاربة والمسالك الجيواستراتيجية المتصادمة بشكل دائم، تتشارك روسيا وإيران رؤية جغرافية سياسية متشابهة تحدّدها المعايير الثابتة وتشكّلها الموروثات التاريخية والنظرية
حسب ريتشارد ساكوا، فإن نمط النظام العالمي يتغير وحقبة “السلام البارد” بين روسيا والغرب، التي تميزت بفشل منظمات الأمن الغربية في تخطي مؤسسات الحرب الباردة والعادات في وقت أظهرت فيه روسيا انفتاحا للتكيّف مع المعايير والمؤسسات الغربية، يفسح المجال أمام تقليص المواجهة الثنائية بين النظام الدولي الليبرالي ومقاومة مجموعة من الدول بما في ذلك روسيا وإيران. وهذا ما يفسر طبيعة التعاون الأعمق والأوسع بين الدولتين.
على الرغم من المصالح المتضاربة والمسالك الجيواستراتيجية المتصادمة بشكل دائم، تتشارك روسيا وإيران رؤية جغرافية سياسية متشابهة تحدّدها المعايير الثابتة وتشكّلها الموروثات التاريخية والنظرية، والخصوصيات الثقافية – الحضارية، والقيم المعيارية، وعلم الأنساب الخطابي المتشابه فيما يتعلق بالغرب.
من جهتها، اقترحت ترين فلوكهارت أن شبكة معقدة من علاقات “النظام الداخلي” ستحدد طبيعة “عالم متعدد النظام” في المستقبل. تتوارى إيران وروسيا في هذا “النظام الداخلي”. ولا تتمثل الفكرة في اجتثاث النظام الدولي، بل في إفساح المجال لدول مثل روسيا وإيران التي لا تتلاءم مع المجموعة الحالية. في هذا السياق، ينبغي أن يخضع الزواج الروسي الإيراني، الذي يكون في بعض الأحيان مصدر إزعاج، إلى تقييم.
المصدر: لوب لوغ