لم يكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعلم أن الاتفاق المبدئي الذي أجهد حكومته كثيرًا للتوافق مع حركة طالبان، والذي عقد عليه الآمال، لإنهاء الورطة الأمريكية الممتدة منذ عقدين من الزمان، سيتم تدميره على نحو عبثي في وقت إعلانه، بسبب إقرار الحركة بمسؤوليتها عن هجوم في العاصمة الأفغانية كابول، الإثنين الماضي، وأسفر عن قتلى بينهم أمريكي، تراجع ترامب عن قراره، وألغى المباحثات، ولكن هناك حقائق ميدانية مرة، ستجبره على إعادة التفاوض من جديد، مهما كان الدواء علقمًا، لكن دونه لاشي لأمريكا.
تغريدات ترامب
لا يدور حاليًا في عمق الأزمة، إلا سلسلة التغريدات، التي أطلقها دونالد ترامب، في محاولة لكشف تداعيات ما حدث؛ فإبرام اتفاق مع طالبان، كان حدثًا سياسيًا ضخمًا سيمكن الاستفادة منه، في تعزيز ملفه الانتخابي، خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية المزمع إقامتها في 2020، إذ يقدم الرئيس نفسه، على أنه حامي أموال الشعب، والحارس على رفاهيته وإبعاده عن الانخراط في المستنقعات التي لا أمل فيها عسكريًا، في الوقت الذي يستطيع استخدام قدراته بلاده الاقتصادية، في خنق كل من يناصبه العداء، أو يرفض الانصياع لتوجهاته وأفكاره، وهي حرب جديدة من نوع آخر، لم تدخلها الولايات المتحدة بهذا الشكل من قبل.
في تغريداته، اتهم ترامب الحركة بالسعي لاستخدام العنف لضمان مزيد من النفوذ، واعتبرها تسعى للحصول على مجد زائف، فطالبان انخرطت في حوار مباشر مع الإدارة الأمريكية، بوساطة قطرية، وكانت إفادة للرأي العالمي أنه سعي جاد للتفاهم، ولكنها في الوقت نفسه، كانت تخطط لشن هجوم شرس بالعاصمة الأفعانية كابول، وقتلت فيه أحد الجنود الأمريكيين، رغبة منها في فرض مزيد من الأوراق على طاولة المفاوضات.
يمكن القول أن الوضع معقد على الأرض، بدرجة أكبر بالنسبة للولايات المتحدة، فرغم الانتكاسة الكبرى لكل الجهود التي بذلت في إبرام اتفاق تاريخي، إلا أنه كان يمثل عنق النجاة للجنود الأمريكين
رد فعل الرأي العام الأمريكي، وانتفاضة وسائل الإعلام، لم تترك للرئيس سرعة إنقاذ الاتفاق، وإيجاد صيغة سياسية للتفاهم، تم إلغاء الاجتماع ووقف مفاوضات سلام، وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة، لدرجة جعلت المبعوث الخاص لترامب، زلماي خليل زاده، يعلن بمنتهى الثقة الاثنين الماضي، عن الوصول إلى صيغة اتفاق سلام من حيث المبدأ مع طالبان، بعد 9 جولات محادثات بين الولايات المتحدة وممثلي الحركة.
يمكن القول إن الوضع معقد على الأرض، بدرجة أكبر بالنسبة للولايات المتحدة، فرغم الانتكاسة الكبرى لكل الجهود التي بذلت في إبرام اتفاق تاريخي، إلا أنه كان يمثل عنق النجاة للجنود الأمريكين، للخروج من بيئة تعيش على الحروب الوجودية، وتستمد منها قوتها واستمراريتها، فلا مجال دائمًا لتقوية التنظيمات العقائدية، إلا الصراعات الصفرية، حتى لو أفنت أتباعها عن آخرهم، في النهاية لاتعايش ولاسلام إلا مع منطق واحد فقط للحياة، وهو المنهج الطالباني، الذي نجح حتى الآن في فرض أساساته على الأرض.
