كثيرةٌ هي المطبات والملفات الساخنة التي تنتظر حكومة رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك، مثل الأزمة الاقتصادية العاجلة التي كانت المحرك الأول للإطاحة بنظام البشير، إلى جانب ملف السلام بعد اعتراض الجبهة الثورية على الاتفاق النهائي الذي بموجبه تم تشكيل الحكومة الانتقالية، والجبهة ينضوي تحت لوائها عدد من الحركات المسلحة التي كانت تقاتل النظام المباد، كما هناك تحدٍ آخر أمام حمدوك هو الخطة الاقتصادية التي ينوي رئيس الوزراء تنفيذها مستقبلًا وهي ترتكز في المقام الأول على خفض الإنفاق العسكري للجيش بشكلٍ كبير، بحيث لا يقتطع 80% من الميزانية كما كان في عهد البشير، ومن غير المعروف كيفية تعاطي قادة الجيش مع خطة حمدوك خاصة أن مجالس المدينة تتحدث عن نفوذ واسع لمحمد حمدان دقلو “حميدتي” قائد مليشيا الجنجويد التي تعرف باسم “الدعم السريع” على عدد كبيرٍ من قادة القوات المسلحة السودانية.
ولكن في تقدير الكثيرين، المعضلة الأبرز التي ستواجه حمدوك هي السياسة الخارجية للدولة، والتي تنبني عليها معظم التحديات الأخرى بشكلٍ أو آخر، فمن المعروف أن الرئيس المخلوع عمر البشير كان يلعب على مختلف المحاور الإقليمية في ظل استمرار الأزمة الخليجية بين قطر وجيرانها للعام الثالث على التوالي، وعندما حدث التغيير استجابة للثورة ضد نظامه والتي استمرت قرابة 5 أشهر، انحاز جنرالات المجلس العسكري المحلول بشكلٍ سافرٍ إلى المحور السعودي الإماراتي المصري نظرًا لارتباط كل من رئيس المجلس عبدالفتاح البرهان ونائبه “حميدتي”، بملف إرسال القوات السودانية إلى اليمن وتكليفهما من البشير بالعملية التي لم تكن مرضية للغالبية العظمى من السودانيين.
انحياز للمحور السعودي الإماراتي
السياسة الخارجية التي انتهجها المجلس العسكري سابقًا، كانت واحدة من أهم نقاط الخلاف بينه وبين قوى الحرية والتغيير الائتلاف المدني الذي قاد الثورة من مطلع العام الجاري، فمن اللحظة الأولى لظهور مجلس البرهان وحميدتي، قامت السعودية والإمارات ومصر بالاعتراف به، بل وأعلنت الرياض وأبوظبي عن تقديم دعم يبلغ 3 مليارات دولار، في موقف مخالف لكل الإجماع الإقليمي والدولي، ولكن الثوار كانوا بالمرصاد لداعمي المجلس العسكري، إذ عبّروا بشكل واضح وإصرارٍ شديد عن رفضهم للتدخل في الشأن السوداني ومحاولات صُنع ديكتاتور جديد.
السياسة الخارجية كانت واحدة من أهم نقاط الخلاف بين قوى الثورة والعسكريين، ذلك لأن المدنيين استفادوا من تجارب الدول المحيطة بالسودان، والتفاف القادة العسكريين على الثورات العربية بدعمٍ من محور الثورات المضادة
الديكتاتور الافتراضي الجديد الذي كان يسعى لتلميع نفسه من أجل تولي السلطة الانتقالية والترشح في الانتخابات المقبلة بدعمٍ من المحور السعودي الإماراتي هو الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف باسم “حميدتي”، فالجنرال المثير للجدل الذي لم يتلقّ أي تعليم نظاميٍّ ولم يدخل الكلية الحربية، انطلق منذ توليه منصب نائب رئيس المجلس العسكري المحلول في زياراتٍ إلى عواصم هذا المحور واستُقبل فيها استقبالًا رسميًا كاستقبال رؤساء الدول رغم أن القوى المؤثرة خارجيًا مثل الاتحاد الإفريقي والأوروبي لم تعترف مطلقًا بالمجلس العسكري بل إن الاتحاد الإفريقي اتخذ موقفًا شجاعًا بتجميد عضوية السودان في المؤسسة الإفريقية فور تورط القادة العسكريين في مذبحة القيادة العامة.
