“أي حكاية في الدنيا ترتجي الوصول فهي ترتجي الموت، والحكايات لا تحب أن تموت، تحب فقط أن تروى”.
“بياصة الشوام”، رواية صدرت مؤخرًا عن دار العين بالقاهرة، للكاتب المصري أحمد الفخراني، وهي الرابعة له، مقسمًا إياها لخمسة فصول، تدور أحداثها في مدينة الإسكندرية، مدينته.
بيت اللذة
سعيد بطل الرواية، هو صبي في ورشة معلمه إدريس، نحاتٌ كبير، تخرج من تحت يده تماثيل لها العجب، طالما منى سعيد نفسه أن يبدع مثلها يومًا، لكن كل ما كان يفعله في ورشة إدريس هو عجن الطين، حتى ظن أن الأصابع التي في يده جاءته عن طريق الخطأ.
البياصة التي اتخذها الفخراني كمسرح لأحداث روايته، تعني الميدان، وهي مكان مشهور في وسط الإسكندرية وحي العطارين، في النهار يكون هذا المكان منذ طلوع الفجر وحتى أذان المغرب، عبارة عن مكان كبير ممتلئًا بأكشاك الملابس المستعملة وطاولات إصلاح الساعات والكثير من المقاهي، أما في الليل تحديدًا من بعد أذان المغرب، وقت أن يكنس المكان جيدًا ويرش بالمياه والعطر، يصبح مكانًا آخر ملكٌ فقط للأغنياء، أصحاب الثروات الكبيرة.
سعيد يرى نفسه ملعونًا، فأمه مصابة بالجنون، تتلقف من الهواء أشياء مجهولة، لا أحد يراها إلا هي، ووالده تركه ورحل مع امرأة أخرى، يرى شكله قبيحًا، ولم يؤت ببنيان قوي، ودائمًا ما ينعت نفسه بالعبد التافه ضئيل الهمة والإرادة.
مملكة الليل
“الفن إذن هو تثبيت للزمن، التحدي الحقيقي للثقب الأسود الذي يبتلع كل شيء”.
سعيد شخصٌ غارق في شهواته، ما إن يطلب التوبة ويندم على ما فعل، يجد نفسه راجعًا مرة أخرى لسابق عهده، ووجوده بالنسبة إليه هو المعضلة.
ما فعله الفخراني هنا، هو استدعاء لذلك المخزون القوي من حكايات “ألف ليلة وليلة” ومزج الخيال بالأسطورة، فخرجت لنا “بياصة الشوام”
الفخراني أراد في هذه الرواية أن يخلق بجانب الجمال، أسطورته الروائية، فكان سعيد الأسطورة بحد ذاتها، الحكاية الخرافية التي تدور في مكانٍ ما اسمه البياصة، وجوده حقيقي ومعلوم، لكن ما يحدث داخله واقع ممزوج بخيالٍ قوي، لا يخرج إلا من كاتب محترف، يمكن أن نستخدم تعبيرًا آخر وهو “الحريف”.
بالتأكيد قرأ البعض منا “ألف ليلة وليلة” أو مر من أمامها، ما كان يحدث فيها أنك تقرأ وترى وتسمع كل تلك الأعاجيب وتستمتع بها، وما فعله الفخراني هنا، هو استدعاء لذلك المخزون القوي من حكايات “ألف ليلة وليلة” ومزج الخيال بالأسطورة، فخرجت لنا “بياصة الشوام”.
“كانت ملامحه تشبه السورة التي تذهب الحزن، تطل من عينيه خفة وطمأنينة وخرافة، بين تجاعيد وجهه تنمو طحالب من عطن”
النملة والملك
“في انحناء الجبهة، الظهر، في الفقد، في العجز والمذلة، شعرت بالقرب من الله”.
ما الرواية التي تستحق أن توصف بالرائعة أو شديدة الجمال؟
رحلة سعيد التي خاضها، كانت بين اثنين: الشهوة واللذة المتمثلة في “ثريا”، والمعرفة التي أراد الحصول عليها
بالتأكيد، هي الرواية التي تقترب أو تثقب ما بداخل الإنسان من أسئلة وإشكالات واقع فيها، أحيانًا يجد لها إجابة، وأحيان يظل فقط يبحث ولا يجد أي إجابة.
