ضمن المرحلة الأولى من عملية تبادل الأسرى عقب وقف إطلاق النار في قطاع غزة، أطلق سراح الصحافية بشرى الطويل (32 عامًا) من سجون الاحتلال في 20 يناير، إلى جانب 90 أسيرة فلسطينية جميعهن من النساء والمراهقات، وذلك بعد يوم واحد من إفراج المقاومة عن ثلاث رهائن إسرائيليين في قطاع غزة.
وفي مارس 2024 اعتقلت الطويل وظلت قيد الأسر 11 شهرًا، تعرضت خلالها للتعذيب والتنكيل والضرب على يد جنود الاحتلال، رغم أنها لم تنشر أي محتوى على منصات التواصل الاجتماعي متعلقا بأحداث بطوفان الأقصى في 7 أكتوبر، رغم نشاطها البارز في قضايا الأسرى.
لم تكن وحدها الطويل في الأسر، فقد سبقها والدها الشيخ القيادي جمال الطويل المعتقل إداريًا قبل السابع من أكتوبر، وكان لاعتقاله أثر كبير على حالتها النفسية خاصة بعد انقطاع أخباره الصحية عنها، إلى جانب المعاملة القاسية داخل المعتقلات الإسرائيلية حيث تعرضت للتهديد والوعيد.
وبعد ساعات قليلة من إجراء الحوار مع الطويل، استدعى الاحتلال والدها الشيخ جمال لساعات وقال له الضابط الإسرائيلي: “اختار أي دولة واطلع من هون، أو شوفلك محافظة تانية إذا ما بدك تشوفني عندك بالبيت كل أسبوع”، ثم أفرج عنه.
في حوار مع “نون بوست” تحدثت الطويل عن تجربتها في الاعتقال خلال الحرب على غزة، وأوضاع الأسيرات الفلسطينيات، ومدى ثقتهن طوال الحرب بالمقاومة الفلسطينية في السعي للإفراج عنهن.
بداية، تعرضت لمرات عدة من الاعتقال داخل سجون الاحتلال، كيف تصفين الاعتقال الأخير خاصة وأنه جاء وقت الحرب على غزة ووالدك الشيخ جمال أيضا كان في سجون الاحتلال؟
تعرضتُ خلال اعتقالي لعدة انتهاكات جسيمة، كان أبرزها الاعتداء العنيف بالضرب المبرح، ما تسبب في نزيف دمي من أعلى حاجبي الأيسر، بالإضافة إلى جرح آخر في منتصف رأسي، أدى أيضًا إلى نزيف حاد.
كما تعرضت للضرب المبرح في مختلف أنحاء جسدي، ما أسفر عن كدمات استمرت لأكثر من شهر ونصف. أما التورم الناتج عن تقييدي بالكلبشات البلاستيكية إلى الخلف، فقد استمر معي لثلاثة أشهر، وكان مصحوبًا بألم شديد وانزعاج متواصل. فقدتُ القدرة على تحريك كتفي لفترة طويلة بسبب بقائي مقيدة لمدة 14 ساعة، الأمر الذي تسبب في آلام حادة في كتفيّ.
إحدى أقسى التجارب التي مررت بها كانت التهديدات المستمرة وسحبي من المنزل دون حجاب، ما اضطرني للبقاء 14 ساعة دون غطاء لرأسي، وهو موقف كان من أصعب ما واجهته.
تم اعتقالي أثناء زيارتي لمنزل صديقتي في حي الطيرة بمدينة رام الله، حيث كنت هناك لمدة ثلاث أو أربع ساعات قبل أن يقتحم الاحتلال المنزل بعنف، فيقوم بتفتيشه وتكسيره قبل أن يتم اعتقالي من هناك. كان ذلك في 7 يناير 2024.
أما فيما يخص والدي، فكانت الأخبار حوله متضاربة. كنت أعتمد على من يراه داخل الأسر للحصول على أي معلومات عنه، لأن الأوضاع كانت صعبة، والتواصل معه كان شبه مستحيل، خاصة مع تقييد زيارات المحامين. حتى المحامي نفسه لم يكن يحظى بالاحترام من إدارة المعتقل، ما جعل المعلومات شحيحة جدًا.