إن السياسة الخارجية كانت واحدة من أهم نقاط الخلاف بين قوى الثورة والعسكريين، ذلك لأن المدنيين استفادوا من تجارب الدول المحيطة بالسودان، والتفاف القادة العسكريين على الثورات العربية بدعمٍ من محور الثورات المضادة، فضلًا عن أن تكتل قوى الحرية كان ملتزمًا بالإعلان الصادر في يناير/ كانون الثاني الماضي الذي يطلق عليه اسم “إعلان الحرية والتغيير”، ومنه جاء اسم الائتلاف المعروف.
استقبال تشاووش أوغلو وجولته في شوارع العاصمة السودانية تتسببت في إرباكٍ واضحٍ للإعلاميين المحسوبين على المحور السعودي الإماراتي وحشود الذباب الإلكتروني
فالإعلان ينصّ بشكل صريح في البند السابع على ” تحسين علاقات السودان الخارجية وبناؤها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور مع إيلاء أهمية خاصة للعلاقة مع أشقائنا في دولة جنوب السودان”، صحيح أن سفارتي الرياض وأبوظبي حاولتا استقطاب عدد من رموز القوى الثورية واحتضانها وإغرائها، إلا إن تلك المحاولات فشلت بعد الضغط الإعلامي الذي مارسه الثوار في الشارع إلى جانب البيانات القوية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي السوداني منفردًا أحيانًا، وكان يفضح فيها بعض تصرفات رموز إعلان الحرية والتغيير.
حفل التوقيع النهائي.. بداية التغيير في السياسة الخارجية
قبيل ساعات من حفل التوقيع النهائي للاتفاق السوداني (17 أغسطس/آب)، حَدَث تطور غير متوقع من المجلس العسكري المحلول، حيث قرر المجلس إعادة فتح مكتب قناة الجزيرة في الخرطوم الذي كان قد أغلقه قبل يومين فقط من مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، أما الخطوة الثانية فتمثلت في دعوة تركيا للمشاركة في مراسم التوقيع النهائي، ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل استقبل رئيس المجلس العسكري عبدالفتاح البرهان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش الذي وصل الخرطوم قبل التوقيع النهائي بيوم.
استقبال تشاووش أوغلو وجولته في شوارع العاصمة السودانية تتسببت في إرباكٍ واضحٍ للإعلاميين المحسوبين على المحور السعودي الإماراتي وحشود الذباب الإلكتروني، حيث تساءل الكاتب السعودي حمود أبوطالب في تغريدة له قائلًا: هل عادت تركيا الى السودان؟ نرجو من الإخوة المسؤولين في السودان الإجابة”، فتلقّى أبوطالب ردودًا لاذعة من مغردين سودانيين كانت تتمحور في أغلبها حول السيادة الوطنية للسودان وأن المملكة ليست وصيةً على بلدهم لتتحكم في علاقاته الخارجية.
هل عادت تركيا الى السودان؟
نرجو من الإخوة المسؤولين في السودان الإجابة. https://t.co/WYcFGR8k1J
— حمود أبوطالب (@HamoodAbutalib) August 16, 2019
استفسار أبوطالب يدل على السذاجة التي يعاني منها الإعلام السعودي، فتركيا لم تغادر السودان مطلقًا، واتفاقية ترميم جزيرة سواكن التي وقعها الرئيس التركي أردوغان مع الرئيس المخلوع عمر البشير لا تزال ساريةً بعكس ما كانت تردده وسائل الإعلام المحسوبة على المحور السعودي الإماراتي من أن المجلس العسكري قام بإلغاء الاتفاقية وإبعاد تركيا عن سواكن.