على الجانب الآخر، حتى وإن اتخذت الولايات المتحدة قرارًا يحفظ كرامتها الوطنية، بعد الضربة الأفغانية للجهود الماضية بين البلدين، إلا أن استمرار الحرب، لايعني إلا المزيد من التكلفة المالية المرهقة للخزينة الأمريكية، التي جعلتها تصرف من أكتوبر 2001 إلى مارس 2019 نحو 760 مليار دولار، وفقًا للأرقام الرسمية المعلنة، غير أن هناك مؤسسات خاصة أكدت أن الأرقام الرسمية التي نشرتها الحكومة الأمريكية لا تعكس الواقع إلى حد كبير، ورفعت التكلفة إلى أعلى من الرقم المعلن، بعد إضافة تكاليف العناية بالجرحى من العسكريين الأمريكيين، والأموال التي أنفقتها وزارات الدولة الأخرى، بجانب الفوائد التي تكبدتها الحكومة بسبب القروض التي أخذتها لسد نفقات الحرب، والتي تزيد الأرقام المعلنة إلى تريليون دولار «ألف مليار دولار»، بجانب التكلفة البشرية الضخمة من العسكريين والمدنيين.
الاستراتيجية الأمريكية التي ظهرت ملامحها عام 2012، كانت تعتقد أن تكوين ذراع عسكري قوي للحكومة، بجانب منحها شرعية سياسة، وتدريب كوادرها على الإدارة، سيصعب المهمة على طالبان
هذه المعطيات السابقة، تؤكدها فشل الإستراتيجيات الأمريكية، التي هدفت لتقوية الحكومة الأفغانية بصورة تدريجية، لتمكينها من إدارة شؤونها بنفسها، ولكن واجهتها أزمة افتقار البلاد لمقومات تنفيذ تلك الإستراتيجية، وإنشاء جيش وطني وشرطة مدنية، يتم تدريبهم على يد قوات العمليات الخاصة الأمريكية، ويكون هدفها الأول محاربة طالبان.
الإستراتيجية الأمريكية التي ظهرت ملامحها عام 2012، كانت تعتقد أن تكوين ذراع عسكري قوي للحكومة، بجانب منحها شرعية سياسة، وتدريب كوادرها على الإدارة، سيصعب المهمة على طالبان، خاصة أن الخطة المدنية التي أعدتها أمريكا لإدارة البلاد، استندت على اللامركزية، وإقامة علاقة متوازنة بين الحكومة والسكان في الأقاليم، تضعهم في قلب المسؤولية، ليشاركوا في الدفاع عن أنفسهم، وإذا ما نجحت الخطة، تسحب قواتها بحلول عام 2014، بعد تحصين البلاد من الوقوع مرة آخرى في يد طالبان.
كانت الإدارة الأمريكية أنذاك، برئاسة الرئيس السابق باراك أوباما، وقعت على اتفاق مدة عشر سنوات مع حكومة أفغانستان، يقضي بإمدادها بدعم مالي ثابت، وأشكال آخرى من المساعدة بعد انسحاب القوات الأمريكية، ولكن بمرور الوقت، ظهر تفوق طالبان على قوات الأمن الأفغانية، التي افتقدت إلى الدعم القتالي واللوجستي والرعاية الطبية والاستخبارات، والتدريب المكثف والتواجد والانتشار في أرياف أفغانستان، الذي تحتله الحركة وتسيطر عليه تمامًا منذ عام 1992، بالتعاون مع تنظيم القاعدة، وهي تعقيدات كانت تعلمها بالطبع الإدارة الأمريكية، لذا حاولت توفير الأمن في الريف الأفغاني بصورة مستدامة.
كانت أمريكا تعلم جيدا، ولازلت، أن تواجد الإسلاميين، وخاصة الفكر الجهادي، نشط للغاية ومتجذر في التربة الأفغانية، مما يعني أن الاستمرار في استهداف الحركة، يعني محاربة جميع أبناء الحركة الإسلامية
دشنت أمريكا قوات جديدة، لمساعدة القوات النظامية، أسمتها الشرطة المحلية الأفغانية، وكانت من بنات أفكار الجنرال ديفيد باتريوس، أحد كبار قادة الجيش الأمريكي في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وقائد القوات الأمريكية لاحقًا، وهي قوات ذات طابع دفاعي، يتم تجنيدها محليًا، وتولى تدريبها العمليات الخاصة الأمريكية، وتم تزويدها بأسلحة أساسية وغيرها من الدعم بالإضافة إلى رواتب شهرية منتظمة، ولكنها لم تفلح في استهداف كبار قادة حركة طالبان في المناطق المناط بها العمل فيها، بل على العكس نجحت الحركة في التعامل معها بعنف، وفرضت أسلوبها عليها، ومن هنا لم يعد هناك بديل عن التوصل إلى تسوية عبر التفاوض مع كبار قادة طالبان، واعتباره ذلك ركيزة أساسية في إستراتيجية الإدارة الأمريكية للخروج من مستنقع أفغانستان.
