لطالما حذرت منظمات حقوق الإنسان المرموقة، مثل العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش، من الفظاعات التي يرتكبها نظام بشار الأسد في سجونه وأفرعه الأمنية، ضد المعتقلين والمعتقلات على خلفية سياسية، على رأسها الاعتداء والعنف الجنسي كأداة حرب لقمع الثورة وكسر إرادة السوريين وقهرهم وإهانتهم، إذ أذاق نظام “الوحش”، كما وصفته أخيرًا صحيفة الإيكونوميست، النساء المعتقلات، بشكل خاص، ألوان العذاب عبر تفننه بالاعتداءات الجنسية، بصورة ممنهجة بوصفها سلاحًا إستراتيجيًا في حربه ضد الشعب السوري، وهو سلاح يعلم تمامًا أن الأذى الذي سيتسبب به لا يقف عند حدود السجن، لكنه يستمر بعد الإفراج عن الضحايا اللواتي يواجهن مجتمعًا تعاني بعض بيئاته من الانغلاق وعدم التقبّل والتشدد حيال التقاليد المتعلقة بالمرأة حتى وإن كانت ضحية عنف إجباري قد مورس عليها.
ففي كثير من الأحيان، كانت صفحة جديدة من المعاناة والمآسي تواجهها النساء المعتقلات في سجون الأسد فور الإفراج عنهن، حيث يصطدمن بواقع أن عائلاتهن غيّر مرحبات بهن، ما يحوّل حياتهن لجحيم من نوع آخر قد لا يقل في كثير من الأحيان عن جحيم سجون نظام الأسد.
دوافع وأسباب
لم يكن ثمن المشاركة بالثورة السورية هينًا أبدًا على كل أطياف المجتمع السوري وفئاته، فقد نال الجميع شيئًا من هذه المحنة وبأشكال عديدة من بينها الاعتقال والسجن الذي يعد من أصعب المحن التي قد يمر بها أي إنسان دون تفريق بين رجل وامرأة، فقد وصلت أعداد المعتقلين في سجون الأسد خلال سنوات الثورة إلى ما لا يقل عن 128417 شخصًا لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري لدى النظام السوري بينهم3507 طفل و7852 سيدة (أنثى بالغة)، بينما تصل أعداد المحتجزات في سجون باقي القوى الفاعلة كداعش وهيئة تحرير الشام وسجون المليشيات الكردية إلى 1538 امرأة يعانين من تعذيب جسدي ونفسي وعمليات اغتصاب ممنهجة هدفها التأثير عليهن وعلى عائلاتهن في كثير من الأحيان.
يجدن أنفسهن أمام خيارين إما قول الحقيقة أو إخفائها، فتضطر بعضهن لمواجهة هذه السلطة الجديدة بالواقع مما قد يضعهن أمام تعنيف نفسي وجسدي من أفراد العائلة
فحسب شهادات للكثير من الناجيات من معتقلات الأسد على وجه الخصوص، فقد تعرضن لأساليب تعذيب ممنهجة ومدروسة يطغى عليها التعذيب الجنسي والتهديد به كونه السلاح الأقوى تأثيرًا على المرأة وعائلتها والمجتمع بشكل كامل، مما يضطر الفتاة لمواجهة سجن آخر أكبر بعد خروجها من المعتقل وهو سجن العائلة أو المجتمع، بالأخص اللواتي خرجن ومعهن أطفال نتيجة الاغتصاب.
فتضطر بعضهن لمواجهة هذه السلطة الجديدة بالواقع مما قد يضعهن أمام تعنيف نفسي وجسدي من أفراد العائلة المقربة والبعيدة أحيانًا، وقد يصل الأمر في بعض الحالات إلى إنكار وجودهن على قيد الحياة واستخراج وثيقة وفاة لهن، وهناك أيضًا من لجأن لإخفاء حقيقة ما مررن به خلال تلك الفترة لمعرفتهن مسبقًا بردود فعل أهلهن ومجتمعهن وهؤلاء يشكلن النسبة الأكبر.
تختلف دوافع الأسر في ردود فعلهم القاسية وغير المتفهمة لما مرت به بناتهن من إجبار وتعنيف داخل أقبية السجن بين عدة أسباب، على رأسها التقاليد ومفهوم الشرف وإسقاطه على ممارسة المرأة للجنس خارج إطار الزواج وأخرى بين ضغوط من العائلة الكبيرة وأفرادها واعتبار الفتاة وكل عائلتها عارًا على العشيرة أو القبيلة أو سمعة العائلة بشكل عام، بينما توجد أحيانًا انقسامات داخل العائلة نفسها بين مساند يعطف ويدعم الضحية وآخر يسعى لتهميشها ومضايقتها.