المهم في الأمر، أن قوى الحرية والتغيير اشترطت على المجلس العسكري المحلول، دعوة دول الخليج الست لحفل التوقيع النهائي على اتفاق نقل السلطة وكذلك الدول المؤثرة المنخرطة في الشأن السوداني كتركيا، بعد أن كان العسكريون يتجهون إلى دعوة حلفائهم فقط، فمثّل دولة قطر وزير الدولة للشؤون الخارجية سعد المريخي، وكما ذكرنا بالأعلى وصل وزير خارجية تركيا مولود تشاووش الخرطوم قبل يومٍ من حفل التوقيع.
صدمة سعودية إماراتية
شكّل الحضور القطري والتركي في احتفال نقل السلطة السودانية بجانب إعادة فتح مكتب قناة الجزيرة بالخرطوم، ضربةً مزدوجةً لطموحات المحور السعودي الإماراتي الذي كان يسعى بوضوحٍ إلى قطف ثمار الثورة السودانية والالتفاف عليها لاستنساخ نظامٍ عسكري دكتاتوري كنظام السيسي في مصر بشتى السبل. إذ كشفت صحيفة نيويورك تايمز في تقريرٍ لها، أن “شركتين مصرية وأخرى إماراتية استخدمتا المال والخداع والحسابات المزيفة لسودانيين من أجل التأثير على جمهور من 14 مليونا على “فيسبوك”، وكذلك الآلاف على “إنستغرام”، ويورد كاتبا التقرير نقلا عن “فيسبوك”، قوله إن “الشركتين المصرية والإماراتية عملتا معًا من أجل إدارة 361 حسابا وصفحات، كانت تصل إلى 13.7 مليون شخص، وأنفقتا 167 ألف دولار لتروجا لهويات مزيفة، ومن أجل التغطية على عملهما الحقيقي”.
من تصريحاته الأولى التي أدلى بها رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك، يتبين لنا أن الرجل يعطي الأولوية في ملف العلاقات الخارجية إلى قضية رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأميركية
وتذكر الصحيفة أن هناك حسابات روّجت لنائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو نشرت صوره وهو يطبخ الطعام، ويتحدث أمام الجماهير، ويلتقي مع المدرسين، ولفتت النيويورك تايمز إلى أن “الناشطين السودانيين لاحظوا تدفق رسائل مؤيدة للعسكر من خلال حسابات مزيفة، وتستخدم عادة صور موسيقيين ونجوم معروفين، واستطاعوا التعرف على التغريدات كونها مزيفة من خلال اللغة العربية التي أشارت إلى أن كتابها غير سودانيين، فمثلًا تمت كتابة كلمة السودان والتعامل معها على أنها علم مؤنث، مع أن السودانيين جميعًا يعاملون اسم بلادهم على أنه مذكر”، فقد كانت الحسابات المزيفة تنشر موادها الترويجية تحت وسم #السودان_تستقر وهو ما أثار سخرية النشطاء السودانيين لسذاجة الفبركة.
حمدوك يعطي الأولوية لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب
من تصريحاته الأولى التي أدلى بها رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك، يتبين لنا أن الرجل يعطي الأولوية في ملف العلاقات الخارجية إلى قضية رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأميركية، فضلًا عن حرصه على إقامة علاقات متوازنة مع كل دول العالم، ومسألة ربط السودان بالإرهاب هي الورطة التي وضع فيها نظام البشير البلد بأكمله نتيجة لسياساته المتهورة تجاه جيرانه والقوى العظمى في العالم، وفي إشارة على أولوية الملف قال حمدوك “إنه إذا لم يتم التوصل لـ”تفاهمات من أجل إزالة اسم السودان من قوائم العقوبات الأمريكية، فلن يتغير أي شيء في البلاد على المستوى السياسي أو الاقتصادي”. مبشرًا بإجراء تفاهمات مع واشنطن، لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب”، ولافتًا إلى “إحراز تقدم كبير في سبيل ذلك“.
رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك يتمتع بعلاقاتٍ قويةٍ مع القيادة القَطَرية من خلال مشاركته في عدة مؤتمرات وفعاليات اقتصادية بالعاصمة الدوحة
نتوقف عند هذه النقطة التي كانت محل ابتزاز من المحور السعودي الإماراتي لنظام البشير والمجلس العسكري المحلول، إذ كانت الرياض وأبوظبي توحيان للبشير والعسكريين بمقدرتهما على رفع اسم السودان من القائمة الأميركية بواسطة علاقاتهما مع الرئيس ترمب، لكنّ حمدوك الذي يمتلك صلات قوية مع المجتمع الدولي كشف أنه يجري اتصالاته المباشرة مع الإدارة الأميركية ويتوقع رفع العقوبات قريبًا، وهذه الجزئية لن تكون أبدًا في صالح المحور السعودي الإماراتي الذي يتمنى أن يمسك ملفات عديدة لابتزاز السلطة الانتقالية في السودان.
علاقات متميزة مع قطر
تفيد متابعات “نون بوست”، أن رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك يتمتع بعلاقاتٍ قويةٍ مع القيادة القَطَرية من خلال مشاركته في عدة مؤتمرات وفعاليات اقتصادية بالعاصمة الدوحة، ومما يدل على ذلك الاتصال الهاتفي الذي تلقّاه حمدوك من نظيره القطري الشيخ عبدالله بن ناصر آل ثاني فور أداء الأول اليمين الدستورية، بغرض التهنئة وتبادل الأفكار حول العلاقات بين الدولتين.
وما يميز قطر في سياستها الخارجية أنها لا تُمارس “فيتو” على الدول التي تتمتع بعلاقات طيبةٍ معها، فهي لم تطلب من دولةٍ ما أن تقطع علاقتها مع دولةٍ أخرى كما يفعل المحور المناهض لها، بل تنتهج سياسة تقوم على الندية والاحترام المتبادل.
خصّت وزيرة الخارجية السودانية أسماء عبدالله، وهي محسوبة سابقًا على الحزب الشيوعي، قناة الجزيرة بأول مقابلة تلفزيونية، ذكرت فيها إن بلادها تنتظر الدعم المعنوي من الدول العربية
مواقف مشرفة للحزب الشيوعي
في هذا الخصوص يبرز الدور الكبير الذي لعبه الحزب الشيوعي السوداني في تصويب السياسة الخارجية للبلاد والتحذير من مخاطر تدخلات أبوظبي والرياض، ليس حبًا بالطبع في المحور المناهض لهما ولكن لأن المبادئ لا تتجزأ عند الحزب الشيوعي فهو يرى أن التدخلات الخارجية كلها شرٌ مستطيرٌ سيما إذا جاءت من محور الثورات المضادة كما يذكر رموز الشيوعي وعلى رأسهم السكرتير العام محمد مختار الخطيب والقيادي صديق يوسف.
ظهور حذر لوزيرة الخارجية أسماء عبدالله
خصّت وزيرة الخارجية السودانية أسماء عبدالله، وهي محسوبة سابقًا على الحزب الشيوعي، قناة الجزيرة بأول مقابلة تلفزيونية، ذكرت فيها أن بلادها تنتظر الدعم المعنوي من الدول العربية، ورحّبت بأي دعم مالي عربي غير مشروط، دون التدخل في شؤون بلادها الداخلية. مؤكدة على ذات التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء حمدوك وهي الابتعاد عن سياسة المحاور الإقليمية والدولية، كما أمّنت الوزيرة على أن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب سيكون أولى مهام وزارتها، معتبرة أن هذا الأمر إن تم فإنه سيفتح الباب أمام نهضة اقتصادية ومشاريع جديدة في السودان.
إجابات الوزيرة أسماء عبدالله كانت حذرة جدًا عندما سألها المذيع عن عدد من القضايا الشائكة مثل سحب القوات السودانية من اليمن وسد النهضة، وفيما يتعلق بالعلاقات مع الكيان الإسرائيلي، قالت، إن الوقت الراهن لا يسمح بإقامة تلك العلاقات، لأن السودان ليس بحاجة إلى مشاكل جديدة، بحسب تعبيرها.
