منذ الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003، شهدت الأسواق العراقية دخول بضائع ومواد غذائية من مختلف المناشئ، منها بضائع أصلية وذات جودة عالية وكثير منها بضائع فاسدة أو مغشوشة، يتلاعب التجار ومافيات الاستيراد بعلاماتها التجارية.
الأسطر التالية لـ “نون بوست” ترصد ظاهرة انتشار البضائع الفاسدة والمزورة في ظل غياب الرقابة وتدهور كبير في الإنتاج المحلي.
غزو سلعي للأسواق العراقية
“من يبحث عن المنتجات العراقية في الأسواق كمن يبحث عن إبرة في كومة قش” بهذه الكلمات يصف الشاب العراقي “محمد صباح” حال الأسواق العراقية في العاصمة بغداد.
بات الغش الصناعي والبضاعة الفاسدة لا سيما الغذائية منها، سمة من سمات السوق العراقي في ظل غياب الرقابة على المنتجات المحلية أو المستوردة وغياب السيطرة النوعية والجهات الرقابية الفاعلة
إذ وعلى الرغم من أن الأسواق مليئة بالبضائع، إلا أنه نادرًا ما تجد منتجًا محليًا أو أجنبيًا ذي جودة عالية، إذ يؤكد محمد أن الغالبية العظمى منها إما سيئة النوعية والجودة أو أنها مزورة.
بات الغش الصناعي والبضاعة الفاسدة لا سيما الغذائية منها، سمة من سمات السوق العراقي في ظل غياب الرقابة على المنتجات المحلية أو المستوردة وغياب السيطرة النوعية والجهات الرقابية الفاعلة، ما ادى إلى انتشار ظاهرة العلامات التجارية المقلدة.
إذ وعلى الرغم من وجود هيئة تُعرف باسم (جهاز التقييس والسيطرة النوعية) المختصة بالإشراف على فحص البضائع الداخلة إلى البلاد، إلا أن مسؤولين عراقيين يؤكدون أن أكثر من 55% من البضائع المستوردة غير مطابقة للمواصفات وغير آمنة للمستهلك العراقي، إذ أن هذه البضائع تدخل عبر التهريب التهريب والفساد المستشري في المنافذ الحدودية أو الغش داخل العراق من خلال مافيات متخصصة.
ويؤكد مسؤول في وزارة التخطيط العراقية في حديثه لإحدى وسائل الإعلام أن المسح الأخير لفرق التفتيش في الوزارة أظهر أن نحو 55% من المواد المستوردة كان ينبغي ألا تدخل العراق، لافتًا إلى أن أغلب هذه البضائع هي أجهزة كهربائية ومنزلية ومواد طهي وقطع غيار للسيارات وبعضها مواد بلاستيكية غير صالحة للاستخدام البشري بسبب رداءة جودتها.
الاف المصانع العراقية أغلقت أبوابها منذ عام 2003 وذلك بسبب منافسة البضائع الأجنبية للمنتج المحلي على الرغم من رداءة جودتها
ويضيف المسؤول “تلك البضائع تستورد بمبالغ ضخمة وتصل إلى الأسواق، بسبب الفساد في المنافذ الحدودية، بينما تتكبد البلاد خسائر ضخمة، لاسيما أنه كان يمكن استيرادها بنفس السعر بجودة أعلى” بحسبه.
غياب الرقابة والفساد
آلاف المصانع العراقية أغلقت أبوابها منذ عام 2003 وذلك بسبب منافسة البضائع الأجنبية للمنتج المحلي على الرغم من رداءة جودتها، إذ يرى المحلل الاقتصادي “باسم جميل أنطوان” أن قرار الحاكم المدني للعراق “بول بريمر” الذي خفض الرسوم الجمركية والضريبية على جميع السلع المستوردة إلى 5% فقط أسهم بشكل كبير وفعال في تدهور الصناعة المحلية.
أنطوان يؤكد أن أغلبية من تولوا مسؤولية الحكم والسلطة في العراق بعد 2003 يعملون في التجارة والاستيراد، ومن مصلحتهم عدم نمو الصناعة المحلية، لافتًا إلى أنه وعلى الرغم من أن العراق شرع في عام 2010 عدة قوانين ومنها قانون التعرفة الجمركية وحماية المستهلك والتنافسية ومنع الإغراق السلعي، إلا أن جميعها لا زالت غير مفعلة حتى الآن.
