ترجمة وتحرير: نون بوست
قاعدة معطن السارة هي قاعدة جوية مهجورة في الصحراء الليبية، دفنت الرمال ثكناتها التي يمكنها إيواء مئات الجنود، وتسببت أشعة الشمس الحارة وسنوات طويلة من الإهمال بتشقق أسفلت مدرجيها اللذين يمتدان على طول أربعة كيلومترات.
بعد أن كانت إحدى القواعد الرئيسية التي تتمركز فيها القوات الجوية الليبية، باتت معطن السارة خالية من قواتها بعد سقوط معمر القذافي في 2011.
لكن منذ أواخر السنة الماضية، بدأت الجرافات والمحادل تتحرك داخل القاعدة، بهدف تجديد البنية التحتية وتحديث المنشآت، وهي الخطوات التي تعكس استعداد فيلق أفريقيا الروسي للسيطرة على الموقع.
هذا الهيكل العسكري السياسي الذي أعدته موسكو ليحل بدلا من قوات فاغنر آخذ في الانتشار عبر القارة الأفريقية، وتبدو معطن السارة واحدة من نقاط ارتكازه الرئيسية بفضل أهمية موقعها الاستراتيجي، حيث تقع في المثلث الجنوبي لليبيا، على الحدود مع مصر والسودان وتشاد، (تبعد عن تشاد 100 كيلومتر فقط)، مما يمنحها سيطرة على الشريط الساحلي الصحراوي.
تقع القاعدة في منطقة النفوذ الجديدة لروسيا في أفريقيا، ومع مرور الوقت، ستتيح لها الوصول المباشر، دون الحاجة للتزود بالوقود، إلى القواعد الجوية في نيامي بالنيجر ولومبيلا في بوركينا فاسو وغاو في مالي، بالإضافة إلى القاعدة البحرية المستقبلية التي وُعدت بها روسيا في بورتسودان.
يعد هذا التمركز ضروريًا لإعادة توجيه الاستراتيجية الروسية في القارة، وهي العملية التي انطلقت إبان مقتل يفغيني بريغوجين، مؤسس قوات فاغنر، الذي لقي حتفه في حادث تحطم طائرته في أغسطس/ آب 2023.
من خلال إنشاء فيلق أفريقيا، بدأت وزارة الدفاع الروسية وجهاز الاستخبارات العسكرية باستعادة وتوسيع المنظومة الأمنية التي أنشأتها مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة منذ 2017، واستحوذت في الوقت ذاته على قواتها ومنشآتها.
تفوق الطموحات التي تعلقها روسيا على المشروع الجديد الطموحات السابقة، حيث تسعى إلى ترسيخ وجودها في أفريقيا عبر إنشاء بنية لوجستية متعددة المحاور تربط دول الساحل بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر عبر الصحراء الكبرى.
معطن السارة.. المركز الجديد لـ”فيلق أفريقيا”
بمساحتها التي تناهز 6 كيلومتر مربع، تُعد معطن السارة القاعدة الوحيدة في جنوب ليبيا القادرة على تلبية الطموحات التوسعية للكرملين. فهي تقع في منطقة خاضعة لسيطرة قوات خليفة حفتر، الحليف الوثيق لروسيا، وهو العامل الذي جعلها خيار موسكو الأمثل.
في التاسع من مايو/ أيار 2024، وبدعوة من ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، زار خالد حفتر، نجل خليفة حفتر ورئيس أركان القوات المسيطرة على شرق ليبيا، موسكو لمناقشة نشر فيلق أفريقيا في ليبيا. وفي 31 من الشهر ذاته، أدى نائب وزير الدفاع الروسي زيارة إلى خالد حفتر في ليبيا. تفيد المعلومات أنه تم خلال هذا اللقاء الاتفاق على إعادة تأهيل القاعدة.
في بداية يوليو/ تموز 2024، رصدت الأقمار الصناعية أولى مؤشرات إعادة الاستثمار في القاعدة، حيث تم نشر مركبات وحاويات في مرابض الطائرات، كما لوحظ انطلاق عمليات إصلاح المدرج.