على الأرجح سيركز رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك ووزيرة خارجيته على العلاقات مع صناديق التمويل الدولية ودول الغرب أوروبا وأميركا إلى جانب دول الجوار الإفريقي
يتضح من إجابات وزيرة الخارجية السودانية أن هناك توافقًا تامًا بينها وبين رئيس الوزراء حمدوك وهو الذي أصرّ على اختيارها إذ لم تكن في قائمة الترشيحات التي قدمتها له قووى الحرية والتغيير، ويبدو بالفعل أنها دبلوماسية قديرة تمتلك رؤية ثاقبة. غير أن عامل السن لم يعجب عدد من المراقبين والنشطاء الذين يرون أن المنصب كان أجدر أن يسند إلى أحد الكفاءات الشبابية، ولكن يمكن لحمدوك أن يلجأ إلى حلٍّ وسط وهو أن يُدعّم السيدة أسماء بوزير دولة من جيل الشباب يساعدها في أداء مهامها، إلى جانب تعيين متحدث رسمي باسم الوزارة ويا حبذا لو يقوم هذا المتحدث بانتهاج سياسة الإيجاز الصحفي الأسبوعي مثلما يحدث في دول العالم الكبرى فالخارجية الأميركية ــ على سبيل المثال ــ تقوم بعقد لقاءٍ أسبوعي لتنوير وسائل الإعلام بمستجدات الساحة هناك، وعلى الصعيد الإقليمي كانت وزارة الخارجية الإثيوبية في عهد وزير الخارجية السابق ورقينيه قبيهو والمتحدث السابق مليس ألم تنظم مؤتمرًا صحفيًا لوسائل الإعلام نهاية كل أسبوع.
كيف سيتعامل حمدوك مع القضايا الإقليمية الملحة؟
على الأرجح سيركز رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك ووزيرة خارجيته على العلاقات مع صناديق التمويل الدولية ودول الغرب أوروبا وأميركا إلى جانب دول الجوار الإفريقي، كما ذكرت الوزيرة في مقابلتها مع قناة الجزيرة، فهناك توجّه شعبي سوداني عام نحو الاهتمام بالعلاقات مع القارة السمراء بعد الوساطة التي قادها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بدعمٍ من الاتحاد الإفريقي وأثمرت عن اتفاق نقل السلطة الذي بموجبه تشكّلت الحكومة الانتقالية.
هذا بالطبع لا يعني أن يتجاهل حمدوك وحكومته العلاقات مع محيطه العربي، ولكن من المرجح ألا يكون التواصل معها بنفس الكيفية والهرولة التي كان يتعامل بها نظام البشير مع دول الخليج بالذات، فالرئيس المخلوع زار السعودية على سبيل المثال أكثر من 15 زيارة خلال الثلاث سنوات الأخيرة، بينما كان الملك خالد بن عبدالعزيز
آخر زعيم سعودي يزور السودان منذ العام 1976 أي قبل 37 عامًا!
غالبًا ستظل اتفاقية سواكن ساريةً مع تركيا، وكذلك اتفاقية تشييد ميناء سواكن نفسها مع قطر لأن إلغائهما في الوقت الحاليّ يرسل رسالةً سالبة توثر على العلاقات مع أنقرة والدوحة
فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية الملحة.. لا يُتوقع أن يطرأ جديد على ملف القوات السودانية في اليمن وإلا كانت وزيرة الخارجية قد صرحت بإمكانية سحبها في حوارها مع قناة الجزيرة، فنسبةً لأن الموضوع شائك ومعقد يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالعلاقات مع السعودية والإمارات، في ظل حاجة السودان في الوقت الراهن إلى حزمة إنقاذٍ ماليّ قدرها 8 مليارات دولار بحسب رئيس الوزراء حمدوك. ربما يتطلع إلى مساعدة من العاصمتين في توفير جزء من هذا المبلغ مقابل بقاء القوات في اليمن.
وغالبًا ستظل اتفاقية سواكن ساريةً مع تركيا، وكذلك اتفاقية تشييد ميناء سواكن نفسها مع قطر لأن إلغائهما في الوقت الحاليّ يرسل رسالةً سالبة توثر على العلاقات مع أنقرة والدوحة، في وقتٍ السودان بحاجة فيه إلى الدعم والمساندة المالية والسياسية، لكن ربما يتم إجراء معالجات فنية أو ملاحظات محددة لا تمس جوهر الاتفاقيتين. أما ملف منح الأراضي الزراعية فنتوقع أن تطاله يد المراجعة لأن الحديث كثُر فيه عن تجاوزات كبيرة ومظالم شابت توقيع الاتفاقيات الزراعية مع دول الخليج.