عندما كان أحد الأسرى يلتقي بوالدي، كنت أحصل منه على بعض الأخبار عنه، سواء في سجن عوفر أو نفحة. لكن بعد اعتقالي، انقطعت عني أخباره تمامًا، ولم أعد أسمع عنه شيئًا إلا عبر المحامي الذي كان يتابع قضيته. ومع ذلك، لم يكن بإمكانه سوى أن يخبرني بأن “والدك بخير، والحمد لله، ويسلم عليك”، دون أي تفاصيل أخرى، كنت دائمة القلق عليه، خاصة بعد أن اختبرت بنفسي قسوة الاعتقال وظروفه القاسية.
كيف تعيش الأسيرات الفلسطينيات داخل المعتقلات الإسرائيلية خاصة وقت الحرب؟
كان هذا الاعتقال الأكثر شراسة وهمجية وإجرامًا في التعامل معنا، منذ لحظة الاعتقال وحتى الإفراج. كان واضحًا أن كل ما تعرضنا له كان انتقامًا مباشرًا لما حدث في 7 أكتوبر.
بصفتي أسيرة سابقة قبل 7 أكتوبر، يمكنني القول إن كل الإنجازات التي حققتها الحركة الأسيرة على مدار السنوات تم سحبها بالكامل، حيث قامت إدارة السجون بفرض إجراءات قمعية غير مسبوقة بحق الأسرى والأسيرات.
لم يعد هناك زيارات للأهالي، ولا ملابس جديدة، ولا حتى توفير الطعام. قبل 7 أكتوبر، كنا نعتمد على أنفسنا في تأمين احتياجاتنا، حيث كان الكنتينة (المقصف) متاحة لنا لشراء ما نحتاجه. أما بعد 7 أكتوبر، فقد تم إغلاق الكنتينة، ومنعت الزيارات العائلية بشكل كامل، وحتى زيارات المحامين باتت نادرة ومحدودة، وتتم بعد مماطلة طويلة.
أما المحامون، فلم يعودوا قادرين على إيصال رسائل مكتوبة من الأهل كما كان الحال سابقًا، بل يأتون فقط برسائل شفوية، ما زاد من حالة العزلة والضغط النفسي التي فرضتها إدارة السجون علينا.
لو نتحدث عن أبرز المعيقات التي واجهت الأسيرات الفلسطينيات وقت الحرب على قطاع غزة، وهل مُنعت الزيارة عنهن بشكل تعسفي؟ وماذا عن العزل الانفرادي؟
كان وضع الأسيرات غاية في الصعوبة، خاصة أننا كنا معزولات تمامًا عن العالم الخارجي. لم تكن لدينا أي وسيلة لمعرفة ما حدث في غزة، أو كيف تطورت الأوضاع هناك، وحتى أخبار الضفة الغربية كانت غائبة عنا تمامًا.
هذا الانقطاع التام عن الأخبار جعلنا نعيش في قلق دائم، حيث كنا نشعر بأننا في عالم آخر تمامًا، أشبه ما يكون بـ “مقابر الأحياء” بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وفي ذكرى 7 أكتوبر، قامت إدارة المعتقل بعزلي عن جميع الأسيرات، كنوع من الانتقام والحقد بسبب هذه المناسبة. كانوا يعتبرونني شخصية مؤثرة داخل المعتقل، حيث كان لي دور في توجيه الأسيرات، وكنّ يحترمنني، كما كنت أساهم في حلّ الإشكاليات التي تحدث داخل القسم.
تم عزلي فجر 7 أكتوبر 2024، حيث بقيت في عزل الدامون لمدة ثلاثة أيام. بعدها، عدت إلى القسم، رغم استمرار التهديدات بنقلي إلى عزل “جيشون” في سجن الجلمة، لكن لطف الله حماني من ذلك المصير.
ماذا كان ينقص الأسيرات الفلسطينيات داخل السجون؟من ناحية الغذاء والدواء ومستلزمات النظافة؟
بعد السابع من أكتوبر مُنع كل شيئ، كنا نعاني من نقص حاد في الغذاء والدواء، بالإضافة إلى غياب العلاج الطبي، خاصة للحالات الصحية المستعصية.
كان بيننا أسيرات يعانين من اضطرابات نفسية، وأخريات مصابات بالرصاص، إلى جانب أسيرات كنّ بحاجة إلى فحوصات طبية دورية بسبب أمراض مثل الضغط والسكري. لكن للأسف، لم يكن يتم فحصهن إلا كل بضعة أشهر، أو في حالات الطوارئ، مثل فقدان إحداهن للوعي.
