بعد سقوط النظام السوري البائد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، شهدت سورية موجةً زياراتٍ من الوفود الإعلامية والشخصيات السياسية بالإضافة إلى تدفّق أعداد كبيرة من المغتربين العائدين لرؤية مدنهم وأقاربهم، لم يقتصر أثر موجة الزيارات على تعزيز الانفتاح الإعلامي والتواصل الاجتماعي بين السوريين بعد سنوات الحرب الطويلة فقط، بل أصبحت أيضًا وسيلة لدعم الاقتصاد المحلي.
في العاصمة دمشق، بدأت بوادر الانتعاش الاقتصادي بالظهور في بعض القطاعات؛ حيث استعادت الأسواق القديمة بعضًا من زخمها المعهود قبل الحرب، وعادت المطاعم والفنادق لاستقبال أعداد أكبر من الزوار، مما ساعد في تحريك نسبي لعجلة القطاعين الخدمي والتجاري.
عودة المغتربين بين دعم الاقتصاد والمساهمة في إعادة الإعمار
لم يكن الاهتمام المتزايد بزيارة سورية من قبل السوريين المغتربين مقتصراً على الأبعاد الاجتماعية فقط، بل امتد ليشمل البعد الاقتصادي والسياسي أيضًا، حيث عاد الكثير من المغتربين ليس فقط للاطمئنان على مدنهم وأهلهم، بل أيضًا للمشاركة أيضا في إعادة بناء ما دمرته الحرب، سواء من خلال تقديم الدعم المالي للأقارب أو حتى للحكومة أو مشاركة خبراتهم في مختلف المجالات، أو حتى للمشاركة في استكمال ما وصفه بعض أبناء المحافظات الشرقية (الرقة، دير الزور، الحسكة) باستكمال عملية تحرير وتوحيد سوريا.
إسماعيل الحاج وهو طبيب مقيم في بريطانيا، وصل إلى دمشق منذ الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد، وبدأ اتصالاته مع أطراف مدنية وحكومية من أجل تشكيل كتلة سياسية واجتماعية تركز اهتمامها على تحرير مدينة الرقة مما وصفه باحتلال قوات “قسد”، مؤكّدًا أنه سيبقى في سوريا رغم التكاليف المادية الكبيرة التي تهون _ بحسب وصفه_ في سبيل عودة الرقة إلى أهلها.
أما أحمد شاكر وهو مغترب سوري مقيم في كندا، فلم يخفِ حماسه لدعم سوريا الجديدة والمساهمة في إعادة إعمارها معبرًا عن استعداداه لتقديم خبراته للمساهمة في نهضة البلاد، مضيفًا أنّ كل ما يدفعه هو وباقي المغتربين من مصاريف هي بذاتها مساهمة في دعم سوريا الجديدة واقتصادها.
أمّا وائل العجي، وهو طبيب سوري مغترب في فرنسا فإنه يرى في زيارته لسوريا فرصة للتضامن مع شعبه في هذه المرحلة الصعبة، قائلاً إنّ زيارته ليست لمجرد اللقاء مع العائلة أو استكشاف لما تبقى من وطنه المدمر، هي أيضًا رسالة دعم معنوي ومادي.
وأدت زيارات المغتربين إلى تحسنٍ واضح في عدة قطاعات اقتصادية، أبرزها القطاع الفندقي، وفي هذا السياق قال جورج شامية، الذي يشغل منصب مدير العلاقات العامة في فندق الشيراتون، أن نسبة الاشغال تجاوزت 95%، مشيراً إلى أن العثور على غرفة شاغرة أصبح تحديًا حقيقيًا في ظل هذا الإقبال المتزايد.
دعم للاقتصاد اليومي للسوريين
لم يقتصر أثر الحركة السياحية على الفنادق وحدها، بل امتد ليشمل قطاعات حيوية أخرى مثل النقل والمطاعم والأسواق الشعبية التي شهدت تحسنًا ملحوظًا مع تزايد أعداد الزوار والمغتربين العائدين إلى البلاد.
تيسير نزهت وهو سائق سيارة أجرة في دمشق، لاحظ ارتفاعًا في معدّل الركاب اليومي، خاصة في المناطق القريبة من الفنادق والأسواق الشعبية، مشيرًا إلى أن الطلب على خدمات النقل تضاعف بعد سقوط النظام السابق.
ويرى أن الحركة السياحية لم تنعكس فقط على المطاعم والفنادق، بل ساهمت أيضا في زيادة دخل سائقي الأجرة ومختلف وسائل النقل العام، التي باتت أكثر نشاطاً من أي وقت مضى.