انطلقت أعمال البناء في القاعدة بوتيرة بطيئة، إلا أن سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 سرّع العملية بعد التخلي عن القواعد الروسية في سوريا. ومن أجل ضمان عدم خسارة قواتها ومعداتها، قررت موسكو إجلاء قواتها إلى ليبيا.
حسب صحيفة وول ستريت جورنال، نُقلت رادارات ومنظومات دفاع جوي من طراز “إس 300″ و”إس 400” إلى طبرق باعتباره آخر ميناء يخضع للسيطرة الروسية في البحر الأبيض المتوسط، وذلك بعد التخلي عن القاعدة البحرية في طرطوس. أدت هذه المستجدات إلى ارتفاع عدد القوات الروسية في ليبيا من 800 إلى 1800 جندي.
تسارعت أعمال إعادة تأهيل قاعدة معطن السارة في أواخر عام 2024. وبفضل صور الأقمار الصناعية التي حصلت عليها جون أفريك من شركة ماكسار الأمريكية الخاصة، أصبح بالإمكان قياس حجم القاعدة.
تُظهر إحدى الصور 11 مركبة وما يقارب 15 حاوية، تُستخدم لنقل المعدات وإيواء العمال، في منطقة وقوف الطائرات. وتظهر الصورة نفسها تصاعد الدخان من موقع إنتاج البيتومين المستخدم في إعادة تعبيد أحد مدرجي القاعدة.
تشمل أعمال إعادة التأهيل أيضًا منطقة حركة ووقوف الطائرات، التي تمتد على مساحة 85 ألف متر مربع. أما الصورة الأخيرة، الملتقطة في الرابع من فبراير/ شباط 2025، فتُظهر أن المنطقة باتت مغطاة بالكامل بالأسفلت، إلى جانب إنشاء منطقة جديدة من الخرسانة بمساحة 12 ألف متر مربع.
ومع إعادة تأهيل المستودعات خلال الأشهر المقبلة، ستتمكن القاعدة من استيعاب نحو 100 طائرة عسكرية، ما يعزز بشكل كبير القدرات التشغيلية للقوات الروسية في ليبيا.
لم يقتصر تحديث المنشآت على قاعدة معطن السارة، فقد بُذلت جهود مماثلة في قاعدتين جويتين أخريين؛ هما الجفرة وسط البلاد، والخادم بالقرب من مدينة بنغازي الساحلية.
ووفقًا لتقرير صادر عن المجموعة البحثية “كل العيون على فاغنر”، فإنه منذ سقوط نظام الأسد، نُفذت عشرة رحلات شحن عسكرية بواسطة طائرات “إليوشن إي إل-76” و”أنتونوف أن-124″، نُقلت خلالها معدات عسكرية متطورة إلى القاعدتين، شملت منظومات دفاع جوي الروسية من طراز “إس 300 ” و”إس 400″. هذه القواعد كانت تستخدمها سابقًا قوات فاغنر.
أشار موقع “المبادرة الأفريقية”، الذراع الإعلامي لموسكو في القارة، إلى استبدال أكثر من نصف عناصر فاغنر في ليبيا بجنود من “فيلق أفريقيا”.
يندرج تشكيل هذا المركز اللوجستي الجديد ضمن استراتيجية روسية واسعة النطاق، حيث سيكمل شبكة من القواعد تمتد من شمال ليبيا إلى جنوب جمهورية أفريقيا الوسطى.
بالإضافة إلى ذلك، يخول هذا المركز لموسكو إنشاء جسر جوي بين البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الساحل، ما يسهل نقل القوات والمعدات إلى حلفائها في المنطقة. كما يقيد إمكانية وصول القوات الفرنسية والأمريكية إلى هذه المناطق.
الربط الاستراتيجي بين البحر الأبيض المتوسط والساحل
يؤكد باحث مالي بأن روسيا تسعى إلى نشر قواتها بشكل يشبه ما تقوم به القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، والتي تنسق جميع الأنشطة العسكرية والأمنية الأمريكية في القارة.