حتى في حالات الاغماء، لم يكن يتم إسعاف الأسيرة على الفور، بل كان علينا الانتظار لساعات، حيث لم تكن تُنقل لتلقي الرعاية الطبية إلا بعد ساعتين على الأقل.
أما فيما يتعلق بالاحتياجات الأساسية، كنا نواجه صعوبة كبيرة في الحصول على مستلزمات النظافة، حيث كنا نضطر للإلحاح والمطالبة المستمرة للحصول عليها. وفي بعض الأحيان، كانت تصلنا مرة أسبوعيًا أو حتى مرة أو مرتين في الشهر، رغم أنه قبل 7 أكتوبر، كنا نحصل عليها يوميًا. حتى الكلور، عندما كانوا يجلبونه لنا، كانوا يخففونه بالماء حتى يصبح تأثيره ضعيفًا.
كيف تواجه الأسيرات هذه الانتهاكات؟ وهل هناك أي شكل من أشكال الاحتجاج داخل السجون؟
فيما يتعلق بأي احتجاج، فكنا بالكاد نجرؤ على التعبير عن رفضنا للأوضاع، مجرد التفكير في الاعتراض كان يقابل بشراسة شديدة من إدارة السجن، التي كانت تهددنا بالحرمان من الخروج إلى الفورة (ساحة التهوية).
رغم ذلك، قمنا بخطوة احتجاجية عندما تم عزل الأسيرة “عبلة” تبلغ من العمر 70 عامًا، وهي زوجة القائد أحمد سعدات، كان هناك موقف موحد من جميع الأسيرات، مما استفز إدارة السجن فقامت على الفور بقمعنا داخل الغرف.
دخلت القوات وصادرت جميع الملابس الإضافية، ولم يُسمح لنا إلا بارتداء طقم واحد فقط، حتى ملابس الصلاة تمت مصادرتها. كان هناك نقص حاد في الملابس، والإدارة لم تكن تتقبل أي محاولات جماعية للدفاع عن أي أسيرة، حيث كانت تسعى إلى إسكات كل من يحاول الحديث باسم الأخريات.
هل التقيت بأسيرات من غزة، وكيف كان التعامل معهن من قبل مصلحة السجون؟ وما هو دوركن في احتوائهن؟
عند وصولي إلى سجن الدامون، التقيت بعدد من أسيرات غزة. كانت هناك أسيرة من غزة تم الإفراج عنها بعد يومين من وصولي، وبعد أسبوعين تقريبًا تم الإفراج عن أسيرة أخرى كانت قد أمضت حوالي 45 يومًا في الاعتقال.
أما خلال فترة عشرة أشهر ونصف إلى 11 شهرًا التي قضيتها هناك، فقد كان هناك ثلاث أسيرات من غزة وهن: أسماء شتات، سوزان أبو سالم (الآغا) ووالدتها سهام أبو سالم، تم اعتقال الأم وابنتها في شهر فبراير، ثم في شهر مارس تم اعتقال أسماء شتات وزوجها.
تركناهن في وضع نفسي صعب، فقد كنّ يتوقعن الإفراج عنهن، لكن الاحتلال واصل مماطلته المعتادة، وهو أمر لم يفاجئنا، لكننا على يقين بأن الفرج قريب بإذن الله.
كان واجبنا الأساسي هو الاحتواء، جئنا نحمل في قلوبنا الرغبة في مواساتهن، والتخفيف عنهن، ومنحهن الصبر، لكن وجدناهن هنّ من يعلمنا الصبر والثبات والرضا رغم كل ما مررن به.
لكن، أن تُنتزع الأم من بين أطفالها، دون أن تعرف عنهم شيئًا، هل هم من الشهداء؟ أم ما زالوا على قيد الحياة؟ كانت هذه التساؤلات أشد ألمًا عليهن، وعلينا أيضًا.
بعد أشهر طويلة من القلق والانتظار، وصلت إليهن أخبار ضئيلة تفيد بأن أطفالهن وعائلاتهن بخير، وهو ما منحهن بعض السكينة وسط العتمة.
كل أسيرة كانت تخرج كانت تحاول بأي طريقة أن توصل رسالة لأهالي الأسيرات من غزة ليطمئنوا عليهن. كنا نبعث بالرسائل عبر المحامين الذين يحاولون زيارتنا، تمكنت بعضهن من الاطمئنان على أوضاع عائلاتهن.
