نعلم جميعنا أن مشاهير منصات التواصل الاجتماعي أو كما ما يُسمون بـ”المؤثرين الرقميين” باتوا أدوات تسويقية ناجحة، سواء اتفقنا مع ذلك أم اختلفنا، فمن خلالهم تحول كل شيء من حولنا لسلع تسويقية، بما في ذلك الحب والزواج والأمومة وحتى السياسة، فلقد استخدمت العديد من الأنظمة هؤلاء الأشخاص من أجل إيصال رسائل معينة للجمهور العالمي بطريقة غير مباشرة.
ولا يمكننا الحديث عن هذا الموضوع دون أن نذكر السعودية التي اتخذت هذه الأداة كوسيلة لتعزيز صورتها العالمية والترويج لسياسة الانفتاح التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان، لا سيما بعدما انصب غضب العالم عليها بسبب جريمة القتل الفظيعة التي تعرض لها الكاتب الصحفي جمال خاشقجي، في سفارتها بمدينة إسطنبول العام الماضي، محاولةً التهرب من لوم الرأي العام.
ينضم إلى جانبها، نظام الأسد الذي اتبع نفس المنهجية، مركزًا على المدونين الرقميين لتضليل العالم عن الحقيقة التي تجري داخل المدن السورية، ففي هذه الأثناء، يتجول مجموعة من المؤثرين الافتراضيين الأمريكيين في شوارع دمشق كجزء من برنامج رحلة سياحية مولها النظام.
السعودية “الافتراضية”.. بلد الحريات الجديد
استقبلت المملكة العارضة البولندية “أجي لال” على أراضيها خلال الربيع الماضي، وهي مدونة رقمية معروفة بتدوينها عن السياحة والسفر، إذ يمكن ملاحظة كم الصور الهائلة التي تنشرها على حسابها من أجل توثيق رحلاتها وجوالاتها في أنحاء العالم، ولكن المثير للاستغراب أن لال التي تملك علامة تجارية، مختصة في تصميم وإنتاج ملابس البحر، تتعمد الترويج لمنتجاتها بنفسها، ففي غالبية الصور تظهر لال وهي مرتدية ملابس السباحة، وهو الأمر الذي لا يمكن تخيله حتى في السعودية، فما الذي أتى بها إلى أكثر بلدان العالم تشددًا وتحديدًا فيما يخص الملابس؟
زارت لال المملكة، بدعوة من برنامج “جيت واي” السعودي الذي يروج للسياحة في البلاد، برعاية الأمير تركي الفيصل مدير المخابرات السعودية السابق، حيث جاءت فكرة هذا البرنامج على يد “المؤثرة” الهولندية الأسترالية نيكول كويسبل التي زارت البلاد في رحلة عمل خلال السنوات الماضية.
اقترحت كويسبل الفكرة على الأمير تركي، كوسيلة لإظهار جانب آخر من السعودية ونشر الانطباعات الإيجابية تجاهها، ولكن لم يكن ذلك ممكنًا قبل 5 سنوات، حين كانت الشرطة الدينية التي كان يطلق عليها اسم “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” تجوب الشوارع وتلاحق النساء وهي تصيح عليهن بالتستر والاعتدال.
إن جهود البرنامج تظهر أن المملكة تسعى إلى إيجاد طرق بديلة للتأثير من أجل تحسين سمعتها التي انهارت بعد مقتل خاشقجي
ولكن بعدما أصبحت المملكة حريصة على إظهار الجانب اللين، سارعت إلى تنفيذ المشروع، وعلى أساسه استضافت أول وفد عام 2018، وحتى الآن زار السعودية في إطار البرنامج أكثر من 200 شخص، غالبيتهم من طلاب الجامعات والشخصيات المشهورة والمؤثرة في الحيز الافتراضي، وعادةً ما يغطي البرنامج تكاليف الزيارة كاملة، كما يبدو أن المملكة تتساهل مع زوارها، فلقد صورت لال نفسها بملابس أقل حشمة من المعايير التي تفرضها السعودية، وذلك بالجانب إلى صديقها مورجان أوليفر ألين، وهو عاري الصدر، ودون أن تربطهما علاقة زواج شرعية.
