مع تدهور الحالة المعيشية للمواطن السوري داخل بلاده بكافة المناطق، وعلى وقع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تعصف بالبلاد، بدءًا بأزمات الوقود والغذاء وليس انتهاءً بالفساد المالي والبطالة المدقعة، تطل اليوم أزمة متجددة على مدى السنوات الـ 9 الماضية، إلا أنها الأعنف من نوعها، حيث انهارت الليرة السورية حتى وصلت قيمتها في السوق السوداء إلى 680 ليرة مقابل الدولار الواحد.
ويعتبر هذا الانهيار هو الأسوأ من نوعه منذ استقلال البلاد وخروج الاستعمار الفرنسي عام 1946، وفي أيار من عام 2016 وصلت قيمة الليرة لـ 600 للدولار الواحد ولم تتعدى حينها الأزمة أيام حتى عاودت الارتفاع والاستقرار النسبي، وكالعادة ينعكس تدهور الليرة على المواطن السوري الذي يواجه في كل صعود للدولار موجة غلاء جديدة للسلع الأساسية المرتفعة السعر أصلًا.
ونعرض في تسلسل مقتضب مراحل تهاوي الليرة السورية مقابل الدولار منذ عام 2011 حتى اليوم اعتماداً على ورقة بحثية لمركز جسور للدراسات:
أسباب
واعتبر نائب رئيس مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، عمار البردان، أن السبب الحقيقي “لانخفاض قيمة الليرة غير معروف، وهو ليس وهميًا، خاصة أن حجم المستوردات يتراجع والصادرات تزداد، الأمر الذي يزيد حالة الاستغراب مما يحدث في سوق الصرف”، وتعزى أسباب هذا التراجع إلى “المضاربات وعمليات التداول في السوق السوداء وسياسة الاستيراد وإخراج العملة الأجنبية من الداخل السوري إلى دول الجوار” بحسب “عنب بلدي“.
وتشكل العقوبات الأمريكية والأوروبية أيضاً عائقًا أمام تدخل النظام ليعيد العافية للعملة المرهقة، ولا يعود انخفاض الليرة إلى هذه العقوبات فحسب، فقد “تأثر أيضًا بارتفاع الطلب على الدولار في لبنان المجاور، لأن بيروت تعد سوقًا أساسية للدولار بالنسبة للمستوردين السوريين الذين يستخدمون النظام المصرفي اللبناني في تجارتهم”، وفقًا لنشرة “سيريا ريبورت“. وتوضح النشرة أن وضع رأس النظام السوري بشار الأسد لابن خاله المستثمر الكبير رامي مخلوف في الإقامة الجبرية سبب بهذا الانهيار، مما ألقى بظلال قاتمة على الاقتصاد المتدهور.
ونتيجةً لخروج العديد من المدن السورية عن سيطرة النظام منذ سنوات، غابت الموارد النفطية وموارد السلة الغذائية عن خزينة الدولة السورية، وأيضًا جميع من في المدن الخارجة عن السيطرة لايدفعون الضرائب، كل ذلك مع الحصار الدولي على نظام الأسد ورجالاته أدى لهذا الانهيار، كما قال الدكتور أسامة القاضي الخبير الاقتصادي السوري في أحد البرامج التلفزيونية.
ويرى مرشد النايف الكاتب والصحفي السوري أن “رؤوس الأموال الموالية لنظام الأسد لم تجد بدًا من الهروب، ولم يبق بجانب الأسد من مافيات المال والأعمال إلا القلة القليلة، ولو كان هناك كتلة وازنة من أثرياء الحرب تضخ في السوق السورية وتدعم النظام لرأينا أن الليرة تتعافى مع زيادة سيطرة الأسد على المدن والبلدات”، ويشير النايف في حوار تلفزيوني أن “الرجال المحيطين بالأسد قد انفضوا عنه والداعم الإيراني الذي كان يقيه بعضًا من الانهيار توقف عن الإمدادات لوجود عقوبات مماثلة عليه”.