بالإضافة إلى الربط بين البحر الأبيض المتوسط والساحل، فإن الهدف التالي لإعادة تنظيم الوجود الروسي في أفريقيا هو قطع الطريق أمام القوى الغربية نحو جنوب المحيط الأطلسي، من خلال إدخال بعض دول خليج غينيا ضمن مجال النفوذ الحيوي الجديد لموسكو.
وأوضح إيغور كورتشينكو رئيس تحرير مجلة الدفاع الوطني الروسية، بأنه إلى جانب الفوائد السياسية والعسكرية الواضحة، فإن استغلال هذا الانتشار سيوفر لروسيا عوائد اقتصادية من خلال السيطرة على احتياطيات الذهب والبلاتين والكوبالت واليورانيوم والألماس والنفط والمعادن النادرة، وتطويرها مع الشركاء الأفارقة بشكل مفيد لجميع الأطراف.
وسيمكّن إعادة تأهيل قاعدة معطن السارة في ليبيا من فتح طريق نقل باتجاه تشاد المجاورة، بعد مغادرة القوات الفرنسية المتمركزة في البلاد في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، إثر إلغاء نجامينا للاتفاق الدفاعي الذي كان يربطها بباريس.
وكان وزير الخارجية التشادي المقال من منصبه عبد الرحمن كولامالا، قد صرح في بداية ديسمبر/ كانون الأول في مقابلة مع “فرانس 24″، أن بلاده ترغب في إنهاء أي وجود عسكري أجنبي، مؤكدًا أنه لن يكون هناك جنود فرنسيون على الأراضي التشادية، ولا جنود روس، لكن عدة مصادر أكدت لمجلة “جون أفريك” وجود عناصر من “فيلق أفريقيا” في التشاد، وقد لاحظ البعض حضورهم في شوارع العاصمة.
تشير زائرة أجنبية إلى أنها التقت بهم في فندق “لا تشاديان”، بالقرب من المطار، مؤكدة أنهم يتناولون الطعام في مجموعات من ستة أو سبعة أشخاص، من أعمار مختلفة، يرتدون ملابس عسكرية ويتحدثون بالروسية، وأصبح حضورهم أكثر وضوحًا في الأسابيع الثلاث الأخيرة. كما صادفتهم أيضًا في محلات التسوق وفي الشارع.
وأفاد مصدر آخر بأن هؤلاء طيارون روس يرافقون المبعوثين المدنيين والضباط الكبار الذين يقيمون في فندق راديسون في “نجامينا”، والذين جاءوا للتفاوض بشأن نشر “فيلق أفريقيا” في تشاد، بعد أشهر من التقارب الذي بدأته موسكو قبل الانتخابات الرئاسية التشادية في مايو/ أيار 2024.
وكانت روسيا في الواقع أول دولة تهنئ الرئيس المنتخب محمد إدريس ديبي إتنو بهذه المناسبة. وكان ديبي قد زار روسيا في يناير/ كانون الثاني 2024 للتباحث حول إمكانية تعزيز التعاون بين البلدين.
وفي شهر يونيو/ حزيران، أي بعد شهر من الانتخابات، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن روسيا وتشاد وقعتا عدة اتفاقيات تهيئ الإطار القانوني لدعم التعاون في مجال الدفاع والأمن.
يبدو أن هذا التعاون بدأ يتجسد بالفعل في قاعدة “فايا لارجو” في وسط البلاد، وهي القاعدة التي كانت القوات الفرنسية متمركزة فيها قبل بضعة أسابيع.
تُظهر صورة قدمها مصدر محلي مشهدًا لعملية تفريغ لشحنة كبيرة من معدات الاتصال في في نهاية يناير/ كانون الثاني، وقد أشرف على تركيبها طاقم روسي. تشمل التجهيزات رادارات مضادة للمدافع، ورادارات مضادة للطائرات المسيّرة قصيرة المدى وعالية التردد، وتُستخدم في تأمين المجال الجوي. تؤشر هذه الصورة إلى وجود نية بدمج القاعدة في منظومة “فيلق أفريقيا”.
وتقع قاعدة “فايا لارجو” على بعد 500 كم من قاعدة معطن السارة، مما يجعلها تكمل الربط اللوجستي الروسي بين البحر الأبيض المتوسط والساحل.
المصدر: جون أفريك