جدير بالذكر، أن البرنامج لا يرتبط بشكل مباشر بالحكومة السعودية لكنه يحظى برعاية وتمويل شركات حكومية مثل شركة الاتصالات والخطوط الجوية وغيرها، كما أنه يتماشى مع خطة الحكومة التي تنوي إصدار تأشيرات سياحية، عدا عن ركوبها موجة الانفتاح التي قادها محمد بن سلمان، وتضمنت حفلات غنائية وسباقات رياضية وفعاليات ترفيهية أخرى.
تعليقًا على هذا المشروع، يقول الأمير تركي الفيصل عن ضيوف البرنامج: “ما نقدمه لهؤلاء الشباب هو أن هناك جانبًا آخر من قصة السعودية غير ما يقرأونه ببساطة في الصحافة، لدينا الكثير لنفعله في المملكة للتأثير على آراء الآخرين”. في الجهة المقابلة، يقول بن فريمان من مركز السياسة الدولية بواشنطن، إن جهود البرنامج “تظهر أن السعوديين يتطلعون إلى ما هو أبعد من مجرد الضغط على شركات العلاقات العامة وكسب النفوذ في الغرب”، في إشارة إلى جهود المملكة في إيجاد “طرق بديلة للتأثير” من أجل تحسين سمعتها التي انهارت بعد مقتل خاشقجي.
وفي وقت سابق، أشارت صحيفة “ذا غارديان” البريطانية إلى علاقة المملكة المادية مع شركات العلاقات العامة في بريطانيا، إذ تدفع الأولى للثانية ملايين الجنيهات من أجل تلطيف صورتها والتأثير على وسائل الإعلام، فلطالما كانت سياسات هذه البلاد محط خلاف واستياء بسبب معاملتها للنساء وسجلها في حقوق الإنسان وشنها حرب على اليمن، وغيرها من القضايا التي يصعب صرف النظر عنها.
سوريا الافتراضية.. بلد الأمان والجمال؟
بالنسبة لمعظم المسافرين والسياح، تعتبر سوريا منطقة محظورة ولا يمكن حتى التفكير في زيارتها، لكن وزير السياحة رامي مارتيني، ادعى مؤخرًا أن مليوني سائح زاروا سوريا العام الماضي، مشيرًا إلى جميع التسهيلات والخدمات التي تقدم للوفود السياحية، كما أكد أن “كل ما يشاع عكس ذلك هو غير صحيح”، إلى جانب ذلك، نشرت الوزارة عشرات الفيديوهات والمشاهد السياحية التي تُظهر بأن الحياة الطبيعية عادت إلى مجراها الطبيعي في المدن السورية.
أثارت هذه التطورات موجة من الاستهجان والسخرية معًا، بين رواد وسائل التواصل الاجتماعي الذين رأوا في هذه الحملات الترويجية استخفافًا بدماء السوريين وثورتهم، وإهمالًا لواقع البلاد التي تعاني من الحرب والفقر، وردًا على هذا الهجوم، اكتفت الوزارة بالتنويه قائلةً: “المقاطع الترويجية التي تنتجها الوزارة تهدف لتسليط الضوء على حضارة وجمال البلد وليس لجذب السياح، خاصة في ظل العقوبات المفروضة على الشعب السوري التي أضرت بالقطاع السياحي”.
تركزت جهود الوزارة في إنشاء مشاريع استثمارية في مناطق الجذب السياحي مثل اللاذقية ودمشق والسويداء، كما تعاقدت مع وكالات أجنبية مثل وكالة السفر الفرنسية كليو التي قبلت بالصفقة من أجل “اكتشاف تاريخ سوريا القديم والمتنوع”، مشيرة إلى أن “السياح الفرنسيين يمكنهم التجول بحرية وأمان في سوريا، كما يمكنهم رؤية معالم البلد الثقافية دون أن يلحق بهم أي ضرر”، نافيةً أي أهداف أخرى مثل تحسين صورة النظام السوري ورئيسه بشار الأسد.
