على مدار شهور حرب الإبادة، تمسّك أهالي غزة بمطلبهم الثابت بالعودة إلى مناطقهم، رغم القصف الوحشي الذي أجبرهم على النزوح، ورغم إدراكهم لحجم الدمار الهائل، إذ لم يدفعهم ذلك إلى البحث عن الاستقرار في مناطق أخرى لم تطلها الحرب، بل ظل هدفهم الوحيد هو العودة.
منذ اليوم الأول للحرب، كان واضحًا أن القصف الإسرائيلي لم يستهدف المقاومة فحسب، بل كان مصممًا لإعدام الحياة في القطاع ومنع السكان من العودة إلى مناطقهم، في محاولة لتحويل غزة إلى كتلة من الركام تُجبر أهلها على الهجرة، لكن الغزيين، كعادتهم، خالفوا كل التوقعات وانتزعوا حياتهم من وسط الدمار.
وكما كانت مشهدية العودة الكبرى، سيرًا من جنوب القطاع إلى شماله، رسالة واضحة بأن غزة ستبقى بأهلها وصمودهم، تجلّى أيضًا مشهد وصول الأهالي إلى أحيائهم التي صارت أكوامًا من الركام أخفت معالم منازلهم، ومع ذلك، لم يثنهم ذلك عن المضي قدمًا، إذ بدأوا فورًا بإعادة الحياة إلى أحيائهم ومنازلهم بكل ما توفر، كخلية نحل، متجاهلين الابتزاز المرتبط بمباحثات الإعمار والمماطلات الإسرائيلية المعتادة.
![محاولات الترميم الأولى.. الغزيون لا ينتظرون وعود الإعمار 2 نون بوست](https://www.noonpost.com/wp-content/uploads/2025/02/noonpost-2216189-jpg.webp)
إبادة المنازل: ركام يملأ الأفق
المشهد الأول الذي يستقبلك عند دخول المناطق التي انسحب منها جيش الاحتلال الإسرائيلي هو الركام الممتد على مرمى البصر، مشهد يتكرر في المدن والمخيمات والأحياء التي اجتاحتها الآليات العسكرية الإسرائيلية، فيما يمكن وصفه بأنه أوسع عملية “إبادة للمنازل”، وهي لا تقل إجرامًا عن الإبادة الدموية التي استهدفت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
وفقًا للخبير بالاكريشنان راجاجوبال، محقق الأمم المتحدة المستقل المعني بالحق في السكن الملائم، فإن قطاع غزة تعرض لـ”وابل غير مسبوق من الدمار” منذ بدء الهجوم العسكري الإسرائيلي في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأوضح راجاجوبال أن “وحشية الدمار في غزة تجاوزت ما شوهد في صراعات سوريا وأوكرانيا”.
كما أشار الخبير الأممي إلى أن تقديرات يناير/كانون الثاني 2024 تفيد بأن ما بين 60% إلى 70% من منازل غزة قد دُمرت، بينما بلغت نسبة التدمير في شمال القطاع 82%، وأضاف أن الوضع “أسوأ بكثير الآن”، مع اقتراب نسبة الدمار في الشمال من 100%.
وفي تقرير صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مايو/أيار الماضي، قُدرت كميات الركام الناتج عن الدمار في غزة بأكثر من 39 مليون طن، وأوضح التقرير أن هذا الركام يتضمن ذخائر غير منفجرة، ونفايات سامة، وأسبستوس من المباني المنهارة، ومواد أخرى، ما يعقد جهود الإزالة ويزيد من المخاطر الصحية والبيئية.
في ذات السياق، تشير إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة إلى أن الخسائر المادية المباشرة جراء الاعتداءات الإسرائيلية تجاوزت 50 مليار دولار أميركي في مختلف القطاعات، حيث جاء قطاع الإسكان في الصدارة بخسائر بلغت 25 مليار دولار، يليه القطاع الاقتصادي بأكثر من 6 مليارات، وقطاع الخدمات والبنية التحتية بخسائر تجاوزت 4 مليارات.
وفي التفاصيل، أُلحقت أضرار بـ450 ألف وحدة سكنية، منها 170 ألف وحدة دُمرت كليًا، و80 ألف وحدة تضررت بشكل بليغ، و200 ألف بشكل جزئي، كما طالت الأضرار البنية التحتية، حيث دُمر 335 كم من شبكات المياه، و496 محطة تحلية، و111 خزان مياه مركزي، إلى جانب 655 كم من شبكات الصرف الصحي و65 محطة معالجة، أما في قطاع الكهرباء، فقد تضرر 3,680 كم من الشبكات، و2,105 محولات، و538 مولدًا، بينما تضررت 3,916 كم من الطرق والشوارع.