ضبط دائرة صحة محافظة الديوانية في شهر فبراير/ شباط الماضي اكبر معمل للحليب ومساحيق الغسيل (التايد) يعمل على تزوير الماركات التجارية العالمية.
من جانب آخر، يشير أنطوان إلى أن هناك الكثير من الدول تعتمد على الاستيراد بسبب عدم إمكانية الإنتاج الصناعي فيها، إلا أن جميع البضائع المستوردة تخضع لمعايير صارمة في التدقيق والجودة، إلا في العراق، إذ يؤكد أنطوان أن العراق يفتقد لمنهجية استيراد منضبطة ومجدية، فجميع البضائع المستوردة لا تخضع للسيطرة النوعية وبات العراق مكبًّا لجميع البضائع المقلدة والفاسدة التي ترفض كثير من الدول استقبالها، بحسبه.
وكان عضو مجلس محافظة البصرة “احمد عبد الحسين” قد كشف عن وجود عمليات فساد وتزوير كبيرة في مستندات البضائع في الموانئ العراقية وذلك من خلال التعاون مع بعض الموظفين الفاسدين، إذ أن الموانئ العراقية غارقة بعمليات الفساد والتزوير، مبينًا أن التزوير يتم بتغيير تاريخ صلاحيتها وبتزوير شهادة المنشأ للدولة المصنعة للبضائع، لافتًا إلى أن عمليات التزوير تتم إما للتهرب من الجمرك أو لإدخال بضائع رديئة، بحسبه.
ومن ضمن الكوارث التي تم الكشف عنها مؤخرًا في تزوير العلامات التجارية في العراق، ضبط دائرة صحة محافظة الديوانية في شهر فبراير/ شباط الماضي أكبر معمل للحليب ومساحيق الغسيل (التايد) يعمل على تزوير الماركات التجارية العالمية.
مدير عام دائرة صحة الديوانية “لمياء الحسناوي” كشفت عن أن فرق الرقابة الصحية تمكنت من خلال جولاتها الميدانية من ضبط أكبر معمل للحليب والتايد المقلد المغشوش، وتزوير الماركات العالمية لحليب “نيدو” و”المدهش” ومسحوق إريـال للغسيل.
أحد تجار الأجهزة الكهربائية في مدينة الموصل “حازم محمد”، تحدث لـ “نون بوست” عن كم التزوير الذي يتم في استيراد المواد الكهربائية، ومع احتراف عمليات الغش الصناعي، باتت مهمة كشف البضائع المقلدة شبه مستحيلة حتى بالنسبة له
وأشارت الحسناوي إلى أن تزوير العلامات التجارية يتم من خلال وضع نوع آخر من الحليب أو التايد سيء الجودة في مغلفات شبيهة بالأصلية، بعد أن تمكنت هذه المافيا من استيراد الماكينات الخاصة بالتعليب وطبع المغلفات التي تصل نسبة تطابقها مع الأصلية إلى 99% .
أحد تجار الأجهزة الكهربائية في مدينة الموصل “حازم محمد”، تحدث لـ “نون بوست” عن كم التزوير الذي يتم في استيراد المواد الكهربائية، إذ يؤكد أنه يعمل في تجارة المواد الكهربائية منذ أكثر من 20 عامًا، ومع احتراف عمليات الغش الصناعي، باتت مهمة كشف البضائع المقلدة شبه مستحيلة حتى بالنسبة له.
ويضرب محمد مثالًا على البضائع المزورة التي باتت تغرق الأسواق العراقية، إذ أن المراوح الكهربائية من نوع “رامكو” باتت تباع في الأسواق بنصف سعر الأصلية منها، ويشتكي من أن الزبون دائمًا ما يتهمه بأنه يبيع هذه المراوح بأكثر من ضعف سعرها عن بقية المحلات.