كانت أمريكا تعلم جيدًا، ولازلت، أن تواجد الإسلاميين، وخاصة الفكر الجهادي، نشط للغاية ومتجذر في التربة الأفغانية، مما يعني أن الاستمرار في استهداف الحركة، يعني محاربة جميع أبناء الحركة الإسلامية، بمختلف توجهاتهم، لذا بعكس ما يشاع، كانت هناك تنسيقات واضحة مع حركة طالبان، في الوقت الذي كانت لا تتدخر جهدًا في محاولة كسر الصف الطالباني وشن عمليات استخباراتية نوعية، لاستقطاب بعض أفراده، سواء لضرب التنظيم من الداخل، أو لحثهم على تغيير مواقفهم والانضمام إلى الحكومة الأفغانية.
ترامب كان معترضا على البقاء في أطول حروب خاضتها الولايات المتحدة منذ العام 2001، لكن مستشاريه أقنعوه بإعطاء ذلك الأمر مزيدا من الوقت
في المقال، لم يتحلّ النظام الجديد في أفغانستان بالسيادة الكاملة، التي تمكنه من خلق ظهير جماهيري قوي، يضاهي جماهيرية حركة طالبان في البلاد، وجاءت انتخابات الرئاسية الأفغانية عام 2009 لتؤكد هذا المعنى، وطالت العملية والنظام بأكمله اتهامات بالفساد، حتى من المؤسسات الدولية المعنية بالحالة الأفغانية، وهي تحديات حاولت أمريكا تجاوزها في انتخابات عام 2014، ولكن لم تنجح في خلق صورة عامة، عن نزاهة الانتخابات، واستقلالية الشرعية الجديدة، ما ألقى بالكرة في ملعب طالبان من جديد.
ما الذي حصلت عليه أمريكا في المقابل ؟
السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه الآن في الأزمة الأمريكية الأفغانية، ما الذي ستحصل عليه أمريكا مقابل إغلاق ملف التسوية مع الأفغان؟ الإجابة لاشيء، سيعود الأمر إلى ما كان عليه، الذي سبق للرئيس ترامب نفسه، التعبير عن خيبة أمله إزاءه، لعدم تحقيق أي تقدم على الأرض، وكان هو من طرح السؤال: ما الذي حصلنا عليه مقابل كل تلك الأموال التي تكبدتها أمريكا في أفغانستان؟
قد يعود ترامب إلى طريقة آخرى جربها من قبل، وهي اللجوء إلى حلف شمال الأطلسي، لطلب المساعدة، وتحمل نصيب اكبر من التكلفة في أفغانستان
ترامب كان معترضًا على البقاء في أطول حروب خاضتها الولايات المتحدة منذ العام 2001، لكن مستشاريه أقنعوه بإعطاء ذلك الأمر مزيدًا من الوقت، ورغم أن ترامب نفسه، وقع في 2017 على قرار إرسال 3000 جندي إضافيين ليصل إجمالي عدد القوات الأمريكية هناك إلى حوالي 15 ألف جندي، لكن بعد مرور عام زاد الموقف تأزمًا، وأصبحت الحقائق على الأرض تؤكد أن حركة طالبان ليست الخاسرة في المعركة، بعدما عززت وجودها في المناطق الريفية، وبعض المناطق الحضرية، ومنحها ذلك السيطرة على 56 % من مساحة البلاد، وفقًا لأحد التقارير الرقابية للحكومة الأمريكية، والتي دعت مجلس الأمن القومي للرد عليها، مؤكدًا أنه هناك مراجعات تجرى بانتظام، وإدخال التعديلات اللازمة لضمان استخدام الموارد الأمريكية بأكثر الطرق الممكنة فاعلية.
قد يعود ترامب إلى طريقة أخرى جربها من قبل، وهي اللجوء إلى حلف شمال الأطلسي، لطلب المساعدة، وتحمل نصيب أكبر من التكلفة في أفغانستان، سواء في زيادة القوات أو المساهمات المالية، وإن كان اختلاف السياسات بين ترامب وقادة أوروبا، لن يؤدي إلى اتفاق ينقذ أمريكا من المطب الأفغاني، مما يعني أن التراجع الأمريكي عن المحادثات المباشرة، ليس أكثر من مسألة وقت، ولن يكون هناك خيار أفض من العودة مجددًا لطاولة المفاوضات، بدلًا من الانسحاب دون مكسب يذكر، وهي بالطبع خسارة من العيار الثقيل، على جميع المستويات العسكرية والسياسية!