كل هذه المعطيات تعكس صورة مأساوية لم تُكتمل معالمها بعد، بسبب حجم العدوان وضعف المعدات وصعوبة الحركة، ما يعيق الطواقم الفنية عن استكمال حصر الأضرار، لكن المؤكد أن هذه البيانات الأولية تسلط الضوء على حجم الكارثة التي تواجه سكان القطاع، وسط محاولات دولية لتقديم غزة كمكان “غير صالح للحياة”، في سياق دعم مساعٍ تهدف إلى تهجير أهلها قسرًا.
آليات الإعمار: أداة عقابية تكمل العدوان
لم تكن حرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة التجربة الأولى للشعب الفلسطيني مع العدوان الإسرائيلي وإجرامه، لكنها بالتأكيد الأوسع والأشد تدميرًا، ومع ذلك فإن جولات العدوان السابقة قدمت نماذج مصغرة لحجم الإجرام الصهيوني واستهدافه المنهجي للأحياء السكنية.
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في عام 2014، التي شهدت تقدمًا بريًا في المناطق الشرقية والشمالية للقطاع، شكلت نموذجًا للتدمير الواسع النطاق الذي تسببه آلة العدوان الإسرائيلية، فآنذاك واجه الأهالي تحديات إعادة الإعمار التي تعرفوا على عيوبها مسبقًا، في ظل الشروط والتقييدات التي يفرضها الاحتلال على العملية برمتها، ما أعاق عودتهم إلى منازلهم لسنوات طويلة.
الاحتلال يغلف آليات الإعمار بشروط مُحكمة ليعيد صياغة الحصار المفروض على القطاع وليستخدمها كأداة عقابية طويلة الأمد ضد العائلات الفلسطينية
وبحسب خبير الأمم المتحدة راجاجوبال، فإن تجربة إعادة الإعمار بعد عدوان 2014 توضح حجم التحديات الحالية، ويؤكد راجاجوبال أن بناء أقل من ألف منزل سنويًا كان السقف الذي سمحت الآلية التي فرضها الاحتلال في ذلك الوقت، بينما تُقدَّر المنازل المدمرة في العدوان الحالي بأكثر من 170 ألف وحدة سكنية، وإذا كانت الوتيرة ذاتها، فإن إعادة الإعمار قد تستغرق 170 عامًا طالما بقي الأمر رهينة لابتزاز الاحتلال وشروطه.
استراتيجية الاحتلال في هذا السياق ليست عشوائية؛ فهي مصممة لهندسة الوعي الفلسطيني لأهالي القطاع بأن خيار البقاء في غزة هو خيار معدم، بهدف الضغط عليهم نفسيًا وماديًا، ثم دفعهم نحو التفكير في “الهجرة الطوعية” كبديل، بعد أن فشلت آلة الحرب الإسرائيلية في تحقيق تهجير قسري مباشر خلال أشهر العدوان.
علاوة على ذلك، فإن الاحتلال يغلف آليات الإعمار بشروط مُحكمة تحت مسميات مثل “المواد مزدوجة الاستعمال” و”سيستم الإعمار”، ليعيد صياغة الحصار المفروض على القطاع، وهي إجراءات تجعل من عملية إعادة الإعمار أداة عقابية طويلة الأمد للعائلات الفلسطينية.
بعد عدوان 2014، واصل الاحتلال فرض قيود مشددة على دخول المواد الأساسية ومواد البناء، ما أدى إلى تباطؤ شديد في عمليات إعادة الإعمار، ولم يتردد في استهداف مشاريع الإسكان المصرية التي نُفذت ضمن جهود إعادة بناء ما دمره عدوان 2021، ليؤكد بذلك استخدام الإعمار كسلاح إضافي لتعميق المعاناة الفلسطينية وتحويله إلى أداة ضغط وابتزاز سياسي.