ويؤكد محمد أن بعض التجار من ضعاف النفوس باتوا يذهبون بالمادة أو الجهاز الكهربائي الأصلي إلى الصين ليقلدوا صناعته وعلامته التجارية، ثم يورد المزور منها إلى العراق ليباع بأقل من سعر الماركة الأصلية، مشيرًا إلى أن لا سبيل للزبون بكشف التقليد إلا من خلال تفكيك الجهاز والاطلاع على مكوناته الداخلية.
القانون العراقي والاتفاقيات الدولية في محاربة الغش التجاري
نصت القوانين العراقية والاتفاقيات الدولية التي كان العراق قد وقع عليها على محاربة الغش التجاري والتقليد، إلا أن أي أثر لهذه القوانين والاتفاقيات لا زال غائبًا.
ص قانون العلامات والبيانات التجارية رقم (21) لسنة 1957 المعدل في المادة (35) الباب السادس (الجرائم والعقوبات) على الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات وبغرامة مالية على كل من زور علامة تجارية مسجلة بصورة قانونية او قلدها بطريقة يراد منها خداع الجمهور
إذ يؤكد رئيس محكمة البداءة المختصة بالقضايا التجارية القاضي “أمير الشمري” وجود مافيات متخصصة تعمل على تزييف العلامات التجارية والماركات في العراق وخارجه، وأن هذه المافيات تعمل على تزوير العلامات التجارية في داخل البلاد أو استيراد معدات ومكائن تمكنها من تزوير البضائع داخل العراق مستغلة جهل المستهلك المحلي وضعف الرقابة الحكومية.
وكشف الشمري في حديثه لإحدى وسائل الاعلام “أنه وبحسب اتفاقية باريس، فإنه يجب حماية العلامة التجارية الشهيرة، حتى وإن لم تسجل في العراق أو في أي بلد، إلا أنها تحظى بالحماية من التزوير أو التقليد”.
ولفت الشمري إلى أن الشركات المقلدة تعمد إلى استخدام اسم مقارب ومشابه للعلامة التجارية الأصلية كإضافة حرف أو تغييره واستخدام ذات نوع الخط المكتوب بها، وهذا ما يعد تضليلًا للمستهلك وخداعًا.
وينص قانون العلامات والبيانات التجارية رقم (21) لسنة 1957 المعدل في المادة (35) الباب السادس (الجرائم والعقوبات) على الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات وبغرامة مالية على كل من زور علامة تجارية مسجلة بصورة قانونية أو قلدها بطريقة يراد منها خداع الجمهور أو استعمل بسوء نية علامة تجارية مزورة أو مقلدة .
فضلًا عن أن القانون تطرق إلى محاسبة كل من يروج أو يبيع البضائع المقلدة أو استعمل بطريقة غير قانونية علامة تجارية مسجلة مملوكة لجهة أخرى.
غش صناعي وتزوير وإدخال للبضائع الفاسدة والمقلدة غذن، في ظل ضعف الرقابة الحكومية وتفش كبير للفساد في المنافذ الحدودية والجمركية، وضحية كل ذلك هو المستهلك العراقي
وفي هذا الصدد، يقول المشاور القانوني “مصطفى دريد” في حديثه لـ “نون بوست” إن المشرع العراقي لم يغفل أي جانب في مجال التعاملات التجارية، إلا أن المشكلة الحقيقة تكمن في تطبيق هذه القوانين.
ويضيف دريد أن هذه القوانين المختصة بالمعاملات التجارية لا يمكن تطبيقها بصرامة ما لم يُفعّل دور الجمارك وجهاز التقييس والسيطرة النوعية، وإلا فإنه وفي حال تطبيق القانون الآن بكل حذافيره، فإنه قلما تجد محلًا أو مركز تسوق في العراق لا يضم بضائع مغشوشة أو مقلدة، وهذه المشكلة وحلها يقع على عاتق وزارتي التجارة والداخلية، بحسبه.
هو غش صناعي وتزوير وإدخال للبضائع الفاسدة والمقلدة إذن، في ظل ضعف الرقابة الحكومية وتفش كبير للفساد في المنافذ الحدودية والجمركية، وضحية كل ذلك هو المستهلك العراقي الذي يدفع أموالًا طائلة مقابل بضائع ترفض غالبية الحكومات بيعها لمواطنيها لرداءتها.