سد النهضة أيضًا يعدّ أحد القضايا العاجلة، وربما يكون هو السبب الرئيس لوصول وزير خارجية مصر سامح شكري إلى السودان الاثنين 9 من سبتمبر/ أيلول، نسبة لاقتراب جولة التفاوض الجديدة بين الدول الثلاث إثيوبيا والسودان ومصر التي يفترض أن تعقد خلال الأيام القليلة القادمة. فمصر تسعى إلى كسب وُد السودان لصالحها في معركة السد، لكنّ الأمر يبدو في غاية الصعوبة نظرًا للمصالح السودانية في اكتمال المشروع الإثيوبي، ولأن إثيوبيا تمكنت من انتزاع نقاطٍ إضافية في السودان بعد نجاح الوساطة التي قادتها إثيوبيا بين الفرقاء السودانيين والشعبية الكبيرة التي يحظى بها آبي احمد في الخرطوم، هذا بخلاف الارتباط التاريخي والعلاقات الوثيقة بين رئيس الوزراء السوداني حمدوك والقادة الإثيوبيين منذ عهد رئيس الوزراء الأسبق مليس زيناوي.
تحديات داخلية تعترض السياسة الخارجية
هناك صعوبات أخرى داخلية قد تعترض مسار العلاقات الخارجية وسياسة حمدوك تجاه الخارج أولها: كثرة التصريحات الإعلامية للوزراء والمسؤولين، فهناك ثقافة عامة انتشرت لدى المسؤولين السودانيين هي حب الظهور الإعلامي والإدلاء بتصريحات صحفية قد لا يكون متفق عليها بشكل جماعي، أو قد تكون مصادمة لتوجهات الحكومة أو للرأي العام الجمعي مثل التصريح الجدلي لوزير الأوقاف نصر الدين مفرح الذي دعا اليهود ذوي الأصول السودانية للعودة إلى البلاد في حين أن هذه المسألة يفترض أن تكون من مهام وزارة الخارجية بالدرجة الأولى، والحل الأمثل هنا هو إلزام الوزراء والسؤولين بعدم التصريح لوسائل الإعلام إلا في حدود دائرة اختصاصاتهم وبعد التشاور مع وزير الإعلام المتحدث الرسمي للحكومة.
يشعر السودانيون بالطمأنينة على صعيد العلاقات الخارجية حتى وإن حصل صِدام ــ لا سمح الله ــ بين حمدوك والمكون العسكري فالأول يتمتع بثقلٍ شعبيٍّ هائل وإجماعٍ كبيرٍ وسط السودانيين
أما الخطر الأكبر على السياسة الخارجية للسودان الجديد فيتمثل في المكون العسكري داخل المجلس السيادي ابتداء من رئيسه عبدالفتاح البرهان وعضو المجلس محمد حمدان دقلو “حميدتي”، إذ إن الرجلين أبديا تبرمًا مكتومًا خلال اليومين الماضيين من التهميش الذي يشعران به، فالأول أخذ يحذر مما سماه “عدم احترام الجيش” رغم تعهده بالابتعاد عن السياسة تمامًا. والثاني حشر نفسه في السياسة الخارجية بالحديث عن أهمية العلاقات مع الولايات المتحدة في الفترة المقبلة!
ورغم ذلك كله يشعر السودانيون بالطمأنينة على صعيد العلاقات الخارجية حتى وإن حصل صِدام -لا سمح الله- بين حمدوك والمكون العسكري فالأول يتمتع بثقلٍ شعبيٍّ هائل وإجماعٍ كبيرٍ وسط السودانيين، على النقيض من العسكريين الذين توجّه إليهم الاتهامات بالتورط في مذبحة القيادة العامة بكل ما فيها من فظاعات.