ما طبيعة العلاقة مع مصلحة السجون ما بعد السابع من أكتوبر؟
كانت العلاقة مع إدارة المعتقل سيئة للغاية، لكننا كنا نحاول فرض وجودنا رغم كل الإجراءات القمعية التي اتبعوها لمحاربة الحركة الأسيرة. لم نقبل أبدًا محاولاتهم لإلغاء وجودنا، بل تمسكنا باحترام تضحيات الأسرى الذين قدموا الكثير فداءً للحركة الأسيرة.
عندما كانت هناك هيئة لقيادة الحركة الأسيرة، دفع أعضاؤها أثمانًا باهظة، وصلت إلى استشهاد بعضهم، من أجل إرساء القوانين التي أجبرت إدارة المعتقل على الاعتراف بحقوقنا. ولهذا، كنا نتمسك بهذه المبادئ ونحترمها، حتى لو حاول الاحتلال التهرب منها أو التنصل من التزاماته.
ورغم أن الإدارة كانت تسعى دائمًا إلى تقويض دورنا، فإنها كانت تلجأ إلينا عندما تحتاجنا، سواء لحل الإشكاليات داخل المعتقل أو لتهدئة الأسيرات في حالات التصعيد. وهذا دليل على أن الحركة الأسيرة لا تزال حاضرة وقوية، رغم كل محاولات القمع.
ما شعوركن وقت خبر الإفراج عنكن، وما هي تفاصيل إبلاغكن من قبل مصلحة السجون؟ هل تعرضتن للابتزاز والتهديد أو التخويف؟
ثقتنا بالمقاومة لم تتزعزع لحظة واحدة، كنا نؤمن بأن الجهود ستستمر للإفراج عن باقي الأسرى والأسيرات، وتحقيق مطالب أهلنا في غزة، حتى تصبح أفضل مما كانت.
كنا نتابع الأخبار بقلق، حتى أن إحدى الأسيرات ذهبت إلى المحكمة عبر الفيديو، فطلبت منها أن تسأل المحامي عما إذا كان هناك إعلان عن صفقة تبادل. أخبرها المحامي أنه تم الإعلان يوم الأربعاء، والتنفيذ سيكون صباح الأحد.
لكن مع حلول صباح يوم الإفراج، لم نلاحظ أي إجراءات تشير إلى أننا سنخرج، ما جعل القلق يسيطر علينا. حاولنا تهدئة الأسيرات رغم حالة التوتر النفسي الشديد. أخبرتهن أنه إذا لم يحدث أي تحرك حتى الظهر، فقد يكون هناك تأجيل ليوم أو يومين.
بعد الساعة 12 ظهرًا، بدأت الإدارة بمناداة الأسماء، ودخلوا زنزانة تلو الأخرى ينادون علينا، لم يكن الإفراج مجرد خروج من الأسر، بل كان شعورًا بالفخر والاعتزاز، لأننا خرجنا رغم كل ما تعرضنا له من تعذيب وتنكيل وعزل وإهانات وحملات قمعية شرسة. لم يكن الإنجاز فقط تحررنا نحن، بل الأهم كان الإفراج عن أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، فهم الأولى بالحرية.
قبل الإفراج، تعرضنا للتنكيل والاعتداء، حيث سُحبنا من حجاباتنا ونحن مقيدات اليدين والقدمين، وسط الشتائم والتهديدات بإعادة الاعتقال، ومحاولات كسر معنوياتنا بالقول إننا لم ننتصر. كانت تلك ساعات قاسية مليئة بالإرهاق والاستنزاف، لكن لحظة رؤية الأهل والأحبة جعلتنا ننسى كل الألم.
كيف تصفين لحظة الحرية؟
مهما تحدثت عن لحظة الحرية، فلن أستطيع وصفها بالكلمات، حتى الآن، لم أوثقها بالكامل، لأنها أكبر من أن تُختزل في عبارات.
أن نخرج من “مقبرة الأحياء”، ونرى السماء من جديد دون حواجز أو أسلاك، كان شعورًا لا يوصف،حتى رؤية السيارات ووجوه الناس بعد أشهر من رؤية السجانين والأسيرات فقط، كان علامة من علامات النصر.