واشنطن تعلّق
وفي أول رد من واشنطن على تدهور سعر الليرة أما الدولار، أوضح مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط المبعوث الخاص لسوريا جويل رايبورن، “أن واشنطن تركز على الجانب الاقتصادي والسياسي لإجبار النظام وحلفائه على الجلوس إلى طاولة المفاوضات في جنيف وتطبيق القرار 2254”. وأشار إلى أن “الولايات المتحدة تعمل على تجفيف موارد النظام وحلفائه من خلال العقوبات الاقتصادية”، مشيرًا إلى أن “الانهيار الذي تشهده الليرة السورية دليل على جدوى تلك الإجراءات وعلى الوضع السيئ لنظام الأسد وداعميه، متوقعًا أن يتجاوز الدولار الواحد 700 ليرة”.
التومان والليرة
ولطالما عوّل النظام السوري ورجالاته ومؤيدوه على الدعم الإيراني الذي يصل تباعًا منذ عام 2011، إلا أنه وفي العامين الأخيرين اقتصرت المساعدات الإيرانية على النفط وبعض المساعدات العينية والعسكرية، حيث أن إيران هي الأخرى ترزح تحت وطأة حصار اقتصادي دولي كبير، لا يجعلها تتحمل تكاليف النظام السوري، حتى أن السفن الإيرانية المحملة بالنفط التي تتوجه إلى سوريا تعاني للوصول كما حصل مع السفينة “أدريان داريا 1”.
وتراجع الريال الإيراني في السوق السوداء لأدنى مستوياته في شهر أيار مايو المنصرم، إلى 154 ألف ريال للدولار، وعلى وقع العقوبات الأمريكية تظل العملة الإيرانية متأرجحة وتحيط بها المخاوف الدائمة، خاصة وأن واشنطن تستهدف إيرادات النفط الإيرانية وتريد تصفيرها نهائيًا.
وتواصل قيمة الريال الإيراني التدهور منذ العام الماضي، وقبل ثلاثة أعوام كان الدولار الأميركي يساوي 37 ألف ريال إيراني، لكن العملة الإيرانية تدهورت بشكل كبير العام الماضي ليصبح الدولار الواحد يساوي 180 ألف ريال، من جهته توقّع صندوق النقد الدولي انكماش الاقتصاد الإيراني بنسبة 6 بالمئة هذا العام، بسبب العقوبات وتزايد عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
ويقول المعارض السوري رضوان زيادة، أن “القيمة الحقيقة للدولار مقابل الليرة هو 3000 ليرة وسيستمر التهاوي ولن يؤثر ذلك في وضعية النظام” ويشبه زيادة وضع الليرة السورية ووضعها الحالي بتجارب سابقة من العراق وكوريا الشمالية وإيران وزيمبابوي، ويشير في منشور له على فيسبوك إلى أن كل عملة لهذه الدول “عملتها كليا وأصبح قيمة الورق المطبوع عليها أعلى قيمة من الورقة النقدية ذاتها”.
حلول ترقيعية
إلى ذلك، اقترح مدير عام المصرف العقاري السوري مدين علي، “اتخاذ إجراءات جزائية بحق من يثبت تورطه بالمضاربة بالدولار سواء كان بنوكًا أم أشخاصًا أم فعاليات، وإعادة النظر بسياسة تمويل الاستيراد، وربما الانسحاب منها وترك الموضوع للقطاع الخاص، مع وضع قيود صارمة ومتشددة على الاستيراد إلا للحاجة القصوى”، كما اقترح “فرض قرض إلزامي بالدولار على كبار التجار والمتمولين ورجال المال والأعمال الجدد، ومصادرة أموال من يرفض مساعدة الدولة بقرض بالدولار”.
إلا أن الخبير الاقتصادي السوري أسامة القاضي يرى أن “الحل لعودة العملة الوطنية إلى قوتها يكمن في الحل السياسي في البلاد، مع عودة ملايين السوريين إلى وطنهم في إطار الحل السياسي”.