تجارب الضحايا
وفي إطار إلقاء الضوء على هذه الظاهرة، تحدثنا مع بعض من أبرز الحالات المتكررة في مسألة المغتصبات داخل أقبية أفرع الأمن السورية، تحدثنا مع ثلاث ضحايا تعرضن للاغتصاب وتمكّنا من الوصول إليهن من خلال منظمات تعمل على تقديم المساعدة النفسية والإنسانية لهن، سألناهم فيها عن ظروف اعتقالهن وقصصهن بعد الخروج من المعتقل، دون تعريضهن لمعاناة فتح الجراح من جديد، كما تم تغيير الأسماء للحفاظ على هويتهن الحقيقية.
سمر، كانت في الـ21 من عمرها حين اعتقلت خلال مظاهرة نسائية في الغوطة دمشق، حيث هاجمها أفراد النظام واعتقلوها هي وعدة فتيات وتم حبسها لمدة 3 سنوات انقطعت خلالها عن الخارج بشكل تام فلم تتواصل مع أي أحد من أهلها أو أقربائها، تعرضت خلال سنوات حبسها لأقسى أنواع التعذيب من بينها الاغتصاب لعدة مرات، مما أدى إلى حملها وولادتها داخل السجن، وبعد خروجها بمدة قصيرة لحقت بأهلها في مخيمات الحدود التركية لتتفاجأ بمعاناة جديدة تتلخص بتعنيف لفظي وجسدي لها وللطفل.
فيما تشرح أنه لدى وصولها إلى عائلتها في المخيم، حظيت ببعض التعاطف من والدتها التي احتضنتها، بخلاف والدها الذي كرر ضربها وطفلها الذي بالكاد بلغ عامه الثاني، كما كان يطلق شتائم على الطفل من قبيل “ابن حرام”، وأشارت إلى أن أمها تخلت عن تعاطفها شيئًا فشيئًا بسبب الضغط الذي شكله عليها مجتمع المخيم الذي كان بدوره يرى فيها عارًا، بينما تبحث سمر الآن عن محاولة هروب من عائلتها للعيش مع طفلها في بيئة آمنة.
أما زهرة 19 عامًا، فقد اعتقلتها قوات النظام من على حاجز في مدينة حمص، واتهمتها بإسعاف الجرحى والمصابين في منطقة بابا عمرو، وسُجنت على هذا الأساس لمدة سنتين تعرضت خلالهما أيضًا لتعنيف جسدي وجنسي ولفظي وإهانات لها ولعائلتها، فهي من عشيرة معروفة في المدينة، فتقول: “كانوا يقولون لي بأنني حين أخرج من هنا سأكون منبوذة داخل المجتمع وبأنني عار على عائلتي لذا يفضل ألا أخرج من هنا حية”.
بعد قضائها ما يقارب السنتين في المعتقل خرجت وهي حامل بطفل، لكنها اختارت عدم إخبار عائلتها، فطلبت المساعدة من بعض المؤسسات الإنسانية لإجراء عملية إجهاض، كما أجرت عملية خياطة للعضو التناسلي.
عمليات التعذيب النفسي للنساء تكون مختلفة في ماهيتها عن الرجال من خلال إخبارهن بأنهن سيكونن منبوذات في المجتمع وغير قادرات على الزواج أو العيش بشكل طبيعي كباقي النساء
ميادة من مدينة دمشق، كانت متزوجة حين تم اعتقالها بسبب النشاط الثوري العلني لأخيها، إذ داهمت قوات الأمن منزل عائلتها واعتقلتها بدلًا عنه في محاولة لابتزاز أخيها والضغط عليه، في السجن تم اغتصابها ومحاولة تدميرها نفسيًا عبر إسماعها كلمات تركز على “تخلي عائلتها عنها ونسيانها في السجن وعدم اهتمامهم بها”، وبعد سنة قضتها في السجن تم الإفراج عنها في صفقة تبادل أسرى، إلا أنها عانت من ضرب وإهانات من زوجها حتى قرر الانفصال عنها كونها لم تعد “شريفة” على حد تعبيره.