“بياصة الشوام” واحدة من هذه الروايات التي تطرح الكثير والكثير من الأسئلة والإشكالات الإنسانية، دون ملل أو تكرار، رواية ليست تقليدية بالمرة، مختلفة جدًا ولا تشبه غيرها، يهتم فيها الفخراني بالجمال وقيمته، بالخلق، حتى إنه لم يكتف فقط برصد واقعه، بل بإعادة تشكيله وإضفاء المتعة عليه.
يمكن القول إن سعيد هو نفسه مجرد سؤال! حكاية قد تبدو خرافية، لكن في نفس الوقت شديدة الصدق والجمال.
“ما أجمل حكاية سمعتها في حياتك؟ “النملة التي خاطبت الملك” “لم؟” “لأنها لحدث لم يحدث، هذا ما يجعل الحكايات جميلة”
رحلة سعيد التي خاضها، كانت بين اثنين: الشهوة واللذة المتمثلة في “ثريا”، والمعرفة التي أراد الحصول عليها. من يعرف يتحرر، والبحث عن الحقيقة لا يحدث في مجرد ليلة، بل من الممكن أن تأخذ ألف نهار وألف ليل.
على الإنسان أن يخوض حكايته، وسعيد خوفه ومناجاته الدائمة أن ينجى من متاهة الحكايات المبتورة. قصة الخلق، قد يجدها البعض مقلقة، وتحتاج لفهم كبير، في الرواية قصة الخلق هي لاعب أساسي في البياصة
طوال الرواية سوف تجد خطًا صوفيًا يمشي عليه الكاتب، بجانب التأثر بلغة القرآن الكريم، فلغة هذه الرواية ممتعة جدًا، بسيطة، متماهية مع النص وفكرته، وزادته جمالًا على جمال.
ملك السمان والملك الضائع
“كيف يتكرر الشيء إلى ما لا نهاية، ثم يطلب منا أن نراه”.
على الإنسان أن يخوض حكايته، وسعيد خوفه ومناجاته الدائمة أن ينجى من متاهة الحكايات المبتورة. قصة الخلق، قد يجدها البعض مقلقة، وتحتاج لفهم كبير، في الرواية قصة الخلق هي لاعب أساسي في البياصة التي أصبحت مكانًا خارج المألوف، خصوصًا مع هذا السور الذي يلفها والحارس عليها، كأن فيها السر الذي لا ينبغي أن يعلمه إلا الشخص المناسب.
هناك إسقاطات كثيرة في هذه الرواية، وترابط كبير بين الأحداث، ومن الممكن أن تتصور في أجزاء من الرواية أن ليس لها ترابط، أو ما الداعي لوجود هذا هنا، في الحقيقة الفخراني وضع كل شيء في مكانه، كل شخصية رسمها قامت بالمطلوب، تصرفت كما ينبغي، وشاركت في جمع الخيوط ببعضها، لذا لن تجد أي ممل نهائي في أثناء القراءة، سوف تسرقك من أي شيء تقوم به، فهي من الروايات التي تُقرأ في جلسة واحدة، من شدة المتعة الموجودة فيها.
في أثناء قراءة هذه الرواية سوف يجد القارئ نفسه أمام ألف سؤال، كل تلك الأمور التي تشغله من حين إلى حين، ربما يجد منها في هذه الرواية شيئًا
بين الحقيقة والجنون صلة قوية، لا يدركها إلا من يخوض رحلة يبحث فيها عن الحقيقة، واللغة الصوفية التي اختارها الفخراني، مع المعرفة القوية والقراءة الكثيرة للقرآن الكريم والعهد القديم والجديد والميثولوجيا، عملوا على إخراج النص بهذا الجمال.
الجبل وإدراك السر
“لا متاهة إلا نفسك، فكيف فكرت في إنقاذ الآخرين من المتاهة؟”.
في أثناء قراءة هذه الرواية سوف يجد القارئ نفسه أمام ألف سؤال، كل تلك الأمور التي تشغله من حين إلى حين، ربما يجد منها في هذه الرواية شيئًا، ربما يجد إجابة، وربما لا، أو الأفضل أن يبحث عنها كما بحث سعيد.
أسئلة عن الوجود والخير والشر، عن الإيمان والبحث عن الله ومحاولة الوصول إليه والتقرب منه، عن الجنون، جنوننا نحن قبل جنون الغير! وعن الشهوة واللذة، سواء كانت في الطعام أم النساء، وعن الشهوة واللذة الأكبر وهي البحث عن الجمال وتقديره.
“يدرك الواحد منا جنون الآخرين، ولا يدرك جنونه”.