وحاليًّا، تتبع شركات السياحة الموالية للنظام نفس خطى السعودية فيما يخص استغلال المؤثرين الرقميين في تجميل صورتها أمام العالم، فلقد نشر الصحفي إدريس أحمد، تغريدة على حسابه الخاص في تويتر، يشير فيها إلى زيارة مجموعة من الأمريكيين لسوريا بدعوة من المنتدى النقابي الدولي الثالث للتضامن مع العمال والشعب السوري بمشاركة عشرات الشخصيات الثقافية والإعلامية والسياسية من الدول العربية والأجنبية في دمشق.
Together with trade union leaders from across the globe. Solidarity with workers everywhere in the world, may we come to know and exercise our power!
The humility, kindness and generosity of the Syrian workers inspire our shared struggle for a just world. pic.twitter.com/pV2WhxPVVK
— US Labor Against the War (@LaborAgainstWar) 10 Eylül 2019
تخلل المنتدى خطابات وتصريحات عن دور الوفود المشاركة في إيصال الحقيقة للعالم وإخبارهم عن “الصمود الكبير الذي نجحت القيادات السورية في تحقيقه” من أجل تأمين حياة مستقرة وآمنة للسوريين، كما نشر المدعوون صورًا لمناطق وأماكن مختلفة في دمشق، إلى جانبها تعليقات إجلال للجيش السوري ومديح بجمال البلاد.
These people are literally trampling over graves. Look at this photo that Rania Khalek has posted, inviting people to admire the view. Saydnaya of course is the site of Assad’s most notorious prison where at least 13,000 civilians were executed during the uprising. pic.twitter.com/HOet2z5Lwx
— Idrees Ahmad (@im_PULSE) 8 Eylül 2019
على سبيل المثال، نشرت واحدة من المدونات الرقميات، اسمها رانيا خالد، صورة كتبت عليها “منظر آخاذ”، ورد عليها أحد الناشطين في تويتر قائلًا: “المنظر الخلاب يبعد بضع خطوات من سجن صيدنايا، حيث تعرض عشرات الآلاف من الأشخاص للتعذيب والإعدام”، وتبعه تعليق آخر يقول: “أنتِ تقفين على قبور السوريين، حرفيًا”، وبين هذا وذاك، توالت التعليقات التي تشير للمدونين إلى فشل مهمتهم في إنكار جرائم الأسد لأن كل مكان يشيرون إليه أو يصورونه هو بلا شك موقع لجرائم النظام المروعة.
وفي تجربة مشابهة، زارت المدونة البولندية إيفا ذو بيج، عدة مدن سورية مثل دمشق وحلب ومعلولة وصيدنايا، بالتنسيق مع واحدة من الشركات السياحية المحلية في البلاد، وصورت فيديوهات طويلة وقصيرة عن رحلتها تخبر بها العالم عن مدى استمتاعها بأجواء البلاد دون أن تعكس الصورة الحقيقية للتحديات والمخاوف التي تمر بها سوريا حاليًّا. تعرضت هذه الرحالة الأجنبية سابقًا للانتقاد بسبب زيارتها لباكستان وعدم “عرضها التجربة الحقيقية” وتحملها مسؤولية تضليل المسافرين الأقل خبرة الذين يعتزمون خوض التجربة نفسها.
بالنهاية، ليس غريبًا ما تخطط له الحكومات من أجل الحفاظ على ماء وجهها المهدور، ولكن المثير للقلق فعلًا هو دور مواقع التواصل الاجتماعي ومشاهيرها في قلب الحقائق وإخفاء جوهرها بصورة وتعليق، بعيدين كل البُعد عن الرواية الأصيلة والصورة الكاملة والصادقة والواقعية لما تعيشه تلك البلاد.