“الترميم الأولي”: خيار الغزيين للعودة إلى الحياة
وسط مشاهد الدمار والركام، شكّلت الحاجة والإرادة دافعًا أساسيًا لسكان غزة للبحث عن حلول عملية وآنية للتعامل مع آثار العدوان الإسرائيلي، فبعد أكثر من 470 يومًا في خيام النزوح، عاد أهالي القطاع إلى أحيائهم ومناطقهم المدمرة، حاملين همّ ومسؤولية إعادة الحياة، رغم قسوة الظروف.
على عكس التوقعات، لم تُثنِ الصدمة الناتجة عن مشاهد الدمار الهائل أهالي غزة عن العودة إلى مناطقهم، بل عززت من إصرارهم على استثمار كل ما يمكن استثماره لإيجاد حلول سكنية أولية، تسمح لهم بالبقاء في أماكنهم حتى وسط الركام ومخاطره.
ناجي الجمل، مدير مركز مجتمعي وأحد سكان شمال قطاع غزة، لم يغادر منطقته إلا قسرًا خلال الاجتياح الأخير، وعاد مع عائلته إلى منزلهم المدمر، حيث استصلحوا غرفة نجت جدرانها من التدمير، وأعادوا تهيئتها لتكون مع خيمة بجوار المنزل مأوى جديدًا للعائلة.
في حديثه لـ”نون بوست”، قال الجمل: “لا يمكن أن نعتبر أنفسنا جزءًا من الحالة النضالية إذا سهلنا على الاحتلال مهمته وتركنا مكاننا. نحن على قناعة أن وجودنا هنا سيحفز الآخرين على العودة إلى مناطق سكنهم”، وأضاف: “نعلم أن الظروف صعبة وقاسية، لكن الإرادة ستتغلب، وسيكون المستقبل مشرقًا بفضل هذا الصمود”.
وبالفعل، استجاب العديد من الجيران للعودة إلى الحي المدمر في جباليا، الذي كان هدفًا رئيسيًا للحملة العسكرية الإسرائيلية، حيث استصلح بعضهم منازله، وآخرون رمموا غرفًا، فيما أقام البعض خيامًا بجوار ركام منازلهم.
في شوارع مدينة غزة وأحيائها المدمرة، يمكن رؤية ملامح “الترميم الأولي” واضحة، حيث استخدمت العائلات الأقمشة، و”الشوادر”، والنايلون لإغلاق فتحات المنازل، فيما لجأ آخرون إلى إعادة تدوير الركام لصنع مواد بناء بديلة.
ورغم ارتفاع أسعار المواد الأساسية، أقدم البعض على أعمال بناء محدودة لإغلاق المنازل المدمرة جزئيًا، في محاولة لإعادة الحياة إليها. يقول أبو يامن عفيف، أحد سكان غزة: “كان يكفيني أن أعلم أن أعمدة العمارة السكنية التي أعيش فيها ما زالت قائمة. قطعة من منزلي أفضل من ألف خيمة”.
وترى المهندسة المعمارية نرمين زايد أن هذه الجهود تعكس إرادة استثنائية وصمودًا، لكنها تحذر من المخاطر، وتوضح: “العديد من المنازل قد تتعرض لانهيارات جديدة بفعل الأضرار التي لحقت بأساساتها. لذلك، يجب على طواقم وزارة الأشغال التأكد من سلامة هذه المباني قبل إعادة السكان إليها”.
على الجانب الآخر، يعمل الناشط المؤسسي أحمد تمراز مع مجموعة من زملائه على إيجاد آليات لدعم عمليات “الترميم الأولي”، ويقول تمراز: “هذه الجهود الريادية تعطي الأمل لسكان القطاع، وتساهم في مواجهة آثار الحرب وتعزيز سبل التعافي”.
وأشار إلى أن التركيز على المنازل التي تعرضت للدمار الجزئي يمكن أن يشكل أساسًا لحل أزمة السكن تدريجيًا، مشيرًا إلى أن إعادة ترميم 200 ألف وحدة سكنية متضررة جزئيًا قد تسهم في توفير مأوى لمليون شخص في قطاع غزة.
بين الركام وتحت الأسقف الآيلة للسقوط، يثبت أهالي غزة مرة أخرى أن إرادتهم أقوى من آلة الحرب، فالعودة إلى المنازل، حتى وإن كانت شبه مدمرة، تمثل رسالة تحدٍّ للاحتلال وإصرارًا على البقاء. “الترميم الأولي” ليس مجرد حل مؤقت، بل هو خطوة نحو إعادة الحياة رغم كل العوائق، في انتظار أن تفتح أبواب إعادة الإعمار بشكل كامل.