كيف هو الأمر بنظر المختصين؟
لفهم الوضع بشكل أوضح كما هو على أرض الواقع، حاورنا في “نون بوست” الاختصاصية النفسية أريج الطباع التي تعمل منذ وقت طويل في مجال الدعم النفسي مع مؤسسة “لأنك إنسان” وبالأخص مع النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب خلال فترة السجن، فترى الطباع أنه “عادة ما تكون النساء أكثر تعاطفًا من الرجال في تقبل الضحية والتعامل معها، كما يوجد أيضًا نساء ممن فضلن إخبار أمهاتهن أو أخواتهن فقط، بينما يعتبر الزوج أو الخطيب أكثر المعنِفين”.
وعن أساليب التعذيب النفسي التي يتبعها نظام الأسد في سجونه تجاه النساء، قالت: “عمليات التعذيب النفسي للنساء تكون مختلفة في ماهيتها عن الرجال فهم يتبعون طريقة خاصة في التأثير على حالتهن النفسية وأفكارهن من خلال إخبارهن بأنهن سيكونن منبوذات في المجتمع وغير قادرات على الزواج أو العيش بشكل طبيعي كباقي النساء، وهو ما يعد كافيًا لتدمير ثقتهن بأنفسهن وضعف الثقة بمن حولهن من رجال – سواء من العائلة أم غيرها – وحتى قد يصل الأمر في البعض إلى كره أنوثتهن وطبيعة أجسامهن فيلجأن إلى قص شعرهن أو غيرها من الممارسات”.
يحتاج ضحايا الاغتصاب بشكل عام سواء كانوا من الرجال أم النساء عناية خاصة مختلفة عما هي عليه في دعم ومساندة المعتقلين الذي تعرضوا لأشكال تعذيب أخرى، إذ يخرج الكثير منهم فاقدين للثقة بالنفس والإحساس بالأمان، فيمكن لأي كلمة عادية أن تسبب لهم حساسية كبيرة. على سبيل المثال هناك من تلمن أزواجهن لعدم مساعدتهن وإنقاذهن من المعتقل، كما يوجد بعض النساء ممن فقدن عقولهن فأصبحن يعانين من نوبات هلع وخوف مستمرة تسيطر على حياتهن بشكل كامل نتيجة لعدم قدرتهن على استيعاب ما مررن به.
تقول أريج في هذا الخصوص إن مساعدة هؤلاء الضحايا واجب مهم بقدر أهمية باقي الأمور التي يجب معالجتها وتداركها في الفترة الحاليّة، وفترة العلاج تستوجب مشاركة كل الأطراف من عائلة وبيئة ومجتمع حاضن من خلال إشعارهن بالأمان ومساعدتهن على تقبل الماضي وتجاوزه، فليست كل الضحايا قادرة على شرح نفسها أو حتى الحديث في الأمر لما يسببه من شعور بالخزي والعار، لذا يصعب على الاختصاصيين معالجتهن دون الحاجة لمساعدة أطراف أخرى بالإضافة إلى وجوب توفير الدعم للمؤسسات التي تعمل على معالجة هذا النوع من الحالات.
الأمر بحد ذاته يشكل صدمة لأهالي الضحايا ويعرضهم للمساءلة والتضييق وحتى النبذ من المجتمع
فيما تشير إلى أمر في غاية الأهمية وهو أن الأمر بحد ذاته يشكل صدمة لأهالي الضحايا ويعرضهم للمساءلة والتضييق وحتى النبذ من المجتمع إلا أنه رغم هذا كله ما زالت هناك نسبة “لا بأس بها” من العائلات الواعية والداعمة لحالات مشابهة مرت بها بناتهن وكانوا لهن عونًا، ويوجد حتى بعض الحالات يكون الزوج الداعم الأول ويسعى للمساعدة في تلقي العلاج والمساندة لتجاوز هذه المرحلة والعودة – قدر الإمكان – لممارسة الحياة الطبيعية.
نهاية؛ يجب الإحاطة بأن مسألة تعرض المعتقلين للاغتصاب – سواء كانوا رجالًا أم نساءً – حالة تستوجب عناية خاصة لكلا الطرفين من كل الأطراف، وبالأخص عدم التفريق بين أهمية معالجتهم دون تفضيل واحد على آخر، بالإضافة إلى وجوب التوعية بشأن حالتهم والالتفات لمعاناتهم كونها ما زالت مستمرة حتى بعد إنقاذهم.