أمّا محمد الخطيب، صاحب مطعم في حي الميدان، فقد تحدث عن التغييرات التي طرأت على نشاط مطعمه، مشيرًا إلى أنّ الطلب على اللحوم في مطعمه ارتفع من خمسة إلى تسعة خراف يوميًا، وهذا ما يعكس زيادة واضحة في الإقبال على المطاعم، مشيرًا إلى أنّ زيادة الإقبال تعتمد على المغتربين أو على السوريين القادمين من الشمال السوري.
دورها في نهوض قطاع السياحة
رغم التحديات الكبيرة التي واجهها القطاع السياحي خلال السنوات الماضية، لا تزال سوريا تمتلك مقوّماتٍ سياحية فريدة تجعلها قادرة على استعادة مكانتها كوجهة جاذبة للسائحين إذا تم استثمار هذه المقومات بالشكل الصحيح؛ فالتنوع الجغرافي الذي يجمع بين المناخ المتوسطي المعتدل والسواحل الجبال والبوادي الواسعة، يجعل من سوريا واحدة من أغنى الدول بالمواقع السياحية الطبيعية التي تلبي مختلف الأذواق.
إلى جانب التنوع الطبيعي، تمتلك سوريا إرثًا حضاريًا استثنائيًا، حيث تحتضن بعضًا من أقدم المدن المأهولة في العالم، مثل دمشق وحلب وحماة، إلى جانب مواقع أثرية عالمية مثل تدمر وقلعة الحصن وأفاميا والجامع الأموي والنواعير وغيرها.
هذه المعالم التاريخية الهامة كانت قد جعلت من سوريا قبل الحرب وجهة للسياح المهتمين بتاريخ الحضارات القديمة، ورغم الدمار الذي طال العديد من هذه المواقع خلال الحرب، لا يزال هناك أمل في إعادة ترميمها واستقطاب السياح مجددًا، خاصة مع تزايد الاهتمام العالمي بالحفاظ على الإرث الثقافي.
إلى جانب المقومات الطبيعية والتاريخية، لعب السوريون المنتشرون في أنحاء العالم دورًا مهمًا في تقديم صورة إيجابية عن بلادهم، ما ساهم في زيادة فضول الكثيرين لمعرفة سوريا الحقيقية التي شوهتها سياسات النظام السوري الحرب والدعاية السياسية لما يقارب خمسة عقود، فمع انفتاح وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ المزيد من الناس حول العالم يدركون أن سوريا ليست بلد الاستبداد والحرب، بل هي موطن لشعب يمتلك ثقافة عريقة، وموطن لحضارة غنية ضاربة في عمق التاريخ.
في حال الاستثمار الصحيح لجميع المقومات التي سبق ذكرها فيمكن لسوريا أن تستعيد جزءًا من دورها كوجهة سياحية متميزة في المنطقة خلال فترةٍ قياسية، وتفتح آفاقًا جديدة لإنعاش اقتصادها المتعثر، ولكنّ هذا كله مرتبط أولاً بتهيئة الأرضية الأمنية المناسبة التي تجعل السائحين يشعرون بالأمان عند تفكيرهم بزيارة سوريا.
وهنا يمكن للسوريين العائدين من زيارتهم إلى بلاد المهجر أن يلعبوا دورًا هامًا في تحسين صورة سورية أمنيًا في الخارج، لا سيما إذا قامت الإدارة الجديدة باتخاذ المزيد من الإجراءات على صعيدي الأمن وتطوير البنية التحتية والخدمات الأساسية ليضمن السائح أمنه الشخصي، ويضمن كذلك الحد الأدنى مبدئيا من توفر الخدمات والبنى التحتية.
ختاماً، عادةً ما تكون السياحة آخر القطاعات التي تتعافى في الدول التي شهدت أزمات وحروبًا، إلا أن المشهد في سوريا _ على ما يبدو_ يحمل ملامح مختلفة؛ فمع تزايد أعداد المغتربين العائدين، وارتفاع نسب الاشغال في الفنادق والمطاعم، بدأت بوادر انتعاش سياحي مبكر تلوح في الأفق، ما يجعل هذا القطاع مرشحًا ليكون ركيزة هامة في التعافي الاقتصادي.
ومع ذلك، فإنّ نجاح هذا المسار لا يعتمد فقط على المقومات الطبيعية والتاريخية وجهود المغتربين فقط، بل يرتبط أيضًا بقدرة الحكومة الجديدة على تحقيق الاستقرار الأمني، ودعم الاستثمارات في البنية التحتية والخدمات السياحية، مما سيعزز ثقة المستثمرين والسياح على حد سواء، مما يفتح الباب لاستعادة سورية لمكانتها كوجهة سياحية إقليمية وعالمية، ليس فقط كبلد غني بالتاريخ والطبيعة، بل كبلد له رمزية على إرادة الشعوب في الحرية وإعادة البناء والانطلاق نحو مستقبل أكثر حرية واستقراراً وازدهاراً.